عمر المضواحي.. روبابيكا صحافي قديم رحل

غلقت الصحافة أبوابها أمام عمر المضواحي منتصف عام 2007 ولم تقل له «هيت لك». بث عمر (1966 - 2015) وقتها حزنه إلى الله، فهو لم يأسف على الاستقالة، بل لأن الوسط الصحفي فهم قطعته الأدبية «لسان الاستقالة» أنها رسالة محبط، بينما قصد أن تقرأ كقصة صحفية.

ما انفك المضواحي يرى الصحافة أنها «طريقة حياة» وليست مهنة لكسب الرزق، فأحبها «حبا جما»، بيد أنها لم تكن تبادله المقدار نفسه، إلا قليلا، وأغلب حبها أتى بعد وفاته عليه سلام الله ورحمته.

قرار الاستقالة اتخذه المضواحي دون تردد وبعناد قل نظيره ساعده فيه وجود ابتسام «أخت الرجال» داخل المنزل، فهي كما كان يقول معه في الضراء قبل السراء، لم تبخل ولم تشتك ولم تعاتب، بل كانت تقول له رأيك صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيرك خطأ لا يحتمل الصواب.

لم يمر النصف الثاني من عام 2007 بردا وسلاما على عمر فهو بعيد عن من يصفها بأنها طريقة حياته «الصحافة»، ولأنه يحبها استمر في مراقبتها بلا كلل ولا ملل «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا». رويدا رويدا بدأت تقل الاتصالات الصحفية على هاتف عمر، ولم يبق له إلا صديق عمره «الحازمي» الذي يجتمع معه أسبوعيا لعقود مساء الاثنين من كل أسبوع، فيما كان يسميه عمر «القداس» وصديقه الآخر «العطاس»، واللذين باعدت بينهما الأسفار فلم يعودا يجتمعان إلا قليلا. وبقي لعمر في تلك الفترة - غير اتصالات صحفية عابرة - صديقه الكاتب الكبير محمد الساعد، يتحدثان يوميا أو بشكل شبه يومي في مقهى الملينيوم بجدة، بحضور أصدقائهما عن الصحافة وشجونها، لأن هذا ما يحبه عمر ويجيده الساعد.

في تلك الأثناء كانت العروض الصحفية تأتي لكنها فيما بدا وقتها لرفع العتب ليس إلا، فعمر «شخص يخافه المتمسك بكرسيه»، ومواضيعه تجلب «الاتصالات الهاتفية المعترضة».

فاجأ المضواحي صديقه الساعد بأنه عمل صفحة على الانترنت أسماها «روبابيكا صحافي»، وعرفها بأنها «مجرد محاولة لاجتراح عالم الصحافة في السعودية»، ولم يكن من عمل هذه الصفحة لعمر إلا الشاب مفيد النويصر الذي أصبح الآن أحد نجوم الإعلام التلفزيوني في السعودية. وصف المضواحي مفيد النويصر قبل أكثر من عقد بأنه «مجد دؤوب ذو هدف»، وأثبتت الأيام أن الوصف ينطبق تماما على مفيد، والدليل «من الصفر». ولا يشبه علاقة المضواحي بالنويصر إلا قصته مع النجم الكبير علي العلياني، فقبل بداية علي التلفزيونية بكثير كان عمر مصر على أن العلياني سيكون نجما كبيرا وأصبح كذلك.

بدأ عمر المضواحي يضع مواضيعه القديمة في «روبابيكا صحافي» ثم عاد للكتابة والنشر لكن في مدونته، إلى أن أعاده جمال خاشقجي للصحافة من جديد عبر بوابة جريدة الوطن، بيد أن العودة لم تكن مظفرة كثيرا، فهو عين كمسؤول لا كصحفي، مما حدا كثيرا من توهجه فقد استغرقته مواضيع الحضور والغياب ومكافآت المتعاونين بالقطعة، وتعديل موضوعات الصحفيين الشباب، الأمر الذي لم يساعده على إنجاز ما كان يفعله في جريدة الشرق الأوسط أو المسلمون أو مجلة المجلة أو حتى مجلة اقرأ.

من جديد وجد المضواحي نفسه ولكن هذه المرة في تويتر الجديد على السعودية وقتها، فقد بدأ يحصد الثناء والإعجاب، خاصة ممن لديهم نظرة سلبية عن الصحافة السعودية، فقد فاجأهم عمر بمواضيعه القوية التي كانت في الأعم عن مكة المكرمة والمدينة المنورة، دون أن ينجح في عدم استخدامها من قبل من لا يكنون الود للسعودية، لكنه كان يرد «يعلم الله» ليس هذا قصدي فأنا أحب مكة والمدينة وأحب بلدي.

ولم يلبث إلا قليلا حتى غادر عمر جريدة الوطن، وعاد للنشر في مدونته «روبابيكا صحافي»، فهناك لم يحذف له أحد أي جملة، واستمر على ذلك حتى ظهرت جريدة «مكة» الوريث الشرعي للندوة العريقة، فضمه علي الزيد رئيس تحريرها آنذاك إليها، وتنبه لخطأ الوطن فلم يكلفه بأعمال إدارية، بل طلب منه موضوعات صحفية فقط. هنا عاد المضواحي للتألق وبدأت مواضيعه تنتشر في الوسط الصحفي، خاصة فن «الفيتشر» الذي إن كان له رواد فحتما سيكون عمر أحدهم.

لم يعش عمر المضواحي رحمه الله كثيرا، فقد توفي بعد الخمسين من عمره بقليل، قضى أكثر من نصفها في الصحافة، وأخذت منه الكثير وأعطته القليل، لكن هذا النزر اليسير كان غاية في الأهمية.

«اليوم تغير الحال، قرر الكبريت أن يتخلص من شهوة النار، خلع ملابس الحرب وتسربل فجأة بقلنسوة رجل المطافي، وبين النار والرماد كان ثمة مكان للسؤال والجواب» عمر المضواحي متحدثا عن داوود الشريان.

نظر عمر المضواحي ذات مساء إلى هاتفه وعلى شاشته رقم غير مسجل لديه، تردد في الإجابة، وأخيرا رد، كان المتصل الأستاذ الكبير داوود الشريان الذي كان في تلك الفترة ملء السمع والبصر في السعودية، على الأقل عبر برنامجه الأشهر «الثامنة»، لم تستغرق المكالمة إلا ثواني قليلة: ألو عمر أنا داوود الشريان أبيك تجيني الرياض مع السلامة». ابتسم عمر محتارا من الاتصال، فإذا باتصال آخر من رقم آخر يقول لعمر: أنا من طرف الأستاذ داوود لديك حجز غدا تفاصيله كذا وكذا. أثناء رحلة المضواحي لمقابلة الشريان لم يدر في خلد الأول إلا كيفية الاعتذار عن العرض الذي سيقدمه الثاني للانضمام لفريق الثامنة، فهذا ما كان يعمل عليه الشريان وقتها.

فوجئ عمر في مطار الرياض من السيارة الفاخرة جدا التي كانت في انتظاره والفندق ذي النجمات التي تساوي أصابع اليد، وكلم نفسه «كل هذا عشان عرض وظيفي». تقابل الشريان والمضواحي للمرة الأولى وجها لوجه، فليس هناك سابق لقاء أو معرفة إلا «بروفايل» كتبه عمر عن داوود قبلها بسنوات، وأطلق فيه على الشريان لقب «كبريت الصحافة السعودية».

عرض الصحفي الكبير وأحد أعمدة الصحافة السعودية على المضواحي شيئا مذهلا، وكان الشريان يقول: أنا اعتبرك أهم صحفي سعودي في هذا الموضوع «العرض». يقول عمر لصديقه بعد اللقاء: أحسست أن عمري في الصحافة لم يضع هدرا، فقد قدرني الشريان أيما تقدير، اختارني من بين مئات الصحفيين، ووافق على كل شيء طلبته. أحس عمر وقتها بفرح غامر وخوف قليل الفرح من اختيار الشريان له، رغم أن داوود لو نفذ المشروع بنفسه سيكون رائعا والخوف أنه لم يسبق له أن عمل شيئا مشابها لما طلبه الشريان.

«إنه مثل الذئب لا يركض عبثا، وثمة ضحية قادمة ستلقي على حلبة الملاكمة منديلها الأبيض، هو الفتى الذهبي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، يسدد بقبضته الحريرية لكمة المسامير الخطافية». عمر المضواحي متحدثا عن عبدالرحمن الراشد.

قال صاحب عمر المضواحي يسأله في المقهى بعدما انتهى من مطالعة الجريدة: ما الذي أتى بالراشد في هذه الصورة (الصورة كانت للموقعين على حصول مجموعة إم بي سي على حقوق نقل الدوري السعودي)، من هذا التساؤل ظهر أحد أفضل المقالات التي كتبت في الراشد: قفاز الحرير.. المملوء دوما بالمسامير.

بعد النشر بيوم اتصل عمر بصديقه في وقت غير معتاد قائلا «أريد أن أراك بعد نصف ساعة في المقهى سلام»، حدق المضواحي في صديقه طويلا وهو يشرب سيجارته بعمق ويرتشف قليلا من شاي السموار دون أن يتكلم وصاحبه يسأله «إيش في؟» أخيرا رد عمر: جاءني رقم طويل غريب، فكان عبدالرحمن الراشد من لندن، قال كلاما أخجلني وما عرفت أرد عليه. مما قاله الراشد للمضواحي في تلك المكالمة: يا عمر شكرا لك، لو أني أردت أن أكتب عن نفسي لما استطعت أن أكتب بهذا الجمال والإبداع، شكرا يا عمر.

نعى المضواحي نفسه قبل أن ينتقل إلى رحمة الله عندما كتب ذات مرة «الموت في مكة حياة» و»سامحونا».


بقلم : مجدي وعدو | صحيفة مكة  24 ربيع الثاني  1441 هـ