الأغوات نذروا أنفسهم لخدمة الحرمين الشريفين
قبل عقود مضت كنا نرى أشخاصاً مميزين بملابسهم وأعمالهم داخل أروقة الحرم المكي الشريف، يقفون داخل صحن المطاف، وببعض أروقته، وآخرين كنا نراهم في المسجد النبوي الشريف ينظفون الحجرة النبوية ويرافقون الإمام أثناء توجهه للمنبر لخطبة يوم الجمعة، مرتدين ثياباً وعمائم بيضاء، وفي وسطهم أحزمة بعضها ملون، يعرفون لدى العامة بالأغوات، وحالياً غابوا عن الأنظار فلم نعد نراهم إلا صوراً في كتب ومجلدات، فمن هم الأغوات، ولماذا أطلق عليهم هذا الاسم، وكيف كانت بدايتهم، وما قصتهم؟
هذه الأسئلة وغيرها حملتها للأستاذ/ أحمد صالح حلبي المستشار المتخصص في خدمات الحج والعمرة، والباحث في تاريخ مكة المكرمة، وبين ما دونته مسبقاً من أسئلة على ورقي، وجدت أن هناك أسئلة أخرى دارت بذهني أثناء اللقاء، فتركت ما تحمله يداي من قلم وورق، وتحولت لمستمع لحديث تاريخي جميل.
مسمى آغا
-
بداية أستاذ أحمد سمعنا مسمى (آغا) فعلى من يطلق؟
-
أوضحت الكثير من المراجع التاريخية واللغوية أن لفظ آغا هو لفظ أعجمي ويستعمل في اللغات التركية والكردية والفارسية، فالأكراد مثلاً يطلقون كلمة "آغا" على الشيخ والوجيه والثري، أما الأتراك فيطلقونه على السيد والتاجر الثري ورئيس الدائرة، ورئيس خدام القصر، وفي الفارسية يطلق مسمى "آغا" على رئيس الأسرة، وانحصرت كلمة "آغا" في مكة المكرمة والمدينة المنورة على مجموعة من الأشخاص "المخصيين" العاملين في خدمة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
-
متى بدأ الأغوات عملهم في المسجد الحرام والمسجد النبوي؟
-
يعتبر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أول من وضع خداماً للكعبة المشرفة من "العبيد"، أما أول من اتخذ "الخصيان" لخدمة الكعبة فهو ابنه يزيد بن معاوية، الذي تولى الخلافة بعد وفاة والده عام 60هـ، وأول من رتب الأغوات في المسجد الحرام هو الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور.
وتختلف بدايات أغوات المسجد الحرام، عن أغوات المسجد النبوي الشريف في تاريخ الظهور، فأغوات المسجد النبوي الشريف جاء ظهورهم في عهد الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب، مؤسس الدولة الأيوبية، وهو أول من عين خصياناً لخدمة المسجد النبوي الشريف.
مهمات شريفة
-
ما المهام والوظائف التي كان الأغوات يقومون بها في الحرمين الشريفين؟
-
هناك العديد من الوظائف التي كان الأغوات يقومون بها سابقاً، سواء بالمسجد الحرام أو المسجد النبوي، وقد حصر بعض المؤرخين تلك المهام فوجدوا أنها تتجاوز الأربعين وظيفة، ولعل أولى هذه الوظائف قيامهم بالفصل بين الرجال والنساء في الحرمين الشريفين، ومنع النساء من الطواف بعد الأذان، وتولي مسؤوليات كنس وتنظيف صحن المطاف، وتقديم سقيا ماء زمزم للملك ورؤساء الدول الإسلامية والوفود الرسمية بعد انتهائهم من الطواف، كما يتولون تنظيف الحجرة النبوية، وفتحها لضيوف الدولة بناء على موافقة صادرة من الدولة، إضافة إلى دورهم في تنظيف وإنارة القناديل.
مقولة غير صحيحة
-
من بين الأقوال المتداولة سابقاً أن أغوات الحرم هم عبيد يتم شراؤهم من قبل الحكام والأثرياء ليكونوا خداماً للحرمين الشريفين، فما مدى صحة هذا؟
-
هذه المقولة غير صحيحة فقد نفاها شيخ أغوات المسجد النبوي الشريف الشيخ سعيد بن آدم بن عمر آغا، في حوار صحفي نشر عام 2011 م، وقال إنه "خلافاً لما كان شائعاً عن الأغوات من أن آباءهم هم من قاموا (بخصيهم) وإرسالهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لخدمة الحرمين الشريفين، فإن الغزو الإيطالي للحبشة عمد إلى «خصي» الأطفال حتى يقطعوا نسلنا".
-
هل هناك شروط لابد من توفرها في الآغا؟
-
نعم للأغوات شروط لابد من توفرها في كل من يرغب الانضمام لهم لتولي وظيفة آغا أهمها أن يكون الشخص (مخصياً)، ويقبل تطبيق النظام عليه، ويقبل شروط الأغوات كاملة، وأن ينام في الحرم سبع سنوات ليل نهار، وأن يؤدي واجبه على أكمل وجه، ويطيع أوامر رؤسائه من الصغير حتى الكبير، وأن تكون صحته جيدة، وألا يكون هزيلاً ولا متأخراً في السن وعاجزاً عن العمل.
ليس شرطاً
-
هل يشترط أن يكون الآغا من الأحباش، أم يمكن أن يكون من غيرهم؟
-
ليس شرطاً أن يكون من الأحباش، فقد ورد في بعض المصادر التاريخية أن هناك آغا من ماليزيا "جاء للحج عن طريق مطوفه، ثم طلب من شيخ الأغوات ضمه لهم فقال له الشيخ جرت العادة بأننا نطلب الشخص من بلده حيث نرفع للمقام السامي ونأخذ موافقته إذا توفرت فيه الشروط ثم ينضم إلى خدمة الحرم المكي أو المدني مع منحه الجنسية السعودية، وقال له شيخ الأغوات تقدم بنفسك للمقام السامي وبالفعل تقدم هذا الآغا الماليزي فجاءت الموافقة له حيث كتب المقام السامي للشيخ لا مانع من إدخاله لخدمة الحرم المكي إذا انطبقت عليه شروطكم وانطبقت عليه الشروط ودخل، إلا أن الأمر السامي لم يتضمن منحه الجنسية فبقي في العمل ست سنوات ثم طلب إعفاءه من الخدمة وعندما سألناه عن سبب ذلك قال إن جميع الأغوات في الحرم أحباش، وأنا الوحيد الماليزي بينهم ولا أعرف ماذا يقولون فقلنا له خذ إجازة واذهب لبلدك وأحضر ناساً آخرين من جنسيتك تنطبق عليه الشروط لكنه أصر على طلبه بالإعفاء وتم إعفاؤه وسافر إلى ماليزيا".
ألوان الملابس
-
قبل السؤال عن نظام الأغوات، أسأل عن اختلاف ألوان ملابسهم، فهل لهذا الاختلاف سبب؟
-
من عاصر الأغوات يلحظ أن لهم ملابس خاصة ويتميزون بها عن غيرهم داخل وخارج الحرمين الشريفين، ولهذه الملابس درجات تميز بعضهم عن الآخر، فمن كان منهم في درجة الخبزية وما فوقها يضع الشال - حزام من صوف - على كتفه، ومن كان دون درجة الخبزية فإنه يربطه في وسطه، وللأغوات مراتب أعلاها مرتبة شيخ الأغوات.
حرص الملك عبد العزيز
-
كيف تعامل الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - مع الأغوات؟
-
حرص الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - على إبقاء الأغوات ومنحهم كافة حقوقهم، تقديراً لدورهم في خدمة الحرمين الشريفين، أشارت المادة (42) إلى "أن رئيس الأغوات وجماعته أمة مستقلة في نظامهم الداخلي وأن هذا الاستقلال الإداري ممنوح لهم بتقرير الملك عبد العزيز، المعطى لهم والمنصوص عليه في المادة (40)"، وبعد وفاة الملك عبد العزيز أيد الملك سعود - رحمه الله - تقرير والده المؤسس في تقرير ملكي صادر من ديوانه الملكي بعدد 35 في 4 /3 / 1374 هـ و هذا نصه "إننا نقر أغوات الحرم المكي أن يبقوا على الترتيب والعادة التي يسيرون عليها في أمورهم الخاصة وألا يتعرض لهم في هذه الأمور أو يتدخل في هذه الشؤون أحد"، ثم صدر قرار من مجلس الوزراء رقم 925 وتاريخ 21 /9 / 1391هـ أن "يبقى الأغوات على عاداتهم وتقاليدهم وما هم عليه".
-
هل للأغوات موقع خاص يجتمعون فيه داخل الحرمين الشريفين؟ وهل لازال موجوداً حتى الآن؟
-
في المسجد النبوي الشريف هناك موقع يعرف بالصُّفّة أو كما يقال بالعامية دكة الأغوات، وهو في الركن الشمالي الشرقي من المسجد النبوي، وهو الموقع الذي "أمر به النبي محمد ﷺ فظُلل بجريد النخل، وأُطلق عليه اسم "الصفة" أو "الظلة". وقد أُعدت الصفة لنـزول الغرباء العزاب من المهاجرين والوافدين الذين لا مأوى لهم ولا أهل فكان يقل عددهم حيناً، ويكثر أحياناً، وكان النبي ﷺ كثيراً ما يجالسهم، ويأنس بهم، ويناديهم إلى طعامه، ويشركهم في شرابه؛ فكانوا معدودين في عياله"،
وكانت دكة الأغوات ملتقى للأغوات في بداية أعمالهم بالمسجد النبوي الشريف.
-
ما مصادر دخل أغوات الحرمين الشريفين، هل هي من مرتبات يتقاضونها من الدولة، أم صدقات وهبات أو أوقاف؟
-
قبل عدة سنوات التقيت بناظر وقف الأغوات ـ السابق ـ بمكة المكرمة الأستاذ / سالم يمني ـ يرحمه الله ـ، وأوضح لي أن هناك مرتبات يتقاضاها الأغوات من الدولة، وأكد هذا القول في حديثه لمجلة اليمامة إذ قال: "إنهم على المرتبة الثالثة والثلاثين تقريباً والراتب يكون حسب المرتبة وأقل راتب يستلمونه هو ثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعين ريالاً وأكثر راتب يستلمونه هو أربعة آلاف وسبعمائة ريال شهرياً ناهيك عن دخل الوقف".
الأوقاف
-
في إجابة الناظر وردت كلمة (وقف) فهل للأغوات أوقاف؟
-
نعم للأغوات العديد من الأوقاف ليس في مكة المكرمة والمدينة المنورة وحدهما، فهناك أوقاف في عدد من مدن المملكة وبعض الدول العربية، فإضافة لأوقاف مكة المكرمة، فإن لأغوات الحرم المكي الشريف أوقاف في الطائف وجدة والأحساء، وأوقاف في العراق والمغرب واليمن.
وتختلف أوقاف أغوات المسجد الحرام عن أوقاف أغوات المسجد النبوي، فلكل منهما أوقافه الخاصة يديرونها ويجنون عوائدها.
تبقى واحد
-
الحديث عن الأغوات وغيابهم عن الأنظار خلال الفترة الحالية يأخذنا للسؤال عما إذا كانوا موجودين أم انقرضوا؟
-
أغوات المسجد الحرام انقرضوا جميعاً، ولم يبق منهم أحد، أما أغوات المسجد النبوي الشريف فلازال هناك آغا واحد على قيد الحياة.
-
هل قامت أي جهة رسمية بإعداد دراسة تاريخية عن الأغوات؟
-
هناك دراسة أجراها معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة والزيارة، لأغوات المسجد الحرام، وقبل فترة أبلغني الدكتور/ فواز الدهاس، مدير مركز تاريخ مكة، التابع لدارة الملك عبدالعزيز، أن المركز قد كلف أحد الباحثين لإعداد بحث يتناول تاريخ "الأغوات".
أما فيما يتعلق بالكتب فهناك كتاب "أغوات الحرمين الشريفين"، وهو دراسة تاريخية مقارنة، للدكتور أحمد عبدالرحيم نصر، صدر عن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
المصدر : جريدة الرياض | الأربعاء 29 رجب 1443هـ
0 تعليقات