سعيد محمد نور.. صوت في أجواء مكة المكرمة

سعيد محمد نور.. صوت في أجواء مكة المكرمة
في بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، وفي بدايات الطفرة الاقتصادية والمعرفية،
وبداية انتشار الوعي والانفتاح الإعلامي والاجتماعي، كان لا يخلو بمكة بيت من جهاز الراديو بأنواعه وأشكاله وأحجامه وماركاته القديمة منها والمحدثة تباعاً.. كالقراندق والفيليبس والناشونال وغيرها من الماركات اللاحقة.
 
كان هناك استمتاع بسماع كل ما يُذاع عبرها عربياً وعالمياً بمختلف البرامج وأنواعها وعلى مفضّلات شرائح المجتمع.. منها سماع القرآن الكريم من إذاعة مصر العربية وغيرها، إلى أن أُسست الإذاعة السعودية بمكة سنة (1368هـ) فأكثرت من إذاعة أصوات القرّاء المحليين أمثال المشايخ: جميل آشي وزكي داغستاني وعباس مقادمي، وغيرهم.
وكان صاحب الحظ الأوفر من قرّاء مصر تسجيلا لصوته في إذاعة جدة آنذاك هو الشيخ سعيد محمد نور.
كانت أجواء وبيوت وأسواق مكة تعجّ بسماع تلاوة الشيخ سعيد محمد نور الذي كان يشنّف الأسماع بأدائه ويشجي بصوته وهو يتنقّل بأداء جميل في تقاسيم الأنغام على مقام الراست الأصلي..
يجسد شخصية المقام وعظمته، بسؤاله وقراره ومحطّه بعاليه ووسطه ورخائه.. حتى بخروجه وعودته إلى أصل المقام.. حتى أصبح رمزًا لمقام الراست في قراءته.
مما أتذكّره تماماً ولعل غيري يتذكر ممن شهد تلك الأيام العذبة برصيد أوقاتها وثمين فقراتها، بغني موادّها دون أن تُلهي صاحبها، بل يسجّل إيجابية تصاحب ذهنه وصور مكانه وتحرّكاته في جدول يومه.
كانت البيوت في مكة تعلّق الراديوهات على الأبواب أو فوق دواليب الغُرف وعلى براميل الأحواش، أو على ترابيزات مخملية حين تبدو في أوساط المجالس وفي أطراف المقاعد والمساند، أو مخضعة على كراسي أو مُسندة إلى قوائم الأسّرة.. وقد التحفت أو بعضها بأقمشة ملونة مزركشة تحميها من سوء الأحوال وعبث الاستخدام، ومن غبار الزمن الذي لا يميز بالانتقاء.. بين فقير وغني.
أو على (كرويتات) البيوت في أيام (القِيلات) لتَسعد الأجواء مُجدداً بسعيد محمد نور، حين يبكّر بها أحدهم في برودة الصباح إلى بيوت الأخوال والخالات أو الأعمام والعمّات أو الأجداد والقرابة والجيران، أو كان مارّا بدكان قماش أو بعطار أو صيرفي أو بمقهى، أو بجانب سيارة في طريق فرعي، فتسعد أذناه بتلاوة الشيخ سعيد محمد نور, خصوصاً إذا قرأ من سورة النور، أو طه ومريم، أو سورة الحديد أو قِصار السُور..
وعلى موجات الإذاعات التي كانت تذيع صوته تُفتح الراديوهات وتُقفل، على مدار الأيام بل الأسبوع والشهور، دون أن تحوّل إلى موجات أخرى.
لصوت قراءة الشيخ ذكرى مَديدة، لقامات آباء كرام في دكاكين الخياطين والخرّازين بالحارة كأكثر حرفيين يستمعون بإخلاص إلى المذياع، وأمهات في البيوت أيضاً على مكائن الخياطة، أو كنّ يعملن بين مراوح وزنابيل الخوص من أوراق النخيل، أو في (المركّب) على (نملِيات) المواعين والسحارات.. وبين مقتنيات الألفة في تلك البيوت، بين أجواء حميمة..
وذكرى لأصحاب الدكاكين والمحلات حين تسمع بصوت الراديو دون أن تراه أحياناً في تراكم البضائع، وبين جانبي وأمام صاحب الدكان.
من يستمع الآن إلى سعيد محمد نور وقد سمعه في تلك الأيام قد تبادره عيناه بعبرات من جميل ذكرى تلك الأيام وأحوالها وصور حياتها ورسوم جغرافيتها، في بيوت العوائل آباء وأمهات وإخوة وقرابة، في مجالس وطرقات ودكاكين وأسواق، حتى دِكاك وجدار البيوت بأثاثها وألوانها، ورائحة جِلالها العربي و(حنابلها) الهندي.
آياتٌ بيّنات كان يتلوها ويرتّلها فتطرق الأصوات لها ويترتّل معها الأوقات والأذواق، وتصفو موجَات الحياة، وتترسّخ طرق وأساليب القراءة، ويُعبّر بها إلى فضاءات الإخاء، وقد تهيأت القلوب للودّ والصفاء، في اجتماعات يندر لها اليوم مثيلات ومشابهات.. في أجواء كانت لنا مدرسة أخلاقية ودعماً دينياً ومُحركات روحية، وانطباعات نفسية وتربوية لا زالت إلى اليوم تؤتي أكلها، إذ لم تكن في نوايا أصلها حشواً وتلقيناً فارغاً بل شدوًا صادقاً عابقاً.
الشيخ سعيد محمد نور ـــــــ:
ليس فيما بين يديّ من مصادر السير والتراجم ترجمة أو سيرة عنه، مكان وتاريخ ميلاده وبدايات تعليمه وتحديد تاريخ وفاته، فلم أجده بأول بحثي في كتاب (الأعلام.. قاموس تراجم) لخير الدين الزِّركلي، فربما هذا أقرب من يترجم له لمعاصرته له، وأنه قد ترجم لأعلام تزامنوا مع الشيخ سعيد.. وقد توفي الزركلي في 1976م. أي بعد وفاة الشيخ سعيد محمد نور في الثمانينيات من القرن الرابع عشر الهجري..
كما أنني لم أجده ضمن تصنيف القرّاء المصريين، وبالبحث في غوغل أيضاً لم أظفر سوى بشيئ يسير عنه، ويتكرّر تداوله ونقله في أكثر المواقع منها لقراء سودانيين، وهو: (سعيد محمد نور، سوداني الأصل انتقل ودرس في الأزهر، فطاب له المُقام بمصر، وأنشأَ لنفسه أُسلوباً فريدًا وإرثاً ارتبط بالقرآن الكريم، لا يزال يُذكر، ويُستطَاب بقراءته، بصوت شجي لكأنّه ممن أوتي مزامير آل داود.. كان يقرأ القرآن بطريقة كلها شجن تستدر الدموع.
(عاش الشيخ سعيد عيشة بسيطة بجامع الخازندار في حي شبرا بمدينة القاهرة، وكان يهوى سماع الاسطوانات منها للشيخ محمود البربري.
وكانت أصواتُ محافظاتٍ بأكملها تتعصّب لصوته، وقد قرأ مع كبار المشايخ، منهم: الشيخ علي محمود والشيخ محمد رفعت، وكان يفضّل رفعت على كل الأصوات.
مما يحكى عنه: (أن سائقي ترام شارع شبرا كانوا يتوقفون عند سماعهم لصوت الشيخ سعيد واستجابة للركاب)
قبل خمسين عاماً قصد الشيخ سعيد محمد نور الديار الحجازية لأداء فريضة الحج، وقبل أن تحطّ به الباخرة بميناء جدة وصلت أخباره إلى إذاعة جدة..
فكان لها النصيب الأكبر في تسجيل قراءات له، فقام بتسجيل سورة مريم وطه والحديد والتكوير على أشرطة سلك قبل ظهور أشرطة الرِّيل، ولاقت تلك التسجيلات استحسان الكثيرين، وكانت المديرية العامة للإذاعة آنذاك (وزارة الإعلام حاليا) تسجّل الآف النسخ من تلك التسجيلات وتُقدّمها لضيوف الرحمن من وزراء ورؤساء الإذاعات الإسلامية، وكان الملك عبد العزيز من أشدّ المعجَبين بتلاوة الشيخ سعيد محمد نور، حتى عرض عليه البقاء بالديار المقدسة لكنه أعتذر لظروف خاصة..
انتقل الشيخ سعيد من مصر واستقرّ في الكويت في مطلع الثمانينيات الهجرية، كما سجلت إذاعة الكويت القرآن الكريم بصوته، وكانت تذيعه فجرياً كل أسبوع.. وقضى الشيخ سعيد محمد نور بقية حياته في الكويت حتى توفّاه الله في منتصف الثمانينيات الهجرية.
 
وبعد وفاته بعث أبناؤه بأكثر من مائة تسجيل لوالدهم إلى لإذاعة جدة وتمّ إدراجها ضمن القراءات المُذاعة، وكانت تلك التلاوات قد تم تسجيلها من داخل جامع الخازندار المذكور لتاريخ يعود لأكثر من خمسين عاماً. قال بعضهم: الشيخ سعيد محمد نور من أفضل قرّاء عصرنا الحديث.. وبهذا ترك الشيخ ثروة روحية بتسجيلاته للقرآن الكريم، رحمه الله تعالى وجميع المشايخ القرّاء الأموات منهم والأحياء، ووالدينا والمسلمين أجمعين.

بقلم : عبدالله محمد ابكر