الأديب طاهر زمخشري | «كومة الفحم السوداء» التي قالت أشعاراً ملونة

في بيت من بيوت الفقر والحرمان في مكة، وفي أحضان البؤس والشقاء، وداخل أسوار اليأس نشأ من ستقسو عليه الأيام طويلا، وتجبره على التنقل من مكان إلى آخر، ومن وظيفة إلى أخرى، ومن مجال إلى آخر، ومن صحبة إلى أخرى بحثا عن لقمة عيش متواضعة، وموقع يستطيع من خلاله الارتقاء بذاته والتعبير عن مكنونات نفسه الطموحة.  وبعد تقلبات كثيرة في حياته ورحلة طويلة من العرق والسهر والدموع يبدأ القدر في التبسم له والإفراج عن كربه، ليتحول شيئا فشيئا إلى ركن ركين من اركان الحركة الابداعية الأدبية والشعرية في السعودية، وإسم محفور في تاريخ وطنه كأول مؤسس لمجلة أطفال، وكأول معد ومقدم لبرامج الأطفال عبر الأثير، وكأول مؤسس لفرقة موسيقية خاصة بتقديم الاناشيد الوطنية والموسيقى من الاذاعة السعودية، ناهيك عن تردد إسمه يوميا ككاتب لأجمل ما تغنى به نجوم الغناء والطرب السعودي من أمثال طلال مداح ومحمد عبدو وطارق عبدالحكيم وغازي علي وعبدالمجيد عبدالله وابتسام لطفي.

الشخصية التي عــُرفت في السعودية باسم «بابا طاهر» بسبب إهتمامه قبل غيره من مواطنيه بأدب الطفل، وبرامج الأطفال الإذاعية، هو الشاعر والأديب «طاهر عبدالرحمن زمخشري» المولود في مكة في 1914 والمتوفي في 1987 في تونس التي اختارها وطنا بديلا، والذي يـُعد من ضمن الجيل الأول الذي اهتم بالأدب والشعر والكتابة والإعلام في السعودية عموما وفي الحجاز خصوصا. وليس أدل على هذا من أنه، بتشجيع من الملك فهد بن عبدالعزيز حينما كان يتولى جلالته حقيبة المعارف، قام بتأسيس أول مجلة سعودية ملونة في سبتمبر 1959 وكانت خاصة بالأطفال وتحمل إسم «الروضة»، وهي المجلة التي لم تستمر طويلا وتوقفت عن الصدور في مايو 1960 بعد عددها السابع والعشرين. ومن الأدلة الأخرى أنه ساهم في تأسيس الإذاعة السعودية من مكة المكرمة، ثم عمل بها لاحقا كمذيع ومعد ومراقب، حيث اشتهر حينها باعداد وتقديم أشهر برنامجين إذاعيين في وقت كانت الإذاعة تأسر الألباب وهما: برنامج «بابا طاهر»، وبرنامج «روضة المساء».

روى طاهر زمخشري، أو«زمخشري القرن العشرين» تمييزا له عن الإمام العالم «أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري» الذي عاش ما بين 1074 ـ 1143، الكثير عن جوانب حياته ومسيرته في تسجيل وثائقي من إعداد حفيده «محمد توفيق بلو» فقال أنه لا يتذكر من طفولته سوى أنه ولد في مدخل بيت من بيوت مكة، ونشأ طفلا في ردهات المحكمة الشرعية حيث كان يعمل والده. ويضيف قائلا: «لقد منّ الله عليّ بنعمه فأكملت تعليمي الثانوي، وتخرجت من مدرسة الفلاح، وكنت من الأوائل، ولكني كنتُ فقيرا». وينطلق من هذه النقطة ليخبرنا كيف أن الوظائف لم تكن تأت إلا بالواسطة والوجاهة، وبالتالي فإن «الفقير إبن الفقير لا يجد إليها سبيلا».

إذاً كيف حصل زمخشري على فرصة العمل؟ يقول إنّ الأقدار شاءت أن يكون ذات ليلة في «بيت البنا»، وكان من بين الحضور الوجيه محمد سعيد عبدالمقصود خوجة، فقدموه إلى الأخير وامتدحوه أمامه قائلين «أنني لم أجد وظيفة، بينما الحقيقة، أنني كنت أعمل بوظيفة مؤقتة منذ عدة أشهر تحت مسمّى كاتب في إدارة إحصاء النفوس، والتي تمكَّنت من الحصول عليها بعد نجاحي في مسابقة أُعَّدت لذلك وقد حصلت فيها على المركز الأول».

وسوف نتبين في القادم من الأسطر كيف أن لقاء الصدفة هذا بين خوجة وزمخشري مثـّل منعطفا هاما في حياة الأخير. حيث قربه خوجة وأحاطه بالرعاية ودفع به الى العمل في «المطبعة الأميرية» وكانت تطبع الجريدة الرسمية للدولة وهي جريدة «أم القرى»، فزامل هناك نخبة من شباب الحجاز المثقف من أمثال الشاعر عبدالله عمر بلخير(تولى مسئولية الإذاعة والصحافة في عهد الملك سعود قبل تأسيس وزارة للإعلام) والاساتذة أحمد ملائكة (أحد مؤسسي أول مكتبة تجارية في مكة وهي مكتبة الثقافة) وعبدالله عريف (من كبار المثقفين والكتاب والشعراء والصحفيين المصلحين والمجددين في السعودية) وحسين خزندار (أول رئيس تحرير لجريدة اليوم الصادرة من الدمام) وغيرهم.

في تلك المطبعة حظي زمخشري بمعاملة خاصة من مديرها خوجة إذ عينه في وظيفة كاتب برتبة فراش لأن الكاتب الذي يعين  في هذه الرتبة يتولّى القيام بأكثر من عمل مثل قيد الوارد والصادر، ومهمة مأمور المستودع، ومصحح الجريدة، فيحصل على مبلغ أكبر يصل إلى أربعة جنيهات ذهبية.

يقول زمخشري أنه في هذه المرحلة تحديدا بدأ يشعر بطعم الحياة، كما بدأ يتلمس طريقه إلى المستقبل، مشيرا في هذا الصدد أنه تعلم من رئيسه خوجة الكثير، ولاسيما لجهة الإلتزام والجدية. لكنه كان ناشئا ولا يملك مؤهلات كتابة المقال او القصيدة. وفي هذا السياق يخبرنا أن مدير جريدة أم القرى «رشدي ملحس» (صحافي وباحث فلسطيني في التاريخ والجغرافيا والتراث، استقر في مكة منذ 1926 بدعوة من صديقه السوري يوسف ياسين رئيس الشعبة السياسية في الديوان الملكي السعودي، كلفه الملك المؤسس عبدالعزيز بعدد من المهام في بواكير تأسيس مملكته) ومدير المطبعة محمد سعيد عبدالمقصود خوجة كانا يكلفانه بتبويب البريد والجرائد والمجلات الواردة من الخارج والتي كان عددها يتجاوز المائة والخمسين. ويضيف (بتصرف): «كنت شغوفاً بالقراءة، وبدلاً من القيام بتبويب الجرائد كنت أنهمك في قراءتها».

ولئن كان ما سبق ذكره قد لعب دورا في تمهيد السبيل أمام زمخشري ليغدو أديبا وشاعرا، فإن ما عزز ذلك هو انتقاله من مكة إلى المدينة بناء على طلب من والده كي يكون إلى جوار والدته التي كانت تقيم في المدينة. ففي الأخيرة وجد زمخشري نشاطا فكريا وأدبيا مشهودا تقوده شخصيات من أمثال الأساتذة عبدالقدوس الأنصاري وأحمد ياسين الخياري ومحمد حسين زيدان وغيرهم ممن كانوا يعقدون ندوات اسبوعية بشكل دوري بحضور مجموعات من شباب المدينة، وكانت تدور في هذه الندوات مناقشات وسجالات أدبية، فضلا عن إحتفائها بالأدباء القادمين من جدة ومن خارج المملكة. ومما لا شك فيه أن زمخشري استفاد كثيرا من هذه الأجواء، خصوصا وأن الأنصاري كان يمده بالكتب ويشجعه على المشاركة في المساجلات الأدبية، الأمر الذي جعله ذات مرة يشارك ببيت شعر في مساجلة جرت بحضور الانصاري وضيفه القاص علي أحمد باكثير، بل جعله في خضم المعارك والصراعات الأدبية التي كانت تدور رحاها وقتذاك بين مجموعة المدينة بقيادة عبدالقدوس الانصاري وأتباعه ومجموعة جدة بقيادة الشاعر محمد حسن عواد، ناهيك عن التنافس الأدبي الضاري بين مجموعة الأنصاري ومجموعة محمد حسين زيدان في المدينة.

يصف زمخشري الصراعات المشار إليها بأنها كانت موضوعية في البداية إلى أن أخرجها محمد حسن عواد عن الموضوعية وانحرف بها نحو الهجوم الشخصي على الأنصاري من خلال جريدة «صوت الحجاز»، وهو ما أثار حفيظة جماعة المدينة وجعل أحد أعضائها وهو «عبداللطيف أبو السمح» يكتب في الجريدة ذاتها البيتين التاليين دفاعا عن الأنصاري:
هذه مـوت الحجازِ      هذه صوت المخازي
 كَذَب القائـل عنها      إنها صوت الحجـازِ
في هذه الأثناء كان زمخشري يعمل في دار الأيتام بالمدينة، وكان زملاؤه في العمل يعيرونه قائلين: «ما رأيكم في شخص قدم للعمل بالمدينة؟ في حين يتركها الناس إلى مكة للعمل هناك». هنا قرر الرجل ترك وظيفته والعودة إلى مكة التي كان أول ما فعله فيها بمجرد وصوله هو الذهاب للسلام على خوجة الذي سأله عن أسباب عودته. فلما علم الأخير بالأسباب عرض على زمخشري العمل مجددا في مطبعة أم القرى كمصحح صحفي، فوافق الأخير، وكان ذلك هو المدخل الذي ولج منه إلى الصحافة.

ويبدو أن دخوله إلى هذا المجال لم يكن صعبا وقتذاك لأنه كان قد تمرس في القراءة والمطالعة والمساجلة الأدبية، ناهيك عن أنه كان قد تمكن من كتابة القصة. وللشق الأخير حكاية مفادها أن الشيخ أسعد بخاري قص عليه وعلى مجموعة من الشباب العاشقين للأدب والرواية في المدينة حكاية لطيفة عن أمير مشرد وتاجر معروف وزوجته، ثم طلب من كل واحد أن يعيد كتابة الحكاية بأسلوب قصصي مشوق يشد القاريء، فكان أن كتب زمخشري وحاز على المركز الأول ومعه ثناء واعجاب القاص باكثير الذي شجعه على مواصلة السير في كتابة القصة.

في حقبة العمل الثانية بمكة، عرف زمخشري لأول مرة طعم الثراء وامتلاك المال. ومرة أخرى يكون السبب هو خوجة الذي كلفه بمسئولية توزيع وبيع تقاويم أم القرى على المكتبات والدوائر الرسمية وتحصيل قيمتها وتوريدها إلى خزينة المطبعة. كانت كمية التقاويم التي كلف بتصريفها تتراوح ما بين 7 و10 آلاف نسخة، وقد نجح زمخشري في مهمته لتنتهي بمنحه مكافأة لم يكن يتوقعها، وكانت عبارة عن عشرة بالمائة من قيمة المبالغ التي تم تحصيلها أو خمسين من الجنيهات الذهبية (وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك الزمن).

يقول زمخشري (بتصرف) تعليقا على تلك المرحلة من حياته:»لقد تعلمتُ من خلال عملي في المطبعة ومن مديرها خوجة معنى العناد في سبيل الوصول إلى الغاية»، معترفا بفضل الأخير عليه، ومشيرا إلى أن خوجة أنشأ مدرسة لتعليم صف الأحرف والطباعة، وكان يصرف للعمال مكافآت لرفع مستواهم المعيشي وتحفيزهم على البذل والعطاء، بل إختار نفرا من الشباب وارسلهم الى الخارج على حساب المطبعة لدراسة التجليد والصف والطبع، وكان يعمل بلا كلل من أجل إقامة أكبر مطبعة في العالم العربي على حد قوله. وكان من ثمار جهود الرجل في مجال الطباعة أن ظهر عدد من أبناء مكة المتخصصين في هذا المجال ممن أسسوا مشاريعهم الخاصة المستقلة لاحقا.

وإذا كان زمخشري يعترف بفضل عبدالمقصود وعبدالقدوس الأنصاري عليه، فإنه لا يغفل أفضال شخصيات أخرى في مقدمتهم «عباس قطان». فما حكايته مع هذا الأخير؟
يقول زمخشري أن قطان كان وقتذاك رجل مكة الأول، حيث كان مناطا به كل الشئون الإجتماعية والبلدية للدولة السعودية الوليدة، تماما مثلما كان الشيخ عبدالله السليمان مكلفا بالشئون المالية. ويضيف أنه أثناء عمله سكرتيرا لأمانة العاصمة المقدسة وقع إختيار قطان عليه للذهاب إلى الرياض للعمل كسكرتير لبلديتها لبعض الوقت. ويواصل قائلا(بتصرف): «رجوته أن يعفيني من تلك المهمة، فبين لي أنه اختارني بصفة خبير لتأسيس بلديتي الرياض والخرج».

وهكذا رحل زمخشري لأول مرة إلى الرياض في مهمة اعترف لاحقا بأنها أعطته بعدا أكبر في تفهم معنى الحياة، وسمحت له بالتعرف على أنماط متباينة من الناس وصور مختلفة عن المجتمع، خصوصا وأنه لم يشعر هناك بالوحدة أو الغربة الأدبية  لأن المرحوم عبدالله بلخير المعروف بـ «شيخ السياسة وشيخ الإذاعة» كان يعمل حينذاك في الشعبة السياسية بالقصر الملكي وكان بيته ملتقى عشاق الأدب والشعر، الأمر الذي منح زمخشري مجالا للكثير من الحركة والنشاط الذي وصل صداه إلى قطان في مكة.

عاش زمخشري طويلا داخل أسوار وطنه دونما ارتحال إلى الخارج، بل أن أسفاره اقتصرت لزمن طويل على مدن الحجاز فحسب، وتحديدا جدة التي كان يتردد عليها بصحبة الأديبين «أحمد عبدالغفور العطار» و»عبداللطيف أبوالسمح» في زيارات كانت تستغرق الواحدة منها يومين (يوم للذهاب وآخر للعودة) من اجل هدف وحيد هو إقتناء المجلات والجرائد التي كان بيعها في تلك الفترة يقتصر على محل واحد لصاحبه عبدالرحمن يغمور، أحد أعضاء جمعية الحمير (جمعية أسسها الأخير مع بعض شباب جدة مثل محمود عارف وحمزة شحاتة وغيرهما).

لذا فإن فرحة زمخشري كانت لا توصف حينما أبدى أمين العاصمة المقدسة عباس قطان له رغبته في اصطحابه معه في رحلة كان يعتزم القيام بها إلى القاهرة في 1946  للتداول مع المسئولين المصريين في شئون أوقاف الحرمين. بل أن فرحة الرجل ازدادت حينما علم أن رحلته ستكون مجانية وأن قطان سوف يتولى تقديمه إلى أدباء مصر. والحقيقة أن الشق الأخير كان بمثابة حلم لطالما سعى إليه! كيف لا وهو الذي كان قارئا نهما للصحف والمجلات المصرية ومطلعا على أعمال عمالقة الفكر والأدب في المملكة المصرية.

سافر زمخشري بالفعل الى القاهرة بصحبة الشيخ قطان في زمن كان يشغل فيه منصب وزير الاوقاف المصري دسوقي باشا أباظة المعروف بميوله وشخصيته الادبية البارزة وترؤسه رابطة الأدب الحديث في مصر. لندع زمخشري يروي لنا (بتصرف) الطرفة التي صاحبت ذهابه مع قطان لمقابلة  الباشا في مقره بوزارة الأوقاف: «حملتُ حقيبة الاوراق وأنا سعيد لأني سأكون بمعية الشيخ قطان خلال لقائه بالباشا الوزير الذي كان أكبر شخصية أدبية مصرية. حينما وصلنا إلى بوابة الوزارة سمح الحرس للشيخ قطان بالدخول، لكنهم استوقفوني. حاولت اقناع الضابط المسئول بأني مرافق الشيخ وأحمل كل أوراقه، لكنه لم يقتنع وحاول امتصاص غضبي بكأس من شراب «تمر هندي»، لكني رفضت تناوله احتجاجا» ويضيف: «حينما افتقدني الشيخ، ولم تنفع محاولاته مع المسئولين للعثور عليّ، خرج بنفسه من الوزارة ليبحث عني، فوجدني جالسا أمام مدخل الوزارة، وأخبرته بما حدث، فاصطحبني معه إلى مكتب الوزير الذي طلب من خدمه إحضار العصائر، فأحضروا كأسين فقط للوزير وللشيخ قطان، الأمر الذي أوقع الوزير في حرج». هنا أنقذ زمخشري الموقف بسرعة بديهته راويا  قصة مشابهة حدثت للشاعر محمود سامي البارودي والاستاذ إمام العبد. يقول زمخشري أنه بعدما روى الحكاية «حاول الباشا ترضيتي فدعاني لزيارة رابطة الأدب الحديث، فأجبته أنني مستعد للحضور إذا كان بالامكان الحصول على طبق من العدس، وما قلتُ له ذلك إلا لأني أعلم أن العدس الأباظي من الأطباق المشهورة، فضحك وقال باللهجة المصرية: «إنت واخد بالك من الحكاية».

 لكن ماذا فعل زمخشري في رحلته الاولى الى مصر؟  الحقيقة انه فعل الكثير، فقد كان يهرب من الشيخ عباس قطان وينضم الى عبدالقدوس الانصاري واحمد عبدالغفور العطار اللذين تصادف وجودهما في مصر من أجل التعرف على أعلامها الفكرية. وفي هذه الرحلة تعرف زمخشري على سيد قطب قبل أن يتطرف دينيا ويصبح من رموز الإخوان المسلمين، وتوثقت علاقتهما إلى حد تعرفه على أخيه محمد وأختيه، وسفرهما معا إلى الإسكندرية التي لم يكن قطب زارها من قبل. وحول هذه الواقعة يخبرنا زمخشري أنه أطلع قطب على مخطوطة ديوانه «أحلام الربيع» فأبدى الأخير إعجابه به وشجعه على طباعته، وهو ما دفعه فعلا إلى التفاوض مع إحدى المطابع المصرية لإصدار الديوان مفضلا انفاق كل جنيهاته على هذا الغرض بدلا من انفاقها على معالجة عينه كما كان مخططا.

ويبدو أن خطوة زمخشري هذه كانت من باب الرد على من كانوا يقولون في مكة أنه لا يصلح للشعر إطلاقا، وفي مقدمتهم المرحوم عبدالله عريف الذي سخر منه في مقال قائلا: «أما طاهر زمخشري ففي يده قصيدة يدور بها في ردهات المحكمة بحثا عمن يستمع لها ويدفع له ريالا». لكن نقود الرجل كانت قليلة ولا تفي بكامل تكاليف الطباعة، الأمر الذي جعله يقترض خمسين جنيها من مواطنه إبراهيم شاكر الذي كان متواجدا في القاهرة آنذاك. وهكذا أصبح زمخشري صاحب الديوان الشعري الأول في السعودية، متغلبا على زميله عبدالغفور العطار الذي كان يطمح إلى الشيء عينه.

وزمخشري، الذي شارك بقصيدة في مسابقة شعرية في إذاعة لندن في 1946 ففاز بالجائزة الثانية، حصل على وسام الاستقلال من الدرجة الثالثة من تونس في 1966 ، ووسام الثقافة التونسية في 1974 ، كما كرمته بلاده بمنحه جائزة الدولة التقديرية في 1984 . وبالاضافة الى ديوانه الأول، صدرت له 23 عملا شعريا وأدبيا ما بين  1952 ـ 1977

كتب عنه أحمد العسيري مقالا بعنوان «الماسة السمراء» وصفه فيه بـ «الشاعر خفيف الظل، العاشق الفياض بالحب والرقة والآهة الموجعة، الأب الروحي لكثير من الأدباء والشعراء والفنانين السعوديين». ثم أضاف مستطردا:»كان يبلل مشاعرنا كإكليل من عطر، وساقية تغمرنا كالشموس حين تصعد كالحلم المشتهي .. كان يبوح بأوجاعه وأحزانه ويذيبها غماما ويماما وسوسنات حقول مخضبة بدمه النازف من معاناته فينحني كغصن شجرة عجوز ولكنه لا يسقط ولا يجف ... بكى وأبكى حين أحرق حطام قلبه ليلة رحيل والده:
لم يعد قبره الفسيح ترابا ... بعد أنْ صار في ثراه وذابا
ضم جثمانه فأصبح كنزا ... واستحال التراب تبرا مذابا

ولم يتوقف نزفه الشعري، فما زال جرحه يشع كمنارة تشهق وتفيض بحرائق الرحيل، وظمأ الصبابة، ووحشة العواصف، ومخالب الموت وهي تنهض ذات مساء لتخطف شريكة حياته وأم أطفاله:
قيل ماتت فقلتُ لا بل تأذتْ         من حياة حفيلة بالصعاب
وتجلدتْ وهي دون جلادي         فرماها الردى بظفر وناب
فاستراحت من الشقاء ونامت      فافترسني يا موت تكسب ثوابي

وصفه مواطنه الأديب عبدالله باقازي صاحب كتاب «مظاهر في شعر طاهر زمخشري» الصادر سنة 1988  بأنه «فنان عفوي بسيط منفتح على بهجة الدنيا، يشرع نوافذ الأمل نحو ساحات الحياة الواسعة، ويجعل من الحياة بسمة عريضة من التفاؤل» مشيرا إلى ما كان الرجل يقوله عن نفسه «أنا كومة الفحم السوداء .. تلبس الثياب البيضاء وتقول أشعارا حمراء وصفراء وخضراء».

بقلم : د. عبدالله المدني | صحيفة الايام |  العدد 9532 الجمعة 15 مايو 2015 الموافق 26 رجب 1436