دُرُوسُ الدُّكتور عبد الله المَعْطَانِيِّ في الْجامِعةِ: عَوْدَةُ الوَعْيِ

دُرُوسُ الدُّكتور عبد الله المَعْطَانِيِّ في الْجامِعةِ:

عَوْدَةُ الوَعْيِ

 

حسين محمَّد بافقيه

 

  • ١ -

        قالَ القاضي عِيَاضٌ اليَحْصُبِيُّ السَّبْتِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – في كِتابِ الإلماع لِكَثِيرٍ مِّن مَّسَائِلِ السَّمَاع: "حَدَّثَنا القاضي أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ قالَ: سَمِعْتُ شَيْخَنا أبا مُحَمَّد التَّمِيميَّ الْحَنْبَلِيَّ – رَحِمَهُ اللهُ - يَقُولُ: "يَقْبُحُ بِكُمْ أنْ تَسْتَفِيدُوا بِنَا ثُمَّ تَذْكُرُونا ولا تَتَرَحَّمُوا عَلِيْنا"!

       وكأنَّما كانَ مُقَدَّرًا عَلَيَّ أنْ أَقْرَأَ هذهِ الكَلِمَةَ الشَّريفةَ، فلا تَمُرَّ بِي مُرُورًا سَرِيعًا، دُونَ أنْ تَسْتَوْقِفَنِي، ودُونَ أنْ تُنَبِّهَنِي إلى مِقْدارِ تَقْصِيري في حَقِّ مَن يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيرَ مِنْ أساتذتي وأشياخِي، وسأقولُ لَكُمْ: إنَّني بِتُّ، مُنْذُ سَنَوَاتٍ، مَّشْغُوفًا بترديدِ كَلِمةِ "أشياخِي"، ولن يستعصِيَ عَلَيَّ تَعْلِيلُ ذلكَ؛ وأنا أَرُدُّهُ إلى إكبابي، مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، عَلَى كُتُبِ التَّرَاجِمِ في تُراثِنا، ومُعْجَمَاتِ الأَشْيَاخِ، وكُتُبِ البرامِجِ والفهارِسِ والأثباتِ، ولي مَعَها قِصَصٌ رَوَيْتُ طَرَفًا مِّنْهُنَّ في مَوَاطِنَ أُخَرَ، عَلَى أنَّهُ دَاخَلَني شُعُورٌ بأنَّني قدْ تَغَيَّرْتُ، وأنَّني، عَلَى طُولِ العَهْدِ بالقِرَاءَةِ والتَّعَلُّمِ، بَدَّلْتُ أفكارًا بأُخْرَى، وأنَّني تَطَوَّرْتُ، وصِرْتُ أَرْمُقُ الأشياءَ بِغَيْرِ العَيْنِ الَّتي كُنْتُ أَرْمُقُها بِها.

  • 2

       كأنَّما كانَ مُقَدَّرًا لِّي أنْ أَخْتَلِفَ إلى قِسْمِ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ وآدابِها، بِجامِعةِ المَلِكِ عبدِ العزيزِ بِجُدَّةَ، في زَمَنٍ صَعْبٍ. هُوَ زَمَنٌ صَعْبٌ لِّأنَّهُ كأنَّما كانَ واجِبًا عَلَيَّ أنا الَّذي اختارَ اللُّغةَ العَرَبِيَّةَ وآدابَها اختصاصًا لَّهُ = أنْ أنحازَ إلى هذا الفُسْطَاطِ مِنَ القَوْلِ أوْ ذاكَ، قَبْلَ أنْ تَسْتَبِينَ لِي الأشياءُ، وما كانَ لِلتَّوَسُّطِ مِنْ مَّعْنًى، في حياةٍ أدبيَّةٍ مُّخْتَلِطَةٍ، أراها الْيَوْمَ، فإذا هِيَ مَحْضُ ضَجِيجٍ وزَعِيقٍ وعُلُوِّ صَوْتٍ، بَيْنَ حَدَاثِيٍّ أَنْزَلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَ المُعَلِّمِ والمُرْشِدِ والمُوَجِّهِ، يَنَالُ مِنْ خُصُومِهِ ويُزْرِي بِهِمْ = وتقليدِيٍّ بَوَّأَ نَفْسَهُ الحديثَ بِاسْمِ التُّراثِ والدِّينِ والقِيَمِ، واتَّصَلَ هذا الضَّجيجُ والصَّخَبُ حتَّى بَلَغَ الْجامِعةَ، حيثُ أَدْرُسُ، وقِسْمَ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ، الَّذي كأنَّما كانَ عَلَيْهِ أن يختارَ طُلَّابُهُ واحِدًا مِّنَ الفُسْطَاطَيْنَ؛ خِلَابَةَ أُستاذِنا الدُّكتور عبد الله الغَذَّامِيِّ، وشراسةَ أساتذةٍ آخَرِينَ، وتَوَزَّعَ قَلْبِي، أنا القادِمَ مِنَ التَّعليمِ الثَّانَوِيِّ التِّجارِيِّ، بَيْنَ ناحِيَتَيْنِ مُتَخَالِفَتَيْنِ؛ بَيْنَ تُرَاثٍ عَرَفْتُهُ، بَعْضَ المَعْرِفَةِ، مُذْ كُنْتُ تِلْمِيذًا في المَدْرَسَةِ الابتدائِيَّةِ، و"حَدَاثةٍ" لَوْنُها جميلٌ، ومَذَاقُها حُلْوٌ، نَقْرَأُها في الصَّحيفةِ، ونُلْقِي إليها بأسماعِنا في النَّادِي، فإذا عُدْنا إلى الْجامِعةِ كانَ كُلُّ الَّذي يَعْنِينا أن نُّصَوِّرَ أَنْفُسَنا في هذا الفُسْطَاطِ أوْ ذاكَ. ولَسْتُ أَنْفِي عَن نَّفْسِي أنَّني كُنْتُ أَشَدَّ مَيْلًا إلى فُسْطَاطِ الغذَّاميِّ مِنْ فُسْطَاطِ خُصُومِهِ ومُعاكِسِيهِ، في القِسْمِ الَّذي قُدِّرَ لِي أنْ ألتحِقَ بِهِ في عَصْرِهِ الصَّاخِبِ هذا.

       والْحَقُّ أنَّ دُرُوسَ الغذَّاميِّ الَّتي أَدْرَكْناها، قَبْلَ تَحَوُّلِهِ إلى جامِعةِ المَلِكِ سُعُودٍ بالرِّياضِ = ما كانَتْ لِتَصُدَّنا عنْ تُرَاثٍ عَرَفَهُ أستاذُنا مَعْرِفَةً طَيِّبَةً، وإن لَّمْ تَكُنْ بَعِيدَةَ الغَوْرِ، وأَحْسَبُ، الْيَوْمَ، وأنا أَسْتعِيدُ هذهِ الذِّكرياتِ، أنَّ تَعَلُّقَنا بِدُرُوسِ أُسْتاذِنا الدُّكتور عبد الله الغذَّامِيِّ مَرَدُّهُ الْهَالةُ الَّتي أُحِيطَتْ بِهِ، والشُّهْرَةُ الَّتي بَلَغَها! أَلَا يَكْفِي أن يَكُونَ رَأْسُ الْحداثةِ في بِلادِنا أُستاذًا في قِسْمِ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ وآدابِها، حَيْثُ نَدْرُسُ؟! فإذا عَصَرْتُ ذاكِرَتي، وما كانَتْ بِفَضْلِ اللهِ، جافَّةً، وحَقَّقْتُ دُرُوسَهُ الَّتي أَصْغَيْنا إليها، وهو يُحَدِّثُنا في "الأُسْلُوبِيَّةِ"، و"النُّصُوصِ الأدبيَّةِ" = قَوِيَ عِنْدِي أنَّهُ عَنَانا، مِنَ الغَذَّامِيِّ، النَّجْمُ الشَّهِيرُ في الصَّحيفةِ والنَّادي، لا الأُستاذُ في حُجْرَةِ الدَّرْسِ!

  • 3

       فإذا جُزْتَ مَمَرَّاتِ قِسْمِ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ وآدابِها، في مَبْنَى كُلِّيَّةِ الآدابِ القديمِ، ثُمَّ حَيْثُ تَحَوَّلَتْ في مَبْناها الحديثِ = أَلْفَيْتَ عالَمًا آخَرَ، غَيْرَ الغذَّامِيِّ وخُصُومِهِ في القِسْمِ، وأَدْرَكْتَ أنَّ حَيَاتَنا الثَّقافيَّةَ، في الْجامِعةِ، كانَتْ، بهذا الضَّرْبِ مِنَ التَّقْسِيمِ، ظالِمةً! كانَتْ ظالِمَةً لِّأنَّها اختصَرَتْ حقيقةَ قِسْمٍ عِلْمِيٍّ في عُنْفُوَانِهِ، في خَصْمَيْنِ غَيْرِ مُتَكافِئَيْنِ، وأنَّ ما بَيْنَهُما مِنْ خُصُومةٍ لَيْسَ عَدْلًا أن نُّعِيدَهُ إلى اختلافٍ في العقيدةِ الأدبيَّةِ، أوِ التَّوَجُّهِ النَّقْدِيِّ، وإنَّنا لَنَظْلِمُ الغذَّامِيَّ، حِينَ نُجْلِسُهُ وخُصُومَهُ في القِسْمِ في مَجْلِسٍ واحِدٍ، ونُسَاوِي بَيْنَ هذا وذاكَ!

       وما كانَ قِسْمُ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ وآدابِها مُفَصَّلًا عَلَى مَقَاسَيِ الغَذَّامِيِّ وخُصُومِهِ، عَلَى ما بَيْنَهُما مِنْ تَفَاوُتٍ، وأينَ نَضَعُ أساتِذَةً ذَوِي مَشَارِبَ شَتَّى؟ أينَ نَضَعُ عبدَ الهادي الفضليَّ، وبكري شيخ أمين، ومحمَّد يعقوب التُّرْكِستانيَّ، وعبدَ المُحْسِنَ القحطانِيَّ، وأحمدَ السَّوْمَحِيَّ، وعبدَ الله سالِم المعطانِيَّ، ومِنْ بَعْدُ أينَ نَضَعُ عَلِيّ البَطَل، وعاصِم حمدان عَلِيّ، ومحمَّد يوسُف حَبْلَص وآخَرِينَ، ما دُمْنا اختصَرْنا القِسْمَ في لُمَّةٍ مِّنْ أساتذتِهِ، شاءَ القَدَرُ أن يَكُونُوا الأَعْلَى صَوْتًا، والأَشَدَّ زَعِيقًا؟!

       وأستطيعُ القَوْلَ: إنَّ قِسْمَ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ لَمْ يَعِشْ عَصْرًا ذَهَبِيًّا اجتمَعَ فيهِ كُلُّ أولئكَ الأساتِذةِ الأعلامِ، كما اجتمعُوا في ذلكَ الزَّمانِ الَّذي حُبِّبَ لِي أنْ أَخْتَلِفَ فيهِ إلى دُرُوسِهِمْ، وأغْشَى مُحاضَرَاتِهِم، ثُمَّ إذا بِي، بَعْدَ حِينٍ لَّيْسَ ببعيدٍ، أَضَعُ نَفْسِي شاهِدًا عَلَى ذلكَ العَصْرِ الَّذي عَرَفَ كُلَّ هؤلاءِ، مَهْما كانَ الغَذَّامِيُّ وخُصُومُهُ أَعْلاهُمْ صَوْتًا.

  • 4

       لا أستطيعُ، اليَوْمَ، أنْ أُنْزِلَ كُلَّ الأساتذةِ مَنَازِلَهُمْ الَّتي يستحقُّونَها، وليس مِنَ العَدْلِ أنْ أُقَوِّمَ أُستاذًا كالدُّكتور عبد المحسن القحطانيِّ، وأنا لَمْ أَدْرُسْ عَلَيْهِ إلَّا مادَّةَ العَرُوضِ والقافِيَةِ، ذلكَ المُقَرَّرِ الَّذي يستوي عِنْدي أَتَلَقَّيْتُهُ عَنِ القحطانيِّ أوْ سِوَاهُ، ما دُمْتُ عارِفًا لِّمَضَايِقِهِ، مُسْتَوْعِبًا لِّتفاصِيلِهِ، قَبْلَ أنْ أَختَلِفَ إلى الْجامِعَةِ! ثُمَّ إنَّ أُستاذَنا الدُّكتورَ عبدَ المحسن كأنَّما حالَتِ الوظائِفُ الَّتي تَقَلَّبَ فيها، في الْجامِعةِ = دُونَ أن يَخْلُصَ بِكُلِّيَّتِهِ لِحُجْرَةِ الدَّرْسِ والبحثِ والمُحاضَرَةِ، ولَمَّا حَضَّرَ نَفْسَهُ لِدَرْسٍ يُظْهِرُ مَقَامَ الأستاذِ الْجامِعِيِّ، وكُلِّفَ تدريسَنا كِتابَ الوساطةِ بَيْنَ المُتَنَبِّي وخُصُومِهِ للقاضي عَلِيّ بْنِ عبدِ العزيزِ الْجُرْجانِيِّ = لَمْ يَجْلِسْ في الدَّرْسِ غَيْرَ مُحَاضَرَتَيْنِ، وقَدَّرَ اللهُ لَهُ أن يَلْزَمَ بَيْتَهُ فَصْلًا كامِلًا، لِّحادِثِ سَيْرٍ، فابتعَدَ عنِ الْجامِعةِ والدَّرْسِ والطُّلَّابِ!

 

  • 5

       سأَعُودُ إلى كَلِمةِ أبي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ – رَحِمَهُ اللهُ - وأَتَرَحَّمُ عَلَى أساتذتي الَّذينَ استفدْتُّ مِنْهُمْ عِلْمًا، وأَدَبًا، وخُلُقًا، وسأقُولُ لَكُمْ، وأنا إنَّما أَكْتُبُ عن نَّفْسِي حِينَ أَكْتُبُ عنهُمْ: لا أَعْرِفُ، اليَوْمَ، أيَّ مَصِيرٍ سيُصِيرُنِي اللهُ – تباركَ وتَعَالَى – إليهِ، لَوْ لَمْ أُدْرِكِ الدُّكتورَ عبدَ الله سالِم المعطانِيَّ، لَمَّا التحقْتُ بِقِسْمِ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ وآدابِها، في عَصْرِهِ الذَّهَبِيِّ؟!

       وكأنَّما كانَ مُقَدَّرًا لِي أنْ أُدْرِكَ القِسْمَ في شبابِهِ، وأنْ أُدْرِكَ أُستاذِيَ المعطانيَّ في شبابِهِ! قَبْلَ أنْ تَثْقُلَ خُطَانا ويُصِيبَنا المَلَلُ!

       جِئْتُ إلى قِسْمِ اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ مِنَ الثَّانَوِيَّةِ التِّجارِيَّةِ شابًّا صِلَتُهُ بالقِرَاءَةِ مَتِينةٌ، يَعْرِفُ الشِّعْرَ مَعْرِفَةً حَسَنَةً، ويَمِيلُ إلى الأدبِ والنَّقْدِ والتَّاريخِ، وبِضَاعَتُهُ مِنَ التُّراثِ تُلائِمُ طالِبًا في سِنِّهِ وجِيلِهِ، وإنَّني لَأَذْكُرُ، اليَوْمَ، ذلكَ الشُّعُورَ الَّذي استوْلَى عَلَيَّ، وأنا أَخْطُو خُطُواتِي الأُولَى في قِسْمِ أبي عَمْرو بْنِ العَلَاءِ، والخليلِ بْنِ أحمدَ، وسيبويهِ، والكِسائِيِّ، والْجاحِظِ، والمُبَرِّدِ، وابْنِ مالِكٍ... كأنَّما فُتِحَتْ لِي خِزَانَةُ التُّراثِ العَرَبِيِّ، وقِيلَ لِي: جُلْ في أثنائِها، وارْتَوِ مِنْها كما تشاءُ! كانَ كُلُّ شيءٍ جديدًا طريفًا، وإنْ كانَ عَبِقًا بالقِدَمِ، وكُنْتُ، كُلَّما خَطَوْتُ خُطْوَةً في طريقِ اللُّغةِ وتُرَاثِها، يزدادُ شَغَفِي بهذا القِسْمِ الَّذي اخْتَرْتُهُ، مِنْ بَيْنِ أقسامِ الْجامِعةِ الَّتي تُلائِمُنِي، ويَسَّرَ اللهُ – تباركَ وتعالَى – لِي الطَّريقَ، بِدِراسَتِي عَلَى أولئكَ الأساتِذةِ الأشياخِ، وكانَ الدُّكتور عبد الله سالِم المعطانِيّ أَنْضَرَهُمْ شبابًا!

       وطالَما وَصَفْتُ الدُّكتور عبد الله المعطانِيَّ ودُرُوسَهُ! وإنَّني، عَلَى طُولِ العَهْدِ، لَأَذْكُرُ هيئةَ أستاذِنا الشَّابِّ، وهُوَ يَدْخُلُ إلى حُجْرَةِ الدَّرْسِ في مَبْنَى 73، يُسَاعِدُهُ شَبَابُهُ عَلَى أنْ تَحْمِلَ يَدَاهُ كُتُبًا هِيَ موضوعُ حديثِهِ في الدَّرْسِ، ولا تَسْلْنِي عَنْ سِحْرِ تِلْكَ الكُتُبِ، ولا عَنْ فُضُولِي ولا تَعَجُّلِي؛ لِأَعْرِفَ هذهِ الكُتُبَ: ما تَكُونُ؟ وما إن يَشْرَعُ في دَرْسِهِ، وكانَ النَّقْدُ الأدبيُّ القديمُ، أَوَّلَ دُرُوسِهِ، حَتَّى كأنَّ أُستاذَنا المعطانِيَّ يَرْجِعُ بِطُلَّابِهِ إلى عُهُودٍ أَحَبَّها، وأَحَبَّ أن يُلْقِيَ حُبَّها في نُفُوسِنا، ولَمْ يَكُنْ أُستاذُنا لِيَسُوقَ إلينا ما حَفِظَهُ – وهُوَ أُعْجُوبَةٌ في الحِفْظِ والاستحضارِ – ولَكِنَّهُ كانَ كَمَن يَنْحِتُ في ذاكرَتِي البريئةِ نُقُوشًا وعادِيَّاتٍ لَّا سبيلَ إلى مَحْوِها وطَمْسِها، وحَسْبُهُ أنْ صادَفَ، مِنْ طُلَّابِهِ، قُلُوبًا خالِيَةً، وإنْ كانَتْ خِصْبَةً، فتَمَكَّنَ مِنْها، وتَمَلَّكَها، بِمَعْرِفتِهِ ومَحَبَّتِهِ.

  • 6

       كانَتْ دُرُوسُ أُستاذِنا المعطانِيِّ - وأُتِيحَ لِي مِنْها في الْجامِعةِ: مُقَرَّرُ "النَّقْدِ الأدبيِّ القديمِ"، ومُقَرَّرُ "الأدبِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ الأَوَّلِ"، ومُقَرَّرُ "المَصَادِرِ الأدبيَّةِ واللُّغَوِيَّةِ" = فَوْقَ ما يَرْجُوهُ طالِبٌ جامِعِيٌّ حديثُ العَهْدِ بالْجامِعةِ، والدُّرُوسِ والأساتِذةِ، وطالَما قُلْتُ: إنَّني لَوِ استغْنَيْتُ بِدُرُوسِهِ الْجامِعِيَّةِ، في عامِ 1406هـ = 1986م، وَحْدَها، دُونَ أنْ أُنَمِّيَ قِرَاءَتِي في تُراثِنا = لَكانَ في تِلْكَ الدُّرُوسِ الغَنَاءُ، بَلْ إنَّ في ما أَدَّاهُ إلينا، وهُوَ وافِرٌ كثيرٌ، مَّا جَعَلَ ذلك التُّراثَ سائِغًا حبيبًا قَرِيبًا.

       ولا أَعْرِفُ كَيْفَ اخْتِيرَ الدُّكتور عبد الله سالِم المعطانِي للنُّهُوضِ بِتِلْكَ الدُّرُوسِ: النَّقْدِ الأدبيِّ القديمِ، والأدبِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ الأَوَّلِ، والمَصَادِرِ الأدبيَّةِ واللُّغَوِيَّةِ؟! وأَيًّا يَكُنْ سَبَبُ الاختيارِ، فلقدْ أَحْسَنَ القِسْمُ إذْ عَهِدَ بِها إليهِ! ولن يستهِينَ بهذهِ الدُّرُوسِ إلَّا مَن لَّمْ يَعْرِفْها حَقَّ المَعْرِفَةِ، وحَسْبُهُ أنَّهُ عُهِدَ إليهِ بِمَوَادَّ تُصَوِّرُ رُوحَ ثقافتِنا اللُّغَوِيَّةِ والأدبيَّةِ والنَّقْدِيَّةِ، وأنَّهُ وَصَلَنا – نَحْنُ الطُّلَّابَ – بِمَصَادِرِ الأدبِ واللُّغةِ في تُراثِنا، وأَشْهَدُ، بَعْدَ تِلْكَ السِّنِينَ، أنَّ أُستاذَنا المعطانِيَّ أَدَّى إلينا فَوْقَ ما نَرْجُوهُ! وحَسْبُهُ، لَوْ كانَ مِنَ الأساتِذَةِ المُدَرِّسِينَ، أن لَّا يَبْرَحَ الكِتابَ المُقَرَّرَ في دَرْسِ "النَّقْدِ الأدبيِّ القدِيمِ عِنْدَ العَرَبِ" للأُستاذِ طه أحمد إبراهيم، والكِتابَ المُقَرَّرَ في دَرْسِ "المَصَادِرِ الأدبيَّةِ واللُّغَوِيَّةِ" للدُّكتور عِزِّ الدِّين إسماعيل = فيُرِيحَ ويَسْتَرِيحَ، لَكِنَّ في أُستاذِنا شيئًا تَبَدَّى لِي، وأنا أَتَأَمَّلُ ذلكَ الزَّمَنَ وأساتِذَتَهُ، وبَيْنَما كانَتِ "الْخِلَابةُ" هِيَ كُلَّ ما انتهَى إلينا مِنْ بعضِ الأساتذةِ الَّذينَ أرادُوا أن يَكُونُوا "نُجُومًا" = تَبَدَّى لِي أنَّ عِنْدَ أُستاذِنا القادِمِ مِنْ جامِعةِ إكستر في بريطانيَةَ – الْجامِعةِ الَّتي حازَ مِنْها أُسْتاذُنا الغذَّامِيُّ دَرَجةَ الدُّكتوراه بمخطوطٍ لِّابْنِ شاذانَ في أدبِ الوُزَرَاءِ = رِسالةً تُوْشِكُ أنْ تَكُونَ "قَوْلًا ثقيلًا" لَن يَهْدَأَ لَهُ حالٌ مَّا لَمْ يُؤَدِّها، بِحَقِّها وحَقِيقِتِها، إلى طُلَّابِهِ، وأَحْسَبُ أنَّ تِلْكَ الرِّسالةَ هِيَ: "كَيْفَ نُحْسِنُ قِراءَةَ تُرَاثِنا؟" و"كَيْفَ نُحِبُّهُ؟"، فكانَتْ مُهِمَّةُ أُستاذِنا الدُّكتور عبد الله المعطانِيّ لا تَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ التَّعريفِ والتَّلخيصِ، عَلَى ما يَرْجُوهُ طالِبُ الإجازَةِ الْجامِعِيَّةِ = وإنَّها لَتَبْلُغُ مَرْتَبَةَ وُقُوفِنا بَيْنَ يَدَيِ النُّصُوصِ نَفْسِها؛ نَتَذَوَّقُها، ونُعَايِنُها، ونُوْسِعُها جَسًّا ولَمْسًا، حتَّى يَسْتَقِيمَ لَنا فَهْمٌ لَّهَا، ونَهَجَ في دُرُوسِهِ طَرِيقَةً مُّثْلَى، ما كُنَّا لِنَرَاها عِنْدَ أُستاذٍ آخَرَ إلَّا ما كانَ في دُرُوسِ زَمِيلِهِ أُستاذِنا الدُّكتور محمَّد يعقوب التُّركِستانيِّ، وكأنَّما أرادَ الأُستاذانِ، وكأنَّما أرادَ الدُّكتورُ المعطانِيُّ أن نُّشَارِفَ النُّصُوصَ الأدبيَّةَ والنَّقْدِيَّةَ، وأن نَّقِفَ، مِنْ كَثَبٍ، إِزَاءَ المَصَادِرِ الأدبيَّةِ واللُّغَوِيَّةِ = دُونَ وَسِيطٍ يَصِلُ بَيْنَنا وبَيْنَها؛ فنَصٌّ مِّنِ ابْنِ سلَّامٍ الْجُمَحِيِّ، ونَصٌّ مِّنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وثالِثٌ مِّنِ ابْنِ طباطبا العَلَوِيِّ، ورابِعٌ مِّنَ الآمِدِيِّ، وخامِسٌ وسادِسٌ وسابِعٌ مِّنَ القاضي الْجُرْجانِيِّ، وابْنِ المُعْتَزِّ، والمرزوقيِّ، حتَّى إذا أَتَمَّ دُرُوسَهُ، وآذَنَ الفَصْلُ الْجامِعِيُّ بالرَّحِيلِ، أَصَارَنا أُسْلُوبُهُ السَّهْلُ المُحَبَّبُ أَلْصَقَ، شيئًا مَّا، بالتُّراثِ ومَسَائِلِهِ ومُشْكِلاتِهِ، وغارَ في عُقُولِنا – شِئْنا أَمْ أَبَيْنا – شَيْءٌ كثيرٌ مِّنْ تُراثِنا الأدبيِّ واللُّغَوِيِّ والنَّقْدِيِّ، فإذا تَأَمَّلْتُ الدَّرْسَ، عَرَفْتُ أنَّنا في حَضْرَةِ أُستاذٍ جامِعِيٍّ مَّا كانَتْ دُرُوسُهُ مُحَاضَرَةً يُلْقِيها عَلَيْنا، كَيْفَمَا اتَّفَقَ، لا..! كانَ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أنَّ أُستاذَنا المعطانِيَّ تُكَلِّفُهُ الدُّرُوسُ فَوْقَ ما تَحْتَمِلُهُ الْجامِعةُ والشَّهادةُ والطُّلَّابُ، وأَقْرَبُ الظَّنِّ أنَّ الأُستاذَ الْجامِعِيَّ الشَّابَّ ذَاقَ تُرَاثًا أَحَبَّهُ وهامَ بِهِ، وأرادَ أن يُنْهِيَ إلينا، نَحْنُ الطُّلَّابَ الَّذِينَ تُهِمُّنا الدَّرَجاتُ والشَّهادةُ وإتمامُ فَصْلٍ والشُّرُوعُ في آخَرَ = شيئًا مُّخْتَلِفًا جِدًّا؛ أن يُنْهِيَ إلينا "الأمانةَ" الَّتي احْتَمَلَ ثِقَلَها: مَحَبَّةَ التُّرَاثِ العَرَبِيِّ، وفَهْمَهُ، والانتفاعَ بِهِ، والْحَقُّ أنَّ هذهِ المُهِمَّةَ الْجليلةَ الثَّقيلةَ، اخْتُصَّ بِها لُمَّةٌ مِّنَ الأساتذةِ، ما كانَ لِيَعْنِيَهُمْ أن يُذَكِّرُونا بِها، إلَّا في اللَّمَمِ، كَيْ لا يَخْرُجُوا عنْ دُرُوسِهِمْ، لكنَّني أَحْسَسْتُها بَيِّنَةً واضِحةً في دُرُوسِ أُستاذِنا الدُّكتور عبد الله المعطانيِّ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أساتِذَتِنا، وأَرُدُّ شيئًا مِّنْ ذلكَ إلى أنَّهُ أكثرُ اتِّصالًا بِمَا تَقَلَّبَتْ فيهِ حياتُنا الأدبيَّةُ في المملكةِ، آنَئِذٍ، ولأنَّهُ صديقٌ لِّلدُّكتور عبد الله الغذَّاميِّ، "نَجْمِ" الْحداثةِ الأكبرِ في المملكةِ، وكأنَّهُ خَشِيَ أن يَجْرُفَ طُلَّابَهُ التَّيَّارُ، فنُعْرِضَ عنْ تُرَاثٍ ما كانَ حَقُّهُ أن نُّعْرِضَ عَنْهُ، وأَحْسَبُ، اليَوْمَ، أنَّ دُرُوسَ النَّقْدِ الأدبيِّ القديمِ، خاصَّةً، كأنَّما كانَتْ، في وَجْهٍ مِّنْ وُجُوهِها، قَوْلًا عِلْمِيًّا رَّصِينًا، يُقَابِلُ خِلَابَةَ الغذَّامِيِّ وصَخَبَهُ في الصَّحيفةِ والنَّادي الأدبيِّ، ولَسْتُ أُخْفِي أنَّهُ غَبَرَ عَلَيَّ زَمَانٌ كُانَ يُطْرِبُنِي فيهِ صَخَبُ الغَذَّامِيِّ وخِلَابَتُهُ! أَلَمْ أُحَدِّثْكُم، مِّنْ قَبْلُ، عنْ "خِلَابَةِ" الغَذَّامِيِّ، وما في حَيَاتِنا الأدبيَّةِ مِنْ صَخَبٍ؟!

       وسأُنْزِلُ دُرُوسَ الدُّكتور عبد الله المعطانِيِّ ما تَسْتَحِقُّهُ، وأَقُولُ: إنَّها تَظْهَرُ لِي أَبْعَدَ مِمَّا تُوْحِي بِهِ حُجْرَةُ الدَّرْسِ، والطُّلَّابُ، والْجامِعةُ، والدَّرَجَاتُ، والإجازَةُ الْجامِعِيَّةُ؛ إنَّها عَنَتْ لِي، اليَوْمَ، وقَبْلَ اليَوْمِ: "عَوْدَةَ الوَعْيِ"، وإعادةَ الثِّقَةِ بِتُرَاثِنا وثقافتِنا، حتَّى إذا كَرَّتِ الأيَّامُ، وتَعَاقَبَتِ السِّنُونَ أَدْرَكْتُ أَثَرَ الدُّكتور عبد الله سالِم المعطانيِّ، وأَثَرَ دُرُوسِهِ، في عَقْلِي ووِجْدانِي، وعَرَفْتُ أنَّ ذلكَ الأَثَرَ، بالقِيَاسِ إِلَيَّ، كانَ شيئًا عظيمًا!