ألعاب الأولاد والبنات في حارات وبيوت مكة المكرمة

كانت الألعاب بين أولاد الجيران مقصدًا للترفيه أو هي محور الرفاهية التي تدور في أذهان الأولاد، ينامون ويصحون عليها. والألعاب كما يقرر الأطباء النفسيون وغيرهم أنها تنشط الذهن والبدن معًا، ولها نتائج كثيرة في عملية الإخراجات الجسدية وتنمية القدرات العقلية، وكانت تلك البيوت مشجعة على هذا كله بل كانت هي المنشأة لأجواء ومثل هذه الألعاب والبدنية والذهنية،وغيرها.

وكانت على أنواع عدة: منطوق وصامت وصاخب، ورمي وإشارة، وبمواد مثل أحجار وقطع بلاستيكية ومطاطية أو خشبية أو من عظام ونحوها، جلوساً وقياماً، قفزاً وزحفاً.. ظهورًا واختفاءً، حكايات و(حزازير)، ليلي ونهاري، مجموعات وفرادى، بنين وبنات، منفصلين ومدمجين، قصيرة الفترات وطويلة الأجل..

ومنها ما ينتهي بالفوز والهزيمة، وما ينتهي بانتهاء مواد اللعبة، وما هو محدود بزمن وما هو مفتوح بدون تحديد حتى الشعور بكَّل وملَل.. وهناك ما يختص بداخل البيوت كالغرف والمجالس والدهاليز و(الدقيسي) و(الجِلا) أو المَناور والأبنية المفتوحة والأسطح.

وهناك ما يختص بخارجها: كالدِّكاك الملتصقة بجدارها والأزقة والأحوشة والبرحات والشوارع العامة، وعلى حواف البِرك، وتحت الأشجار، وفي المنتزهات والبخشات وبين السيارات وعليها وأمام واجهات الدكاكين وبينها، وفي الأسواق مروراً وقصداً، وغيرها من الأماكن في ذلك الزمن الجميل.

وهناك خصوصيات جغرافية لمكان وحيز البيوت وأحوالها وأنواعها ومساحات أحواشها وعدد غرفها وملاحقها وسعتها، وجبلية وسهلية، وجيران مسجد وجيران مدرسة، أو جيران دكاكين ومصانع وورش وأسواق.. وأحواش وسطية وبرحات مجاورة.

وبين هذه كلها بيوت الفقراء والأثرياء والوجهاء والعمدة وكل الطبقات وبحسب صاحب الدار ومقتضى حاله.. فإذا كان نوع البيت عمارة بتكرر أدوارها فغالبا ما يكون اللعب في أسفلها بالدهليز وعلى (سلملك) الدرجان، أو في خارجها من الخلف بحسب مساحة الزقاق والشارع، أو في السطح بحسب مساحة البيت طولا وعرضاً، ونوعية الألعاب هنا تكون محدودة مكاناً وزماناً، هذا بخلاف البيت الأرضي المكون من غرف متباعدة أو متلاصقة في فُسح متقاربة أو كبيرة، وهنا تكون مساحة الألعاب كبيرة يتاح لهم ممارسة كل أنواع الألعاب تقريبًا وفي أي وقت وزمان.

وإذا كانت البيوت في منطقة جبلية فالغالب عليها مساحات وعرة محدودة، وفرصة الألعاب الخارجية فيها نادرة وضعيفة لعدم وجود مساحات معتدلة وكافية في الغالب، من برحات وأحوشة إلا ما ندر، فيتحول إلى تسلق الجبال والتزحلق على الصخور، صعودًا وانحدارًا، والرمي من الأعلى إلى الأسفل والعكس يكون صعب المنال، وبهذا يفوز القوي على الضعيف جسماً وعجز قدرته على الرمي إلى الأعلى.

وحين تكون البيوت مجاورة للمسجد فسوف تحد من إمكانية ممارسة بعض الألعاب فيها وقت أداء الصلوات، وليس على الأولاد القصّر حرج في ألعابهم وقت الأذان وفي أثناء الصلوات حتى وإن كانت هذه الألعاب من الأنواع المتحركة الصاخبة، ويُكفون عنها من قبل الكبار حتى انتهاء الصلوات.

وفي حالة كونهم كباراً فقد يجد بعض الآباء والكبار في الحارة صعوبة في إيقاف عجلة ألعابهم وقطع الطريق عليهم في مواصلة ألعابهم، حتى يؤدّوا الصلاة في المسجد ويعودوا إليها.

أما جيران المدرسة فتلك ساحات يختلط فيها ربما الحابل بالنابل، فلا تكاد تميز بين أولاد جيران المدرسة القريبين، وبين أولاد الحارة نفسها وبين الأولاد الأباعد في الحارات المجاورة.. تشابك زمني ووقتي، يجمع أنواع الألعاب، ففي (الفُسحة) ألعاب، وبعد (الصرفة) ألعاب قبل الذهاب إلى البيوت وفي أثنائها، وليس ثمة مكان إلا هناك على أبواب وساحات وزقاق وتحت جدار وأشجار مجاورة للمدارس، وربما امتد اللعب في امتداد الطريق بحسب المسافة إلى البيوت، إذا كانوا من حارة واحدة، وإذا تعددت الحارات فهناك مكان يُحدد في منتصف الطريق أو نقط التجمع المتعاهد الالتقاء عندها دومًا..

فيتم من اللعب ما لا يتحصّل في البيوت وفُسح المدارس أو الكتّاب، أو لا يقبل التأجيل بما يملي عليهم عامل (العفرتة والشيطنة) أو لخوف وجودة فرص ثمينة للعب كهذه بعد العودة إلى البيوت والدخول في سلطتها.

وكثيرًا ما يخترق هذه الألعاب المنزلية أو يخبو صخبها الجميل ودويها المطرب في آن واحد، أوامر ونواهي الآباء والأمهات بالرِّسلات إلى بيوت الجيران أو إلى الدكاكين، أو لإلقاء القمامة، أو لفتح الباب إذا طُرق، خصوصاً إذا كان البيت متعدد الأدوار فيطول المشوار والمدة في النزول والصعود، ويكون الهم العودة سريعًا إلى اللعب المتوقف بسبب هذا (المرسول) وقد ملّ الجماعة انتظاره لاستئناف اللعب..

أو يتوقف اللعب عنوة بإزعاجهم لأهل البيت إذا كان اللعب حركيًا وصاخبًا لا يهدأ ولا يصمت.. أو يؤجّل فترة إلى أن يقوم بعض البنات خاصة بأداء أعمال البيوت من كنسٍ وغسلٍ وتنظيفٍ وترتيبٍ ممن عليه الدور، خاصة الكبير الذي يجيد الألعاب أكثر من الصغير في الغالب، فيؤجل اللعب حتى الانتهاء من أداء المهمة، ثم العودة إذا كان في الوقت بقية في ليل أو نهار، وبعد الانتهاء من الواجبات المدرسية التي غالباً هي الأخرى ما تكون مظلومة بانشغال البال والهمّ بالألعاب.. متى يحين وقتها متى.. ومتى نلعب..؟ والخشية من عارض قد يقطع عليهم الاستمتاع بها واستمرارها.

كانت ألعاب البنات أهدأ وألطف من ألعاب البنين، فلا تسمع منهن ضجيجاً كبيراً أو صخباً كثيرا، وفي أحيان نادرة تكون البنت أكثر شغباً وعناداً من الولد، ويحمل الولد في أحيان أخرى صفات البنات، فلا يشاغب ولا يضارب ولا يصاخب بل ظاهر حاله الهدوء والرأفة وشيئًا من البرودة.

وتلك الألعاب إذا كانت في البيوت فهي باعثة بالراحة والطمأنينة من الآباء، حتى وإن كانت مزعجة فأولادهم هنا في البيوت بين أيديهم وتحت أنظارهم، مع كون البيوت والشوارع والحارة كلها في ذلك الوقت تعد مناهج تربية وقدورة واحدة في كل الاتجاهات، إلا أن البيوت تطمئن وتسكن بدفء أهلها.

من تلك الألعاب: بنين: المدوان، الكُبوش، البرجون .. بنات حدارجة مدارجة.. بطح بطح.
مشتركة: الشرعت، الأصطفت، البِربر، السقّيطة، الكيرم، الحزازير، كشتينة الشيبة الولد، طرة وزرة، ، طقطيقة، لعبة الأعمى.. العريسة والعروسة، وغيرها من تلك الألعاب البريئة الجميلة.

رحم الله آباء تلك البيوت، وجزاهم على التربية القويمة خيراً كثيرا.. وأعان آباء وأمهات اليوم على حسن التربية والقدوة، وعلى اختيار أحسن الألعاب ذهنياً وجسدياً والكترونياً وأنفعها دنيا وأخرى.

عبدالله محمد ابكر