سيدي سعيد مكاوي.. من باب السلام إلى دار السلام.

عبدالله محمد أبكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
     سيدي سعيد مكاوي .. كأنني به في زمرتهم الوقورة بعوارضها البيضاء في صحن المطاف، وتحت رواق أقواس ونقوش باب السلام بالمسجد الحرام، وهو ينثر لنا جميل أخلاقه الحشيمة وسجاياه الباسمة، في هدوء وروحانية المكان المشرّف الطاهر في جلوس محبوب وزحام محمود.  

      يُشرِفنا عن كثب على زمان مضى بإشارات عيونه وإيماءات أهدابه بمكانز قيمه المصورة الجارية بين الأفئدة في سوانح المجالس الدينية و(المراكيز) الاجتماعية، وفي باحات جغرافيا مكة، ليعيّشنا محركات تلك السوح والميادين والمواقف التي قد أرى وابلها الآن على قلوب ظامئة إلى طيبات موائدهم، يهيئ ويسرّح لها الأجواء لتسجل صوراً من نواصع أيامهم، وحكايا نقاء حياتهم.. حياة مُلئت صفاءً كصفاء زمزم والصفا، وغذّيت بمذاقات أحباب عذاب، طالما تشوق إليها وإليهم باجتذاب.

       كأنني به وهو يحثّني بعينيه الهادئتين وقد أرخى عليهما طرفي غطرته البيضاء ذي الخط البُني المستطيل.. يحثّني على الإصغاء إليه وتتبع تلك  تستأهل منّا لزوماً الوقوف عندها متأملين مليّا بل الغوص فيها بكل آلات النباهة والتيقظ والإستحواز مساندة لأحوال مجتمعنا في ثغور عيشنا الراهن الهائم في الغياب، وكأنه كان ينذر بلمحات تلك الرموش رحيله في يومه هذا، وأنني سوف أتحسّر لتفريطي تلك اللحظات السانحة النشطة بعوامل مصادرها المباشرة بثرائها ودلائل أعينها، بشواهد حية وأخبار يقينة.
 
      صورة سيدي مكاوي وعم عبدالرحيم بسيوني، والسيد الغفوري وعم محمد الكحيلي ومن في صحبتهم في رواق باب السلام أو في رواق باب الفتح، في ليالي رمضان لصلاة القيام أو في ثنايا بقية الأيام تكاد تكون الصور الأخيرة من حضور أولئك المكيين بخمائل سجّادهم البهية، وأرديتهم الوسيمة الشجيعة في الحضور إلى هذا المكان الطاهر، منذ السحر إلى الفجر إلى الإشراق والضحى، ثم العودة في وقت الأصيل إلى غروب شمسه فصلاة المغرب والعشاء الآخرة.
 
     حضور روحي يصحبه حُب فطري ودأب نفسي يستروح من جوار  الكعبة مشاهد آمنة هادية مباركة.. يلتزمون مراوح القلوب حين يرفعون هتافاتهم إلى علاّم الغيوب.  

    وحين يلوّحون بالسلام في مجالس الدروس العلمية والفقهية ومذكّرات السيرة النبوية، ينضمون إلى كواكب الرجال ومصافّ المعارف والوجوه المشرقة بحضورها المواظب الشغوف والمُسعف لتداعيات الحديث ولذاكرة المكان ومحتواه العضوي الاجتماعي والجغرافي، كنوع لازم الوجود بزيّه وطابعه المحلي الرصين.. رجال كانوا رموز حضور مضيئة في اللقاءات العلمية والتلقي المعرفي في مجالس مكة المكرمة العلمية والاجتماعية التي أخذت تستقل مطايا الرحيل.

     رحيل سيدنا المكاوي بعمادته في العائلة وعضويته في زمرة رجال حين يجتمعون في المسجد الحرام وفي مجالس العلماء الأعلام، منهم: الشيخ محمد سفر والشيخ إبراهيم مجلد، والشيخ عباس مقادمي، والشيخ عبدالله سندي، والشيخ عبدالله بصنوي، والسيد الحبيب محمد الكاف، وعم عبدالقادر بغدادي، والشريف حسين بن راجح، والحبيب عبدالله العيدروس، وعم عربي مغربي، وعم سرور با سلوم، وعم عارف، وعم عبدالرحمن خياط، وعم محمد خياط، وعم أحمد موسى، عم عبدالعزيز محضر، وعم حمزة قزاز، عم عبدالرحمن متولي، وغيرهم ممن غيّبتهم الذاكرة، رحم الله من مات منهم ومتع الأحياء بالعافية وصالح الأعمال.

    قد ينذر غياب هؤلاء أو قد أنذر إرهاصاً بنهايات المشوار في الطريق، في زمن يتناقص فيه وفاء الصديق، يتركه ليعزي نفسه ويبكي حاله لفقد مؤازرة صديق حميم، إلى وشوق ووحشة وغربة، إلى تحدّرات أدمع وانتشار أحزان، إلى مكابدات حياة ومكدّرات أزمان.     

      للحديث أشجانه وللميت مناقبه ومحاسنه، وخوف حين ترحل بأولئك محاسن أخلاق وقيم رجال وعادات مجتمع قويم، من جيل هو أحوج أن تحضر في ساحات واتجاهات مكتسباته الحديثة لتقيمه وتقوّمه وفق مناهج تلك السلوك بمحاسنها الكريمة وأخلاقها القويمة، المعتمدة في كل زمان ومكان.

    رحم الله سيدنا سعيد محمد مكاوي وجزاه عنا خيرا، توفي يوم الخميس 16/12/1441هـ وأخته في التاريخ نفسه، تقبلهما في هذا الشهر الحرام في البلد الحرام، واجعلهما في رفقة سيد الأنام في جناتك دار السلام، إنك غفور رحيم يا ذا الجلال والإكرام.