في وداع فقيد العلم والخلق.. أ.د هشام عجيمي

"حياك الله أستاذ خالد"

بهذه الجملة وبنبرته المكية الأبوية الهادئة كان أ.د هشام يستهل مهللاً كل مكالمة بيني وبينه، وكأني أرى ابتسامته من خلف الهاتف، وأظنه كان يعني أن يُرسلها، وكان هذا الاستهلال يدهشني في كل مرة لأني كنت أرى نفسي في عداد طلابه، أو طلاب طلابه، لكنه لم يتوانى عن مناداتي (أستاذ) مع أني في عمر أبنائه..
 
مازلت أذكر أول مكالمة دارت بيني وبينه والتي كانت بعدما طلبت رقمه عبر رسائل تطبيق (تويتر) صُغتها بعناية كرسالة رسمية موجه لقامة علمية رفيعة، لكنه رد بالرقم فقط و دون أي تعليق، فخشيت أن يكون في طبعه جمود أو ترفع عن محادثة الأغراب، ومع ذلك تجرأت واتصلت وبعد المقدمات والتعريف طلبته في خجل أن أزوره، فأجاب بالترحاب، فسألته عن الوقت المناسب، فأجاب "أنا رجل متقاعد ومتفرغ" فقلت وددت ألا أشغلك عن أي شيء، فضحك وأستغرق في ضحكته الهادئة التي تفيض أدباً " يا أستاذ خالد أنا أبسط من ذلك بكثير فقط كلمني قبل خروجك من بيتك وسأكون في انتظارك"،
 
وقد صَدَق فلما رأيته كان أكثر تواضعاً وكرماً مما ظننت وما كانت حفاوة رده على الهاتف إلا قبساً من الحفاوة التي كان يضفيها عليّ إذا زرته، لم يبخل بمعلومة، ولم يتجاهل استفساراً، بل كان يعامل أسئلتي كأنها قضاياه الكبيرة والمهمة، فيشغله تساؤلي ويقضي ساعات بعد خروجي من عنده يبحث ويفكر في الجواب، ثم يبادر بالاتصال ويبشرني أنه وجد الجواب وقد يضيف إلى ما استشكلت عنه استشكالات أخرى فيأتيني بالإجابات على طبق من فضة كما يقال، وقد كان يكرر عليّ من وقت لآخر في سياق حواراتنا الأحاديث النبوية في التحذير من كتم العلم، وقد كان خير أنموذج لاتباع تلك الوصايا النبوية.
 
لم أعرف أ.د هشام عجيمي زمناً طويلاً، فكل المدة التي عرفته فيها كانت آخر سنتين من حياته، ولكنها كانت أقرب إلى الملازمة ألتقيه فيها كلما سنحت الفرصة أو أتواصل معه هاتفياً إذا صعُب اللقاء -وياليتها طالت-
 
حتى صار يكرمني إذا تغيبت عنه بالسؤال عن حالي وعن سبب انشغالي عنه، وحتى لا يُشعرني بالحرج كان يعبر عن ذلك بكلمة واحدة "وحشتنا" يتبعها بضحكة حانية غير مسموعة لكنها محسوسة، وإذا استفزه موضوع مما يُنشر في مجال تخصصه واهتمامه عبر الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي اتصل بي وناقشني في الموضوع ليخبرني برأيه ومراجعه في ذلك فلما يمتد الحوار الذي قد يتجاوز الساعة يعتذر بقوله "سامحني طولت عليك تعرف احنا المتاقعدين فاضيين" فأقول بالعكس لقد أكرمتني بكل دقيقة منحتني إياها، وأنا صادق فيما أقول،
 
وخلال معرفتي به عرفته رجلاً هادئاً وقوراً متبسطاً لا يغضبه ولا يستفزه إلا أحد أمرين: 
الأول: التعدي أو إساءة الأدب في حق جناب النبي ﷺ مهما كان التعدي صغيراً أو غير مرئي بعيون العامة.
الثاني: التجني على العلم ومبادئه بأي شكل كان.
 
وكنت أتذكر قول الشاعر:
 (إن الكريم الذي لا مال في يده ... 
مثل الشجاع الذي في كفه شلل)، إذا أكثرت من سؤاله فيقول: "ليتني عرفتك قبل أن أتبرع بمكتبتي"،وكأنه كان يتمنى أن يمتلك كل مكتبات الدنيا ليتبرع بها جميعاً حباً في نشر العلم، 
 
نعم لقد تبرع أ.د هشام عجيمي بكل مكتبته، وحتى نتاج جهوده العلمية التي عمل عليها حتى آخر يوم في حياته جعلها جميعاً وقفاً لله تعالى، وحتى يضمن استمرار هذا العمل الصالح استصدر صكاً شرعياً لوقفية الموقع الذي يحوي الوثائق والأبحاث التي ينشرها.
 
والآن بتّ لا أنسى لحظة وقوفي على قبره، وقد انعقدت الحروف في فمي وعجزت عن وداعه، توجهت نحو القبلة ولم يجر على لساني سوى دعوة واحدة (اللهم إني أشهدك أن الدكتور هشام عجيمي كان يحب نبيك اللهم فبحبه لنبيك ارزقه مرافقته في الجنة) 

خالد بن هشام العباسي