بركة ماجل .. وأيام الأربعاء في بساتين المسفلة

ابتداءً من جنوب المسجد الحرام في امتداد أسافل مكة، وما عُرف لاحقاً بـ(مسيال الهرساني) وإلى ما بعد مبنى منشية المسفلة كمعلَم بارز ذي شهرة اقتصادية ورمزية اجتماعية، وبأقل من مئة متر تقريباً يأتي مدخل حارة (أبوطبنجة) يسارا في اتجاه الشرق، يليه (بابور) الكعكي ومسجده، ثم (بركة ماجل الكبيرة تليها البركة الصغيرة) ثم مدخل حارة (الكِدوَة) فقهوة حسن باحاج، ثم قهوة صالح عبدالحي بواجهتها الغربية الجميلة وصباحيتها الظليلة الباردة.. ثم حارة وقهوة الخُنكَار أو الكُنكار، ثم مداخل ملتوية إلى عمق الحارة ببيوتها وشعابها وقمم جبالها شرقاً وجنوباً.
 
وفي الجنوبي الغربي إمتداد شارع الهجلة: يقع مبنى المدرسة الناصرية الإبتدائية.. المؤسسة سنة 1373هـ وموقعها الأساسي في منطقة المسيال الخلفي في بيت الأشموني، ثم انتقلت إلى جوار بقالة الباندا، ثم خلف قهوة صالح عبدالحي الأولى، ثم إلى في بيت السيد محسن عنقاوي خلف عمارة محمد علي فارسي، ثم إلى مبنى وقفي بمنطقة المنشية شرق شارع إبراهيم الخليل، ثم إلى عمارة الدعيجاني بجوار فندق فلسطين، ثم إلى ما قبل طلعة كُدي بجوار مدرسة أبي بكر الصديق.
 
وعودة إلى الجنوب الغربي بعد عمارة الفارسي على يمين النازل يقع في الواجهة (سوق البرنو) إلى مدخل (دحلة الرشد)، ثم قهوة حنش الزهراني الموازية نصباً لمنشية المسفلة شرقاً.. ورجوعاً إلى الغرب هناك كتّاب الشيخ مالم عبدالله لتعليم صبيان الحارة، وحيث كان ميلاد أحلام لهم وهي لم تبرح مكانها إذ وأدَها التاريخ في المكان نفسه.
 
ثم نزولا إلى بيوت آل الكابلي، ثم قهوة حسن مطر، وبيوت الفارسي، ثم قهوة حسن باجراد، كلها في يمين النازل إلى الكعكية والشوقية جنوباً.
بين كل هذه المعالم والشواهد والشهود الأخيرة في أوساطها وأمامها بساتين ومزارع وحدائق ذات بهجة، تحيطها مبان وخانات وأسواق ومنفرجات طرقات من كل جانب.. ليتسنّى لأهالي المنطقة خاصة عبورٌ واستجمامٌ شبه يومي باستنشاق هوائها والاستمتاع بنضارتها في مداها.
 
أيام الأربعاء في بساتين البركة:
في آخر أربعاء من كل شهر صفر وعلى بشائر مقْدَم شهر الربيع إلى ما قبل حوالي قرن من الزمان وقبيل احتضار أنفاسها.. كان أهالي مكة من حارات بعيدة أُدباء وشعراء وعُمد وأعيان وشبّان و(مطاليق الحارة) يخرجون إلى الِبركة والبساتين النضرة حولها، لتسريح النظر بالنزهة والمحادثات بينهم والتسابق في امتداد رُباها سروراً وحبوراً.
 
بركة (ماجل) بالمسفلة، يُنسب إليها (شارع البركة)، وهي بركة كبيرة مربعة (خمسين في خمسين مترا).. ذات عمق مخيف حين السباحة في لجتها.. ثم البركة الصُغرى التي تتيح السباحة دونما خوف، وإلى البركة الكبيرة كان يصبّ هدير السيول من أعالي مكة شمالا ومنحدرات أطراف الجبال الجانبية المجاورة شرقاً.. وهي كقناة لها فروع تسقي المزارع والبساتين الممتدة على بساط تلك الأرض الخصبة..
 
وهناك بركة صغيرة في وسط البُستان كان يشرف عليها (أبو طربوش) والهيطّلي، وحزام والد منصور وسلطان وناصر وسالم.. كانوا يخرجون في بُلج النهار، في زُمر و(بَشكَات) لتنزهات ومنفّسات، بين أثلات وسرحات وحَشائش، بين أسجاع القماري وتغاريد ألحان الطيور، على مجار المياه، وتحت رذاذ المطر وفوق ملامسات الندى.
 
في بركة ماجل صور متحركة جاذبة، كاجتياز بعضهم لدويّ (بابور الكعكي ـ مصنع الكعكي لقوالب الثلج) حين يشجيهم دوّيه ولا يملّونه، ولا ينفّرهم تخابط صفائحه وتصادم قوالب ثلجه بين بياضها وبرودة حاوياتها وجوارها.
 
لم تكن مناظر الخضرة في تلك الأيام رمزاً للنضرة والجمال والبهجة فحسب بل كانت حياة ومشاعل دروب ووجهات نفوس، خاصة حين يريحون بعد الظهيرة وقد تعنّوا في حَرُور النهار شقوةَ المسير في سبيل لقمة العيش.. وسرعان ما تَؤول تلك الشقوة إلى راحات وصور ضاحكة ومواقف فكاهية صاخبة.
 
كانت تلك الخضرة فوق تلك المياه الجارية والمتساقطة والمفترشة مسارات سلواتهم ومراوح ألعابهم وجلاءات نفوسهم الظامئة والفائضة في آن واحد.. كانت خرجات فائقة يصحبها كثيرٌ من متجسّدات عفوية اللقاءات والمحادثات، نبيلة الأخلاق والمواقف، تجاذبها طُرفٌ جانحة إلى صورِ سعادةٍ ومراح.. في زمن كانت لهم هذه المرافق والمرافئ الطبيعية هي محاور مقاصدهم حين تدعوهم ألوان أراض خلابة في جغرافية عريضة طريّة في الإغواء والوثوب، وثيرة في الجلوس والإتكاة، في جلوات ضحياواتها وعشيّاتها..
 
وهم يتبادلون أدوار التلاقي بعهود مشوقة على غير ميعاد، ويتركون على جدار البِرك بخرير مائها وملاسة طحالبها رواسبَ ذكرياتٍ وصور أحداث مُضحكاتٍ.. وحين يضعون قوالب (ثلج) على حواف البركة ثم تسقط منهم في سهو وإغفال.. فيسيحُ معها أَتعاب (ريالين) دُفعتا لشراء الثلج من (بابور الكعكي) ولكن سرعان ما تقفز بهم فقرات المروءة بمتعٍ مسلّية تستمرّ دون توجّع وتندّم..
 
تزامنهم ضاحيات وأرجاء رحبة، وتظلّ مآذن الودّ بينهم تنادي على القريب منهم والنائي ممن تخلّف عن ربوعهم.. تظلّ تراشقه بنوع من العتاب على غيابه دون جداول الاجتماع وأطيابه.
 
إنها حقول أرض مسرّحة ذات إغراء بانتعاشٍ لذيذٍ وهمس طراوة على خُطى أخصابها، دون كَللٍ أو مَللٍ، بل تمضي غير مضنى، أو إنذار بأوبة في مراحل النهار..
كيف وهم مقيّدون برائحة التراب ورشَاش الماء.. ليس لهم فحسب وإنما لدوابهم أيضاً حين ترعى وتسرح في تلك الأرض.
 
أما في آناء الليل وتحت سماء مقمرة فذاك سمرٌ ساحر.. وما اختيار يوم الأربعاء إلا لموافقة شهر الربيع، ربيع القلوب والطبيعة، ربيع الحب في رياض الأرض وفي فلك السماء.
 
أربعاء وبساتين بركة ماجل منذ عصر المأمون العباسي وإعمار الأمراء لها والأشراف، بما لذّ وطاب من الفاكهة والخضار والأعلاف، على مرّ العصور وتلوّن الأحقاف..تذّكرنا بأربعاء الصمَّة القُشيري الذي عاش غَزلهُ وحبّه في العصر الأموي يروح ويغدو بعذبِ قريضه.
بروحي تلك الأرض ما أَطيبَ الرُّبى.. وما أحسنَ المصطافَ والمترّبعا
وأَذكرُ أيامَ الحِمى ثم أَنثني على .. كَبدي مِنْ خشيةٍ أن تَصدّعا
وليستْ عَشيّاتُ الحِمَى برواجعٍ .. إليك ولكن خَلّ عينيك تَدمعا
كأنّا خُلقنا للنَّوى وكأنَّما .. حرامٌ على الأَيام أن نَتجمّعا

بقلم : عبدالله محمد أبكر