العمدة الشيخ عبد القادر جانشاه - رحمه الله -

من زمن لن يعود
ـــــــــــــــــــــــــ
عدنان صعيدي

لا أبالغ إن قلت: إن بعض سكان حارة السليمانية في مكة المكرمة قد شعروا باليتم عند سماعهم صباح يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة عام 1391هـ خبر وفاة الشيخ عبد القادر جانشاه يرحمه الله.

لم يكن الشيخ عبد القادر عمدة للسليمانية وحسب بل كان يتمتع بصفات قل أن تجدها عند كثير من الناس، وهو رجل هادئ بسيط، قلبه كبير، ويسكن بيتاً لا يتميز عن بقية بيوت الحارة، وكان انيقاً في ملبسه بالعمامة والثوب الأبيض والكوت ( الجاكيت أو المعطف ) الأبيض والبقشة الملونة باللونين الأسود والبني المحروق، والحذاء الشرقي ( أبو أصباع او انتن ) .

جل أبناء جبل جانشاه في ذلك الزمان وكانوا أطفالاً يقفون بعد العصر في طريق الشيخ عبد القادر وهو ينزل من بيته ليأخذوا هلالات او قرشاً منه حيث يخرج كيس نقوده الموضع في البقشة أو من البقشة ذاتها ويعطيهم كما عودهم على ذلك، ولم يكن يتضجر او يغضب إذا وقف طفل بجواره مادا يده وهو مشغول بالحديث مع أحد رجال الحارة .

 نعم كان عمدة لحارة السليمانية لكني لم أره يوماً يلعب المزمار، ولم أسمعه بصوت عالٍ يأمر أو ينهي، ولم أره يوماً يجلس في مقهى، فقد كان يتنقل بين دكان العميري عند مسجد الزاوية، ومقر النقيب أمام البازان، ودكان عبد الله اليماني في الخريق بجوار محل عبد الله سندي للمطبق.

يعشق لعب البلوت وخاصة في ليالي رمضان حيث يتم الإتفاق مع جلسائه للجلوس في مقعد أو ديوان من بيوت الحارة للعب البلوت من بعد صلاة التراويح وحتى موعد السحور، وقد استضاف ديوان بيتنا أمام دكان العمير ذات عام تلك السهر طوال رمضان، وكذلك في مقعد البيت الذي كنا نسكنه عند دكة الصلاة، ولم تكن الإستضافة إلا للمكان فقط أما الشاي والشيشة فهم يتكفلون بها (بالباي) ولا يلزمون أهل البيت بالخدمة حيث إن العم عبد الرحمن نعيم هو المسؤول عن إعداد الشاهي والشيشة، ولم يكن الشيخ عبد القادر يشرب الجراك لكنه يدخن الكنت ولا يشتريه إلا من عبد الله اليماني في الخريق.

كان الشيخ عبد القادر عمدة في زمن يعتد به أهل كل حارة بعمدتهم فهو كبيرهم والقاضي لحوائجهم والمنافح عنهم عند اللزوم بوجاهته ومكانته وربما بماله رغم ضيق ذات اليد.

يتمتع الشيخ عبد القادر بصبر كبير جداً، فقد كان يخرج من بيته صباحاً ليذهب إلى الحلقة ليقضي بنفسه لبيته، فإن التقاه أحد رجال الحارة ليحدثه في أمر فإن الشيخ عبد القادر يقف ويستمع ولا يذهب حتى ينتهي الرجل من حديثه، وفي العودة بعد التقضي أيضًا يستوقف بعض أهل الحارة فلا يمل من الوقوف والإستماع بينما من يحمل المقاضي خلفه ينتظر، فإن طال الحديث يرسل الحامل مع من يصادف من أبناء الحارة ليوصل المقاضي إلى البيت.

لم يكن يحمل في جيبه ختم العمودية بل وضعه أمانة عند العم سالم العميري، ومن يطلب الختم فإن الشيخ عبد القادر يرسله إلى العمير ليختم الورقة دون مقابل مادي فقط يقول للعمير : العمد يقول إختم هذه بأمارية ما كان جالس عندك او بأمارية ما اشترى منك كذا، ولم يكن أحد يتجرأ ويكذب على العميري ولم يأخذ منا يوماً عم سالم العمير أي مبلغ مالي مقابل الختم .

بالطبع المواقف كثيرة في حياة العمد لكني شهدت موقفين فقط ظهرت فيها دماثة خلقه، الأول هو أن أخينا خالد بيشي أوجع أحد أبناء البياشة من المعابدة ضرباً بسبب شجار بينهم، فجاء أهل المضروب ليشتكوا على العمدة، فخرج لهم وهو باش هاش، وقال بلزمته المعتادة : الله يسلمكم هذا أبنكم خالد عبد الله جمعان البيشي السلولي، وبالطبع لم نسمع بقية الأمر فكان كل همنا أن نقوم بالتعليق على أخينا خالد بيشي ( ياسلولي ) .

أما الثاني فكان تغاضيه عن أبناء الحارة عند لعبهم الكورة في الجزء الجنوبي من مقبرة المعلاه، وقد أستدعته هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر من مرة، ولكن لم يجدوا استجابة من أهل الحارة، وحيث إن الهيئة أصبح لديها مقر في مواجهة المقبرة عمدت إلى إمساكن بعض الأبناء بواسطة العسكر وتم حجزهم حتى حضور أبائهم، وبالطبع لم يكن أمام العمدة إلا احضار الآباء لكن وقف دون سجنهم والإكتفاء بكتابة التعهد.

بعد وفاة الشيخ عبد القادر جانشاه وآجهت الحار مشكلة إيجاد البديل، فمن يكون عمدة للسليمانية وله نفس صفات الشيخ عبد القادر، وبعد مشاورات أعتقد أنها إستمرت شهوراً، وبعد جهد جهيد تم إقناع الشيخ علي حسن نحاس يرحمه الله ليكون العمدة، وفرح أهل الحارة بذلك فقد كان رجلاً فاضلا، فاحتفى بتلك المناسبة الشيخ عبد الرحمن فقيه به، وأقام وليمة عشاء لكل رجال الحارة في بيته بالعزيزية.

سلمك الله . . أو الله يسلمك هي دائما بداية حديث الشيخ عبد القادر جانشاه الذي لم يكن يملك سيارة، ولا يركب دابة، ولا يصرخ في وجه أبناء حارته، وكان ذلك في زمن لن يعود.