المجالس والمنتديات الثقافية المكية في الجيل الماضي
النادي والمنتدى والندوة والنَّدِيُّ -على وزن فعيل بكسر الدال وتشديد الياء- في العربية: مجلس القوم ومتحدَّثهم، وندا القوم ندوًا وانتدوا وتنادوا: أي اجتمعوا، والندوة الجماعة، وناديته: جالسته في النادي، والندِيُّ: مجلس القوم ما داموا مجتمعين فيه. ويقال: ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في النادي، وبه سميت (دار الندوة) التي بناها قصي سيد قريش وجد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لاجتماعاتهم فيها.
وهكذا فقد عرف المجتمع المكي النادي أو الندوة منذ بكور التاريخ المكي على هيئة المجلس وملتقى القوم أو تجمعهم للتحادث أو التشاور أو تبادل الرأي أو المسامرة والمثاقفة. ولعل مسمى (دار الندوة) يومئ بالدلالة إلى وعي فكري متقدم -في زمانه- لمجلس الشورى، ومجمع ومنتدى النخبة، وندوة أهل الرأي والفكر والمعرفة. وكانت ملتقيات أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز ومنابرها الشعرية وبخاصة في عكاظ مشهورة.
وفي أوقات تالية -عبر مراحل التاريخ الثقافي المكي- أخذت تنفسح دلالة المصطلح ومفهومه، وتنشأ مرادفات مثل: المجالس والحِلق العلمية والدينية واللغوية والأدبية والفكرية، واحتضن المسجد الحرام الدور المعرفي العلمي والثقافي امتدادًا في فصول الزمن المكي لعاصمة الثقافة الإسلامية الخالدة، منذ إشعاع منار الرسالة واستهلال حلقة أو ندوة حبر الأمة عبد الله بن العباس رضي الله عنهما (ت 68هـ)، ولقد شاركت دور العلماء والرُّبُط (الأربطة) والمدارس والمساجد وقصور الحكام والأمراء والأعيان في انتداء الصفوة من العلماء والمفكرين وطلبة العلم وأهل الثقافة والمعارف، فظهرت وتعددت الأسر العلمية منذ القرن الخامس الهجري، وانجلى للمرأة دور معرفي مشارك في الحركة العلمية والثقافية، على نحو يوالي أدوار الصحابيات والتابعيات في العهد الإسلامي الأول، فانبلجت أصباح وجوه النساء العالمات الحافظات والفقيهات والمحدثات المسندات والأديبات والشاعرات، وتهيأ للكثيرات منهن أن يشرعن بوادر منح (الإجازات) للرجال من أئمة العلم وأعلامه. وقد احتضنت ذكرهن وسيرهن كتب التاريخ والتراجم، مثل موسوعة مؤرخ مكة الأكبر التقي الفاسي (العقد الثمين)، ومؤلفات الفهود (بني فهد الهاشمي)، والطبريين (الطبور)، وبني ظهيرة القرشي، وسواهم: كالشلِّي، والسنجاري، والعجيمي، وخوج، والقطان، والحضراوي، والمرداد، وعبد الستار الدهلوي، والغازي.. وغيرهم، فعرفنا الكثيرات الجليلات من الطبريات، والفاسيات، والنويريات، والظهيريات، والفهديات، والقسطلانيات، والمرشديات، وسواهن إلى العهود المتأخرة.
المجالس والندوات العلمية والثقافية
في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين أخذت نوافذ الحركة العلمية والثقافية تنفرج اتساعاً وجلاءً، وتمتد قنوات اتصال أم القرى بنظائرها من مراكز العلم والثقافة في الآفاق، وتتوافر لها روافد الطباعة والصحافة والمكتبات ثم الإذاعة، ما أشاع الاستجابة إلى بوادر الملتقيات المعرفية في صور متطورة من المجالس والمنتديات أو الندوات العلمية والفكرية والأدبية، في دور العلماء والأدباء وأعيان المثقفين، وفي الأربطة، وفي مناسبات واحتفالات المدارس، وفي المكتبات ودكاكين الكتبية أو الوراقين، وفي مكاتب الصحف والمطابع والإذاعة والطوافة (مطوفي الحجاج) في مواسم الحج، وفي ملتقيات أو مراكيز ومنتزهات أهل الفكر والأدب والثقافة ومسامراتهم في المقاهي والمرابع ومقار الأندية الرياضية.
وهكذا شاع ظهور الأندية أو المنتديات الأدبية والثقافية في مدينتي الحرمين الشريفين: مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم جدة والطائف وغيرها بمبادرات أفراد وجماعات الصفوة من العلماء والأدباء والمثقفين، فكانت ملتقى لمطارحة الرأي والفكر ومعطيات الثقافة ونتاج الإبداع الأدبي: شعرًا ونثرًا ومقالة وقصة وخطابة ونقدًا أدبيًّا. وكانت نماذج الإبداع الأدبي تنشد وتلقى وتقدم وتستعرض في الندوة أو المجلس أو المسامرة، فتظفر بالترحيب أو التشجيع وبالنظر والحوار والمناقشة وتعاطي الرأي والنقد مما كان يحمل على دعم وتوجيه مواصلة الإبداع والإنتاج وموالاة تطويره ونشره وذيوعه.
والواقع أن الروافد والوسائل الثقافية العديدة السابقة قد تكاتفت في توجيه أدوار الإعلام والاتصال الأدبي والثقافي، فقد سبقت وواكبت قناةَ الصحافة ثم الإذاعةِ مجالسُ ومنتدياتُ العلماء والمثقفين كمجالس القرآن والحديث الشريف، والمجالس والندوات العلمية والدينية والأدبية الدورية والرمضانية والمصيفية الطائفية التي كانت تعقد وتضاء في دور العلماء والأعيان والمثقفين، وفي الأربطة والمدارس الدينية القديمة حول المسجد الحرام.
يذكر المربي والعالم الأديب ورجل الدولة السيد صالح بن بكري شطا (نائب رئيس مجلس الشورى وأول مدير للمعارف في العهد السعودي) -لدى استضافته في ندوة عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل العتيدة التي عنونت (بندوة المنهل تجديد لمجالس العلماء والأدباء في مطلع هذا القرن/ عام 1367هـ)- وتناولها بالعرض محمد عبد الرحمن الشامخ في كتابه (التعليم في مكة والمدينة آخر العهد العثماني): أنه اصطلحت العادة على أن تكون أيام وليالي الثلاثاء والجمعة لدى علماء ومدرسي المسجد الحرام عطلة أسبوعية يفرغون فيها لاقتناص السمر وعقد المجالس والأندية العلمية والأدبية في دورهم.
ويشير إلى أن أبرز وأحفل تلك الأندية بالسمر العلمي والأدبي: دار السيد عبد الله بن صدقة دحلان، ودارهم، وأنهم كانوا ينظمون عقد اجتماعهم فيها لمطارحة البحوث العلمية، والنقل الأدبية، والبحوث الطريفة، والطرائف الشعرية. ويذكر أنهم لم يكونوا يقتصرون على إقامة مجالسهم في أنديتهم ودورهم، بل كانوا يستروحون بالرحلة إلى ضواحي مكة، فيحيون تلك المجالس فيها بالعلم والأدب. ويواصل السيد صالح ذكر شواهد من نماذج هذه المجالس والمنتديات، فيشير إلى أن من هذه المجالس التي كانت تزخر بالعلماء والأدباء مجلس: عالم المدينة وأديبها وشاعرها (وصاحب منتدى الأبارية) الشيخ عبدالجليل برادة (عندما أقام بمكة فترة)، ومجلس الشيخ صالح كمال، ومجلس أبيه السيد بكري شطا، ومجلس أخيه السيد أحمد شطا، ومجلس السيد حسين الحبشي، ومجلس الشيخ محمد سعيد بابصيل، ومجلس الشيخ محمد حسين الخياط (رائد التعليم المدرسي الوطني في مكة)، ومجلس الشيخ شعيب (الدكالي المغربي)، ومجلس الشيخ عابد بن حسين المالكي (مفتي المالكية)، ومجلس الشيخ محمد علي بن حسين المالكي، ومجلس الشيخ أحمد بن عبداللطيف خطيب، ومجلس الشيخ صالح بافضل، ومجلس الشيخ محمد بن سليمان حسب الله، ومجلس السيد علوي السقاف، ومجلس السيد عبدالله بن محمد صالح الزواوي، ومجلس الشيخ أحمد أبو الخيور، ومجلس السيد عباس المالكي (والد السيد علوي المالكي).
ومن المحقق أن ثمة الكثير من المجالس المماثلة لأسلاف هؤلاء - في التاريخ المكي - كما أن ثمة العديد من مجالس معاصريهم ثم أبنائهم في الجيل الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن جميع أو أغلب البيوت العلمية المكية كانت تعقد ما يماثل المجالس والمنتديات المذكورة، وربما تستتم الإشادة بذكر أمثال بيوت هذه الأسر العلمية، مثل: بيت العجيمي، والمرداد، وعبدالشكور وزين العابدين وبيت المال، وسنبل، والشيبي، والمفتي، والدهان، والفتني، وابن صديق، والبار، والعطاس، والباروم، والفدعق، والجفري، والمحضار، والكتبي، وسراج، وخوقير، والمشاط، والقاري، واللبني، وجمل الليل، وعقيل، واليماني، وسجيني، والمرزوقي، والفودة، والنوري، والغزاوي، والعيدروس، وبافقيه، وشمس، وفقيه، والميرغني، وعرب، والريس، والحضراوي، والدباغ، والكردي.. وسواهم.
ولقد كان كثير من علماء وفقهاء الجيل الماضي وأسلافهم أدباء وشعراء لأجواء صلتهم الموطدة -تأسيسًا- بالعربية وعلومها وفنونها، ويكاد يكون معظمهم قد تمرسوا على النظم التعليمي والأدبي، فأسفر لذوي الحس الأدبي والموهبة المتوهجة أفق الإبداع في الشعر والكتابة. ويوشك ألا تكون أسرة علمية إلا ونبغ فيها أدباء وشعراء. ومن هذه الأسر: آل عبدالشكورالذي تفرع عنه بيت زين العابدين وبيت المال، ومن أعلام أدبائهم الشاعر عبدالله بن محمد عبد الشكور (ت 1257هـ) وابنه علي الشاعر الألمعي (ت 1260هـ)، وحفيده زين العابدين- جد فرع آل زين العابدين المكيين (ت 1287هـ). ومن الفرع الثاني نبغ الأديب الشاعر أحمد بن أمين بيت المال (ت 1323هـ)- وله نظم حسن، ونظم متنًا في علم العربية غزلاً ضمنه مدح أمير مكة الشريف عبدالله باشا، وله قصائد غرر، على حد قول صاحب (نشر النور والزهر) وصاحب (نزهة الفكر) الذي أورد له شعرًا جميلاً، وهو صاحب منتدى أدبي كان يعقده في (مَربَعة) له بأجياد.
ولعلي بن عبد الله آل عبدالشكور -المذكور قبل قليل- عناقيد شعر يومئ إلى موهبة شعرية وحس شاعري، وله ولأبيه وابنه وشعراء أسرتهم مشاركات ومساجلات شعرية مكية. ومن إلماحات براعته في موالاة نسق (التشطير):
(نظرت بني الدنيا فلم أرَ منهمو)
أخاً صادقاً في وده وخطابهِ
وجربت أبناء الزمان فلم أجد
(سوى ظالم والظلم ملء إهابه)
(فجردت من كنز القناعة صارماً)
يبيد، وما أبديته من قرابه
صرمت به الأطماع عني لأنني
(قطعت رجائي منهمو بذبابه)
(غنيٌّ بلا مال عن الناس كلهم)
وعز الفتى للنفس خير اكتسابه
وحرص الفتى فقر، وإن كان مثريا
(وليس الغِنَى إلا عن الشيء لا بهِ)
ومن شعراء الأسر العلمية عبدالله بن عبدالرحمن سراج (ت 1263هـ)، وهو من أسلاف (آل سِراج) -بكسر السين- وقد نصب شيخاً ورئيساً للعلماء (1233هـ)، ومن شعره هذا البوح البديع الرشيق:
زار الحبيب، فيا له من زائرِ
رشأ أرق من النسيم السائر
لله من ملك له قلبي حِمى
خشي الحرام على حماه العامر
يختال تيها في قميص دلاله
ويميس لينا بين غصن ناضر
شرفت به داري، وزان مزارها
وعلت على هام السماك الباهر
قد كان لي عند الزمان وديعة
سمح الزمان بها بفضل القادر
..
وصل ألذ من النعيم ومرشف
أحلى من العذب الزلال العاطر
من أهيف فطن أديب أروع
طلق المحيا، ذي الجبين الزاهر
...
يا مؤنسي لا زال طرفك ناظرًا
نحوي، فحسبي نطرة من ذاكر
قد كنت أستر وده حتى بدا
فأنا المطيع لأمر هذا الآمرِ
ومن أعلام أدباء وشعراء القرن الثالث عشر الهجري: صالح حمدان الساعاتي (ت 1287هـ)، وعبد القادر مشاط (ت 1302هـ)، وحسين جمل الليل (ت 1305هـ). ومن أعلام مخضرمي شعراء القرن الماضي ممن تألقت بوادر مشاركاتهم في المنابر الشعرية وفي المجالس والمنتديات: عثمان بن محمد الراضي (ت 1331هـ) وعبد الواحد الجوهري الأشرم (ت 1311هـ)، وحسن صحره (ت القرن الرابع عشر)، وعبد الله شلهوب (ت القرن الرابع عشر)، وعبدالملك الفتني (ت 1327هـ)، وأحمد الحضراوي (ت 1327هـ)، وعبدالحميد قدس (1334هـ)، وجعفر لبني (ت 1340هـ)، وعبدالمحسن الصحاف (1350هـ).
وكان عثمان الراضي الشاعر والعالم الأديب أبعدهم صيتًا وأجهرهم صوتًا في شعراء أوائل الجيل الماضي ممن جاء في أعقاب خطاهم أدباء الرعيل الأول من رواد أدبنا الحديث. وقد وصفه الزركلي (بأديب الديار الحجازية وشاعرها في عصره)، وله ديوان شعر مشهور في مجلدين. أما زميله وخلفه عبدالمحسن الصحاف فكان شاعر الشريف حسين والثورة العربية وأبرز أصوات الشعر السياسي ورواده في جريدة (القبلة 1335هـ - 1343هـ) والبيئة الحجازية ومنتدياتها الأدبية.
ومن الظواهر اللافتة أن يطلع صوت شعري مميز في كل أسرة علمية، فيبرز اسمه الشعري فيها، وقد ألمعنا إلى جملة من هذه الأسماء الشعرية. وفي هذا السياق من توالي شعراء الجيل الماضي يبرز من (بيت الكتبي) اسم العلامة الشاعر السيد محمد أمين كتبي، ويتألق اسم العلامة السيد علوي بن عباس المالكي بوصفه شاعر (بيت المالكي)، كما يومض اسم العالم الأديب الشاعر عبد الحميد خطيب واسم ابن أخيه الأديب الشاعر عبدالله بن عبدالكريم خطيب في بيت العلامة الشيخ أحمد بن عبداللطيف خطيب، ويبرز من (بيت الفطاني) اسم العالم الفقيه الشاعر إبراهيم بن داود فطاني واسم شقيقه المربي والدبلوماسي الشاعر حسين فطاني، وغيرهم الكثير ممن يماثلهم.
تنوير المنتديات والندوات الأدبية
وحين انتصف القرن الانتقالي الماضي في سياق المتغيرات التاريخية السياسية والاجتماعية والثقافية تماوجت مطالب التغيير والتحديث الثقافي، وتنامى التوجه الفكري الجديد في منظومة ظهور وبروز الروافد والوسائل الثقافية التي انطلق منها الأدباء والمثقفون وشبيبة الأدب والصحافة. وكانت البيئة العلمية والثقافية المكية أدنى البيئات إلى الاتصال بالحركات الفكرية والأدبية في مراكزها المتقدمة كمصر والشام والعراق وغيرها، وكانت أم القرى وحلق العلم في المسجد الحرام، وفي المؤسسات التعليمية، وحركات المكتبات والكتب، والصحافة المحلية والوافدة، ورحلات وصلات أهل العلم والفكر والأدب في مواسم الزيارة والحج؛ أفسح كل ذلك مجال الانفتاح والاتصال الفكري والأدبي والتبادل الثقافي.
وكان تَطَلُّبُ إذاعةِ الأفكار وتعاطيها ونشر نتاج الأدب والفكر الأدبي باعثًا على تواكب وتبادر الجماعات والملتقيات في عقد المجالس والمنتديات الأدبية والثقافية التي كانت فواتحها فردية شخصية لدى جيل الرعيل الأول من رواد الأدب والثقافة والصحافة وهم شبيبة النصف الأول من القرن الماضي.
ولقد شهدت مكاتب ودوائر الصحافة كصحيفة حجاز (صدرت عام 1326هـ)، وصفا الحجاز وشمس الحقيقة (1327هـ)، والقبلة (1335هـ)، والفلاح (1338هـ)، وأم القرى (1343هـ)، وصوت الحجاز (1350هـ)، وحراء (1376هـ)، والندوة (1377هـ)، ومجلة الإصلاح (1347هـ)، ومجلة المنهل (1355هـ) عندما انتقلت إلى الصدور بمكة (1359هـ)، ومجلة النداء الإسلامي (1356هـ)، ومجلة الحج (1366هـ)، ومجلة قريش (1379هـ)؛ شهدت ملتقى وندوات الأدباء والكتاب والمثقفين، وانعقدت بينها وبين نخبة العلماء والأدباء والمثقفين روابط ثقافية أينعت نتاج الإبداع الأدبي والحصاد الفكري، وتحلقت حول هذه الصحف والدوريات وبرزت أسماء أدبية وصحفية رائدة من مسؤوليها ومحرريها، أمثال: محمود شلهوب المكي، وحسين الصبان، وعبد الله قاسم، وعمر شاكر، وفؤاد الخطيب، ومحب الدين الخطيب، والطيب الساسي، ويوسف ياسين، ورشدي ملحس، وعبدالملك خطيب المكي وشقيقه عبد الحميد خطيب ثم ابن أخيهما عبدالله بن عبدالكريم خطيب، ومحمد سرور الصبان، ومحمد صالح نصيف، وعبد الوهاب آشي، ومحمد حسن عواد، وحسن بن محمد كتبي، ومحمد حسن فقي، ومحمد جميل حسن مقادمي، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد سعيد عبد المقصود، وأحمد السباعي، وعبد السلام عمر داغستاني، ومحمد سعيد العامودي، وفؤاد شاكر، وأحمد قنديل، وحسين خزندار، ومصطفى أندرقيري، ومحمد حامد الفقي، وحسين عرب، وهاشم يوسف الزواوي، وعبد الله عريف، ومحمد علي رضا، ومحمد علي مغربي، ومحمد حسين زيدان.. وغيرهم ممن واكبهم وتلاهم.
ولقد نشأ وتجلى ظهور وبروز وجوه جميع أدبائنا -في الجيل الماضي- في أحضان هذه المدارس الصحفية وفي سواها من أخواتها الأخريات في غير فضاءات الحركة الأدبية المكية وإشعاعاتها الريادية، وأفرزت هذه المدارس الصحفية حركة ثقافية هيأت لبناء النهضة الأدبية في البلاد.
على أن ظهور المنتديات في صورة ندوات أدبية وثقافية كانت قد استهلت أوقاتها -في جيل الشبيبة الجديدة- في مدارس كالصولتية والفلاح، ودار العلوم الدينية، ثم في المعهدين (المعهد العلمي السعودي وتحضير البعثات)، وإن كان توالي المجالس العلمية والأدبية وندواتها السابقة واستمرارها نواة لما ستنهض به وتشهده الشبيبة الجديدة عبر (ندوة جمعية الإسعاف الخيرية منذ عام 1357هـ) التي مثلت المنتدى المنظم للنخبة الأدبية والمثقفة ولأهل العلم وطلبته.
وقد تحدث الأديب عبد الله الخطيب في كتابه الطريف (كذا.. وكدَالك) عن (مجالس الأدباء) وأنه كانت لهؤلاء الأدباء الطليعيين - من أبناء جيله الرعيل الأول - نوادٍ متحركة ذات جلسات خاصة. فقهوة حامد في (جرول) شهدت أمسيات هؤلاء النفر من الأدباء ومناقشاتهم، وسجلت قهوة (البنَّاني) بعض تلك الأحاديث الأدبية والمناقشات البيزنطية. وأشار إلى معركة العواد وشحاته، وأشاد بندوة (الإسعاف الخيري) -السابقة- التي كانت تنظم المحاضرات الاجتماعية والثقافية والعلمية، وكان أبرزها وأشهرها محاضرة حمزة شحاته الشهيرة (الخلق الفاضل عماد الرجولة) التي كانت سببًا لقفل باب المحاضرات وندوة الإسعاف (للأبد)، وتناول إبراهيم الفوزان في فصلين من كتابيه (إقليم الحجاز وعوامل نهضته الحديثة) و(الأدب الحجازي الحديث) موضوع (النوادي الأدبية)، فتحدث عن المجالس والصالونات أو المنتديات الأدبية في: مكة- والمدينة- وجدة- والطائف وجماعاتها وروادها ودورها في الأدب والحركة الأدبية منذ صباح القرن الرابع عشر الهجري.
ولقد تحدث العديد من أدباء الرعيل الأول ومن تلاهم في كتاباتهم وذكرياتهم وفي مناسبات اجتماعية وأدبية متعددة عن ملتقياتهم وأنديتهم وندواتهم وأجوائها الفكرية والأدبية، وما كانت تفرزه من أفكار، وتتعاطاه من حوارات ثقافية، ومساجلات شعرية، ورؤى أدبية ونقدية.
ولعل من أطرف هذه اللقاءات والمنتديات المكية ذلك المنتدى الذي ولد عام 1341هـ وتحدث عنه الشاعر محمد حسن عواد -أحد أبرز أقطاب الرعيل الأول- في تقديمه لكتاب (الشجرة ذات السياج الشوكي/ سيرة وشعر الشاعر المكي الرائد محمد عمر عرب، 1966م)، فوثق فاتحة صلته بالأدباء المكيين الذين عُرِفَ عِقدُهم (بجماعة الأدب الحديث). يقول العواد: (وقد قدمني -أي محمد عمر عرب- إلى لفيف من أصدقائه الأدباء كانوا يجتمعون في ندوة أدبية في مكان أنيق في محلة (جرول) بعد عصر كل يوم، وكانوا قليلي العدد لا يزيدون على أربعة، وهم: عمر عرب، ومحمد سرور الصبان، وعبد الوهاب آشي، وعبد الله فدا). ولعل هذا المنتدى هو الذي ذكره عبد الله خطيب في أجواء قهوة حامد.
وهؤلاء النفر الذين انضم إليهم العواد كانوا طليعة أدباء وشعراء الرعيل الأول الذين كان التفافهم الأدبي الرائد بزعامة محمد سرور الصبان وهمته القيادية الثقافية استهلالاً لحركة ونهضة أدبية حديثة في البلاد، وقد أفرز تجمعهم الأدبي الريادي: (أدب الحجاز- لمحمد سرور الصبان/ 1344هـ)، و(المعرض- لمحمد سرور الصبان/ 1345هـ)، و(خواطر مصرحة- لمحمد حسن عواد/ 1345هـ). وأطلع هذا التآلف من خلال إضمامات الكتابين الطليعيين الأولين هذه الأسماء الأدبية التي شكلت تكوين النخبة من رواد الرعيل الأول: محمد سرور الصبان، ومحمد عمر عرب، وعبد الوهاب آشي، وعبد الله فدا، ومحمد حسن عواد، ومحمد سعيد العامودي، ومحمد البياري، ومحمد جميل حسن مقادمي، وحامد كعكي، وأحمد إبراهيم الغزاوي، ومحمد شيخ حمدي، ومحمد صبحي طه الحلبي، وعثمان قاضي، وعبدالوهاب النشار، ومحمد علي رضا، وعبد القادر عثمان، ومحمد صلاح خليدي. وهي كوكبة أدبية التحقت أو لحقت بخطاها البقية ممن شارك في مرحلة الريادة الأدبية.
وكان ذلك الإنتاج الطليعي المطبوع باعثاً على إعداد وإصدار مجموعات للأدباء الرواد والشبيبة الطالعة في أعقابهم مثل: (وحي الصحراء- لمحمد سعيد عبدالمقصود وعبد الله بلخير/ 1355هـ)، و(نفثات من أقلام الشباب الحجازي- لهاشم الزواوي وعلي فدعق وعبد السلام الساسي/ 1355هـ)، وغيرهما من مجموعات ومختارات الأدب والأدباء.
ولقد تعددت - بعد ذلك - في البيئة الأدبية المكية مجالس ومنتديات الأدب، وصار لكل أديب مجلس أو منتدى يجتمع لديه أو ينتدي زملاؤه الأدباء والمثقفون وشبيبة الأدب والصحافة، في دورهم أو مكاتب الصحافة أو المطابع وغيرها. ومن هؤلاء الأدباء: محمد سرور الصبان، وأحمد السباعي، ومحمد حسن فقي، وحسين عرب، وأحمد عبد الغفور عطار، وحسين سرحان، ومحمد عمر توفيق، وعبد الله عريف وزملاؤه في (نادي الوحدة الرياضي الثقافي الاجتماعي) الذي تبنى ندوة (لمحاضرات الموسم الثقافي) منذ عام 1384هـ، وكانت مشهورة تؤدي نشاط النادي الأدبي في هذه الأيام، ويؤمها العلماء والأدباء والمثقفون من طلبة العلم، في حشد حضور حافل وكبير، وتطبع محاضراتها في كتيبات وحداوية أنيقة.
وكان عبد القدوس الأنصاري يعقد ندوته -التي ألمعنا إليها سابقًا- وهي (ندوة المنهل) في مكتب مجلته الرائدة، منذ صباح عام 1360هـ إلى انتقال المجلة إلى جدة واتصال أيامها هناك.
وذكر لي الأديب الشاعر حمزة إبراهيم فودة أن والده الأديب الشاعر المعروف كان يعقد ندوته الشهيرة (ندوة إبراهيم فودة) في دارته المكية منذ منتصف الستينات من القرن الماضي إلى عام 1377هـ، حيث انتقل بها إلى عوامته (الذهبية) على شاطئ النيل في القاهرة، ثم أعاد إشراع نوافذ الندوة المكية عند عودته إلى مسقط رأسه، وكان يؤم الندوة المكية أقطاب الأدب والثقافة والشبيبة المتأدبة والزوار من ضيوف البلد الأمين وبخاصة في مواسم الحج، كما كان يرتاد الندوة الذهبية القاهرية كبار الأدباء والعلماء والمفكرين المصريين والعرب والسعوديين.
وكانت ندوة الأديب الكبير عبدالله عبدالجبار (الأحدية) القاهرية في دارته المطلة على النيل ملتقى الفكر والأدب ومرتاد النخبة العربية والمصرية والسعودية في السبعينات الهجرية من القرن الماضي. وكان مجلسه الأدبي مع رفاقه: حمزة شحاته وإبراهيم الفلالي وعبد الله خطيب وسواهم في كازينو (سان سوسيه) القاهري ملتقى أدبيّا مشهورًا.
ومن أشهر المجالس والندوات العلمية الثقافية المكية في أربعينات القرن الهجري الماضي مجلس رائد الطباعة والمكتبات الخاصة ومدير المعارف المربي العلامة الشيخ محمد ماجد الكردي في داره ومكتبته النفيسة بحي (القرارة)، كما كانت داره في (منى) برعاية أبنائه الأجلاء تعقد ندوة خطابية جليلة للصفوة من رجال العلم والدين والفكر من الحجيج في أمسية جليلة من أيام (منى) كل عام، ويشارك في تنظيمها نفر من نخبة أعلام الأدب المكيين.
وكان (المركاز) في قهوة مشرفة على (المسفلة) ملتقى أدبيّا يضم النخبة من أمثال: حمزة شحاته، وأحمد قنديل، وعزيز ضياء، وعبدالله عريف، وعبد السلام الساسي وسواهم، في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي. وفي (المركاز) أو(الأولمب) -كما دعاه عزيز ضياء- انطلقت شرارة معركة شحاته والعواد الشعرية الشهيرة.
وفي فجر الستينات الهجرية من القرن الماضي أنشأ المربي الكبير والأديب الشاعر السيد/ أحمد العربي مدير المعهدين (المعهد العلمي السعودي ومدرسة تحضير البعثات) وزميله المربي والناقد الكبير الأستاذ عبدالله عبدالجبار النادي الثقافي المدرسي الرائد في تاريخ النشاط المدرسي -عندنا- (ندوة المسامرات الأدبية) الشهيرة التي حشدت حضور ومشاركة صفوة الأدباء والمفكرين والأعيان والمثقفين، وكان يرأسها الأستاذ عبدالله عبدالجبار ويؤازره في الإشراف والتقديم زميله المربي الشاعر حسين فطاني، ويشارك فيها الموهوبون وشداة وشبيبة الأدب والثقافة بأشعارهم وكتاباتهم المقالية والقصصية والخطابية، وفي هذه المسامرات الأدبية الخميسية كان يشارك بتشريف الحضور الأمير الشاعر عبدالله الفيصل، كما كان يتألق اسما المربيين الشاعرين المرموقين: الشيخ إبراهيم فطاني والأستاذ سراج خراز على المنبر الشعري، وأومضت أسماء العديد من الطلاب الذين صاروا -بعد سنوات- وزراء وعلماء وأدباء وشعراء. وفي هذه (المسامرات) ظهرت أول تجربة مسرحية في تاريخ البلاد وفي تاريخ المسرح المدرسي.
وفي آخر عام 1368هـ تولى رئاسة هذه الندوة المربي الكبير الأستاذ عبدالله بغدادي، وتهيأ له أن ينتخب جملة من نتاج وحصاد المشاركات الأدبية الأخيرة في الكتاب الذي نهض بإعداده وإصداره بعنوان (ندوة المسامرات الأدبية/ عام 1369هـ)، وهو وثيقة تاريخية أدبية ومرآة لما كان عليه طلاب الجيل الماضي من وعي فكري ونضج وإبداع أدبي.
ولعل من أحفل وأغنى الندوات الثقافية التي شهدتها الحياة الثقافية المكية (ندوة الحج الكبرى) التي كانت تعقدها رابطة العالم الإسلامي المؤسسة بمكة في 24 ذي الحجة 1381هـ، وترأسها الشيخ محمد سرور الصبان ثم زميله الشيخ محمد صالح قزاز، وكانت ندوة موسمية سنوية ليلية في موسم الحج، وقد حفلت بالمحاضرات الدينية والعلمية والفكرية والثقافية المتنوعة الثرية القيمة، وكانت توزع فيها -أحياناً- المطبوعات المفيدة والقيمة، وقد حفلت سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بندوات ومحاضرات بعيدة آفاق الصوت والصدى. وبعد، فقد كانت مرآة هذه المجالس والندوات الثقافية المكية نواة وطليعة لما كانت المطالب والتطلعات التنويرية تستشرفه استشرافًا مستقبليّا من بوادره هذه الأندية والمنتديات أو (الصالونات) الأسبوعية والدورية التي حظيت بها أجواء بلادنا منذ عام 1395هـ/1975م، وكانت أم القرى والمدائن وعاصمة الإسلام والثقافة الإسلامية رائدة التنوير ومنطلق الإشعاع الذي أومأ إليه الشاعر الكبير محمد حسن عواد بصوته النابض بالوجدان الشعري الرهيف:
مِنْ هُنا شَعَّ للحقيقةِ فجرٌ
مِنْ قديمٍ، وهاهُنا يَتَجَدَّدْ.
المصدر : المجلة العربية | بقلم : فاروق بنجر | 2015/6/14م
المصدر : المجلة العربية | بقلم : فاروق بنجر | 2015/6/14م
0 تعليقات