عبدُ الرَّزَّاق حمزة.. الَّذي عاشَ لِيَرْوِيَ

عبدُ الرَّزَّاق حمزة.. الَّذي عاشَ لِيَرْوِيَ

حسين محمَّد بافقيه

كاتِب سُعُوديّ

 

بعضُ الكُتُبِ لا يُسْتَغْنَى عنهُ، مَهْما كانَ بسيطًا يسيرًا.

لَمَّا أَخْرَجَ الأستاذُ عبدُ الرَّزَّاق محمَّد حمزة كِتابَهُ (العَيْش في مَكَّة المُكَرَّمة)، سَنَةَ 1426هـ = 2005م، استوقفَني عُنْوانُهُ، فاقتنيتُهُ، ثُمَّ لَمَّا مَضَيْتُ أقرأُهُ نَعِمْتُ بالفُصُولِ البديعةِ الَّتي تأَلَّفَ مِنْها الكِتابُ، وعَدَدْتُهُ مِنْ خيرِ ما يُقْتَنَى، ويكفيهِ عُنْوانُهُ الحبيبُ القريبُ مَزِيَّةً وسِمَةً، لِّأُحِبَّهُ وأُقْبِلَ عَلَيْهِ؛ فالكاتِبُ مَكِّيٌّ عريقٌ في مَكِّيَّتِهِ، كأنَّكَ لَوْ ظَهَرْتَ عَلَى الفُصُولِ الَّتي وَاظَبَ عَلَى إذاعتِها مُنَجَّمةً في صحيفةِ (عُكاظ) = تَعِيشُ في مكَّةَ المُكَرَّمةِ، كَمَا عاشَ المُؤَلِّفُ، تُلِمُّ بِمَحَلَّاتِها، وتَجُولُ في حارَاتِها، يُلْقِيكَ شارِعٌ إلى زُقَاقٍ، وتُؤدِّي بِكَ عَطْفَةٌ إلى بَرْزَةٍ، أوْ بَرَاحٍ مِّنَ الأرضِ، وأَيْنَمَا تَحْمِلُكَ قَدَماكَ، لَوْ قُدِّرَ لَكَ أنْ تَعِيشَ الحياةَ الَّتي عاشَها الكاتِبُ، أوْ طافَتْ عَيْناكَ في أنحاءِ الكِتابِ = فستتخيَّلُ نَفْسَكَ وأَنْتَ في تلكَ الأمكِنَةِ الَّتي أَدَّاها إليكَ عبدُ الرَّزَّاق حمزة، والأزمِنَةِ الَّتي حَمَلَتْها واعِيَتُهُ، وأَنْهاها إلى قارِئِهِ، كَمَا هي، وكأنَّهُ يَقُصُّ عَلَيْكَ خَبَرًا، عايَنَهُ بالأمسِ القريبِ، فإذا هو يأخُذُكَ إلى عَهْدٍ، تُبْعِدُنا عنهُ، اليومَ، عُقُودٌ ثمانِيَةٌ، ما أَبْعَدَ أَمَدَها!

ويَظْهَرُ لِي أنَّ عبدَ الرَّزَّاق حمزة ما اتَّجَهَتْ نِيَّتُهُ إلى أن يُتْحِفَ قُرَّاءَهُ بالعجيبِ والغريبِ، مِنْ نَّبَإِ أمسِ الَّذي كانَ، بَلْ كأنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ، بِحَرْفِهِ العَذْبِ الْحُلْوِ: أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ اخْتَصَّنِي اللهُ - تَبَارَكَ وتعالَى - بنِعْمَةِ "العَيْشِ في مَكَّةَ المكرَّمةِ"؛ لِيَغْبِطُوهُ عَلَى هذهِ النِّعْمَةِ الَّتي أَتاحَها القَدَرُ لَهُ: أن يَعِيشَ امْرُءٌ في مكَّةَ.

وسأَقُولُ لكَ: إنَّ عبد الرَّزَّاق حمزة الَّذي وُلِدَ في مكَّةَ المُكَرَّمةِ، ونَشَأَ فيها، ودَرَجَ = عاشَ في البَلَدِ الْحَرَامِ مَرَّتينِ؛ عاشَ فيهِ بالمِيلادِ، والنَّشأةِ، والتَّربيةِ، والثَّقافةِ، وعاشَ فيهِ يومَ صارَتِ الذِّكرى وَحْدَها تَشُدُّ الشَّيخَ الَّذي تَكَلَّفَ الكِتابةَ، لا لِيُسْلَكَ في الكِرامِ الكاتِبِينَ، بَلْ لِّيَحْمِلَكَ عَلَى أنْ تَتَلَذَّذَ بِقِرَاءةِ فُصُولِهِ، إنْ لَّمْ يُقَدَّرْ لَكَ العَيْشُ في بَطْحاءِ أُمِّ القُرَى.

وسأعُودُ بكَ إلى كَلِمةٍ مَّرَّتْ بِي، غَيْرَ بَعِيدٍ، وأُرِيدُ الانعطافَ إليها مَرَّةً أُخْرَى، لِأنَّها أَدْخَلُ في شَخْصِيَّةِ مكَّةَ المكرَّمةِ وعبقريَّتِها.

لَعَلَّكَ تَذْكُرُ أنِّي وَصَفْتُ الكاتِبَ الشَّيْخَ بِـ "المَكِّيِّ العريقِ"، فإذا أَقْبَلْتَ عَلَى تاريخِ أُسْرَتِهِ القريبِ لَمْ تَخْفَ عَلَيْكَ أَرُومَتُهُ المِصْرِيَّةُ، فإذا أردْتَّ بَسْطًا في التَّبيينِ والتَّعيينِ، عَرَفْتَ أنَّ صاحِبَ (العَيْشِ في مَكَّةَ المكرَّمةِ) وُلِدَ في مكَّةَ المكرَّمةِ، سنةَ ١٣٥٤هـ = ١٩٣٥م، وأنَّهُ يَعْتَزِي إلى أُسْرَةٍ عِلْمِيَّةٍ، أَبْرَزُ رِجَالِها والِدُهُ العَلَّامةُ السَّلَفيُّ الشَّيخُ محمَّد عبد الرَّزَّاق حمزة، صاحِبُ المُؤلَّفاتِ العِلْمِيَّةِ الْجليلةِ في عُلُومِ الحديثِ، وأشهرُهُنَّ كِتابُهُ (ظُلُمَاتُ أبي رَيَّة)؛ رَدَّ فيهِ تُهَمَ محمود أبي رَيَّة للحديثِ النَّبَوِيِّ الشَّريفِ = وهو معروفٌ مَّذكورٌ، وانْتَهَى إليكَ أنَّ الشَّيخَ محمَّد عبد الرَّزَّاق حمزة عالِمٌ أزهريٌّ، مِنْ كِبارِ العُلماءِ، أَقْدَمَهُ الملِكُ عبدُ العزيز - طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ - مِنْ مِّصْرَ، في جَمَاعَةٍ مِّنْ أَهْلِ العِلْمِ، مِنْهُمْ قريبُهُ الشَّيخُ عبدُ الظَّاهِر أبو السَّمحِ = للإمامةِ في الحرمِ المكِّيِّ الشَّريفِ، وللإقراءِ والتَّدريسِ والتَّحديثِ فيهِ، فَهُما، بهذا المَعْنَى، يَدِينانِ - بَعْدَ الله، تباركَ وتعالَى - للمَلِكِ المُؤَسِّسِ، بشَرَفِ القُدُومِ إلى هذهِ الأرضِ المُبارَكةِ، وكانَ مِنْ ثَمَرَاتِ هذهِ النِّعمةِ أنْ وُلِدَ صاحِبُنا عبد الرَّزَّاق، وابنُ عَمَّتِهِ الكاتِبُ الصَّحفيُّ عبد الله عبد الظَّاهر أبو السَّمْح - عَلَى بُعْدِ ما بَيْنَهُما، رَحِمَ اللهُ الْجميعَ -.

وإنَّهُ لَيَلَذُّ لَنا الظَّفَرُ بِمَزِيَّةٍ اختصَّ بِها اللهُ - تباركَ وتعالَى - مكَّةَ المكرَّمةَ وأُخْتَها المدينةَ النَّبويَّةَ المُنَوَّرةَ، تَجْعَلُ مِنَ الْمُجاوِرِينَ فيها مَكِّيِّينَ ومَدَنِيِّينَ، فجازَ أنْ نَّعْتَدَّ عبدَ الرَّزَّاق حمزة "مَكِّيًّا"، ثُمَّ نَرْقَى دَرَجَةً فنَصِفَهُ بِـ "المَكِّيِّ العريقِ"، وإنَّكَ لَوْ أَحْسَنَ الزَّمانُ إليكَ فجَلَسْتَ إلى المَكِّيِّ العريقِ عبد الرَّزَّاق حمزةَ = لأدركْتَ شيئًا مِّنْ عبقريَّةَ المُدُنِ وشخصيَّتَها، في هيئتِهِ المكِّيَّةِ الخالِصَةِ، وفي لِسانِهِ المَكِّيِّ الْحُلْوِ العَذْبِ، وفي طِيبِ مَجْلِسِهِ، ورُوحِهِ المَكِّيِّ الحبيبِ القريبِ، حتَّى لَيُخَيَّلُ إليكَ، وأنتَ تَرْفَعُ سَمْعَكَ إليهِ، أَنَّكَ إنَّما تَقْرَأُ فصلًا مِّنْ فُصُولِ كِتابِ (الأغاني) لأبي الفَرَجِ الأصبهانيِّ، كُسِرَ بتَمَامِهِ، عَلَى الشَّاعرِ المكِّيِّ عُمَرَ بْنِ أبي ربيعةَ المخزوميّ القُرَشِيّ، وصاحبِهِ عبدِ الله بْنِ أَبِي عَتِيقٍ البَكْرِيِّ التَّيمِيِّ القُرَشيِّ = وتَعْرِفُ مِنْ طَبْعِ أَهْلِ مكَّةَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ.

لَمْ يُرِدْ عبدُ الرَّزَّاق محمَّد حمزة أن يؤرِّخَ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ، فما هو بمُؤَرِّخٍ، ولا أن يُدَوِّنَ في شأْنِ نَفْسِهِ كِتابًا اُصْطُلِحَ عَلَى تسميتِهِ "سِيرةً ذاتِيَّةً"، فما كانَ عبدُ الرَّزَّاق كاتِبًا احترَفَ الكتابةَ، وانْقَطَعَ إليها، ولا بالأديبِ المُنْشِئِ الَّذي يستأنِي قَبْلَ أن يَخُطَّ سَوَادًا في بَيَاضٍ، يُريدُ أن يُسَمَّى، بِمَا أَنْشَأَ، أديبًا، وبِمَا سَطَّرَ أَدَبًا، وكأنَّهُ، يَوْمَ اخْتَصَّ صحيفةَ عُكاظ، بفُصُولِهِ المُنَجَّمَةِ = أرادَ أنْ لَّا يَشْغَلَ القارِئَ بأشياءَ لَهَا أهلُها مِنْ أَهْلِ الصَّنْعةِ والاختصاصِ = فمالَ إلى نَفْسِهِ وقَصَدَها فأجابَتْهُ، وفَكَّرَ مَلِيًّا، فإذا هو مَكِّيُّ المَوْلِدِ والنَّشأةِ والثَّقافةِ، أُتِيحَ لهُ أن يرتقِيَ في التَّعليمِ، فيُصْبِحَ مِنْ أعلامِ التَّربيةِ في البلادِ، فلمَّا أَتَمَّ تعليمَهُ الأوَّلِيَّ والعامَّ، في بَلْدَتِهِ المُباركةِ، بُعِثَ إلى مِصْرَ للاختلافِ إلى الدَّراسةِ الْجامِعيَّةِ، وأَكْرَمَتْهُ الحياةُ فاتَّصَلَ بِصَفْوَةِ العُلماءِ والأُدباءِ والمُفَكِّرينَ في المملكةِ ومِصْرَ، واحتازَ دَرَجةً عِلْمِيَّةً عالِيَةً، في التَّربيةِ، مِنَ الولاياتِ المُتَّحدةِ الأمريكيَّةِ، فلَمَّا آبَ إلى وطنِهِ عَرَفْنا فيهِ المُرَبِّيَ القديرَ، والمُوَظَّفَ الكبيرَ، وكأنَّما قُدِّرَ لعبد الرَّزَّاق أن يَكُونَ الشَّاهِدَ الأمينَ عَلَى زَمَنٍ قديمٍ مَضَى وفاتَ، وزمنٍ آخَرَ جديدٍ، كانَ عبدُ الرَّزَّاق ورِفاقُهُ مِنْ طليعةِ الْجامِعِيِّينَ السُّعُوديِّينَ = كُلُّهُمْ لَهُ سَهْمٌ في تأسيسِهِ وبِنائِهِ، فلَمَّا استذكَرَ فضلَ اللهِ - تبارَكَ وتعالَى – عَلَيْهِ بِـ "العَيْشِ في مَكَّةَ المكرَّمةِ"، رَأْيْناهُ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ، فإذا هي مادَّةُ فُصُولِهِ، وإذا بِزَمَانِهِ القديمِ المُتَفَلِّتِ يَسْتَرِدُّهُ ويَسْتَدْنِيهِ، فأَدَّى إلى قارِئِهِ أشياءَ هِيَ أَدْخَلُ بخاصَّةِ نَفْسِهِ، ومَطْوِيِّ ذِكرياتِهِ، وما يَطْلُبُهُ قُرَّاءُ التَّراجِمِ الشَّخصيَّةِ والسِّيرةِ الذَّاتيَّةِ = والتَّأريخِ "الشَّخصيِّ" للأمكِنةِ ذاتِ التَّعَلُّقِ الشَّديدِ بذاتِهِ، فأدَّى إلى تاريخِ التَّعليمِ والثَّقافةِ وخزائنِ الكُتُبِ في البَلَدِ الْحَرَامِ فُصُولًا تَنْطَوِي عَلَى ما عاشَهُ فتَذَكَّرَهُ فرَوَاهُ.

وكِتابُ (العَيْشِ في مَكَّةَ المكرَّمةِ) ما تَفَلَّتَ مِنْ عُنْوَانِهِ، مَهْما مَضَى بِنا عبدُ الرَّزَّاق في غابَةِ الأزمنةِ والأمكنةِ، وعَلَيْنا أنْ نَّتَذَكَّرَ شيئًا هُوَ كالأصلِ في التَّرجمةِ الشَّخصيَّةِ، نَظْفَرُ بِهِ، مَهْما سَمَّى الكاتِبُ موضوعَ كِتابِهِ "مَقَالاتٍ"، أوْ "ذِكْرياتٍ"، أوْ سَكَتَ عنْ فَيْصَلِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ كلامٍ نَّدْعُوهُ "سِيرةً ذاتِيَّةً"، وآخَرَ نَعْزُوهُ إلى "المَقالَةِ"، أوِ "الدِّراسةِ"، أوْ إلى سِوَاهُما مِنْ مُّتَفَرِّقِ الأنواعِ الأدبيَّةِ، فالكاتِبُ، مَهْما أرادَ، غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، أن يَبُتَّ ما بَيْنَ اليَدِ الَّتي تَكْتُبُ، والنَّفْسِ الَّتي تأْتَمِرُ اليَدُ بأَمْرِها، ويستوِي، في عُرْفِ القِراءةِ، فَصْلٌ دعاهُ صاحِبُهُ "ترجمةً شخصيَّةً"، وفَصْلٌ آخَرُ أَضَافَهُ إلى أَدَبِ "المقالةِ"، ما داما يَصْدُرانِ عنْ نَّفْسٍ واحِدةٍ، والقارئُ وَحْدَهُ صاحِبُ الأمرِ في التَّسْمِيةِ والتَّصنيفِ، وإنْ سَكَتَ الكاتِبُ وعَمَّى.

عَلَى أنَّنا لا نحتاجُ إلى أنْ نَتَكَلَّفَ الْحِجَاجَ والتَّعليلَ، دُونَ عبدِ الرَّزَّاق، لِنَدْعُوَ الكِتابَ "ترجمةً شخصيَّةً"، وحَسْبُنا العُنْوانُ بَيَانًا، وهُوَ لا يُنْكِرُ انتسابَهُ إلى ذلكَ الفَنِّ، ولَوْ أرادَ، فإذا مَضَيْتَ في أثناءِ الكِتابِ لَمْ يَسْتَعْصِ عَلَيْكَ أنْ تَلْقَى مَكَّةَ المكرَّمةَ في فَتَاها، وإنْ كُنْتَ تَقْرَأُ طَرَفًا مِنْ حياتِهِ طالِبًا في معهدِ الدِّراساتِ العَرَبِيَّةِ العاليةِ بالقاهرةِ = ومُوَظَّفًا شاهِدًا عَلَى نشأةِ جامِعةِ الملِكِ سُعُود بالرِّياضِ، ومكتبتِها المركزيَّةِ = وذِكرياتِهِ الحُلْوَةَ العَذْبَةَ عنِ الطَّائفِ المأنُوسِ؛ مَدارِسِهِ، ومَحَلَّاتِهِ، وأسواقِهِ، وعَيْشِ أَهْلِهِ، وإنَّكَ ستَلْقَى في فُصُولِ الكِتابِ كُلِّهِ الأصْلَ الَّذي صَدَرَ عَنْهُ عبدُ الرَّزَّاق محمَّد حمزة، وهو أن يُحَدِّثَكَ عَنْ نِّعْمَةِ (العَيْشِ في مَكَّةَ المكرَّمة).

 

جُدَّة في 6 مِنْ شَهْر رجب سنةَ 1445هـ