في الشامية كانت لنا أيام ( 1 )

ما سأكتبه عن حارة الشامية التي تربيت على أخلاق ساكنيها وترعرعت في أكنافها وعايشت بعضاً من أهلها ، لا يعكس توثيقاً تاريخياً بمعناه الأكاديمي للشخوص والأماكن بل مجرد رؤية وانطباعات شخصية تكتنفها الكثير من العاطفة محملة بأشواق جمة لتلكم الحارة وأهلها يعكس معايشة دامت لأكثر من ثلاثين عاماً .

أبدءوها من المنزل الذي تربيت فيه وقضيت فيه كل فترة الطفولة والمراهقة والشباب هو منزل الشيخ زيني بن حسن بن زيني الآشي ، الذي كان عنواني وعنوان كثير من سكان حارة الشامية ، لسببين رئيسين أولهما أن الشيخ زيني جدي لأبي رحمهما الله رحمة واسعة وأسبغ عليهما من فضله ومنه وكرمه وتجاوز عن سيئاتهما وأبدلها حسنات وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة مع الأنبياء والصديقين والشهداء ، كان من الشخصيات المعروفة في معظم الأوساط المكية إن لم تكن كلها ، لأنه كان رحمه الله من كبار مشائخ ( مطوفي ) طائفة الجاوة وراثة عن جده الشيخ زيني بن حسن بن نور الدين الآشي الذي تولى منصب شيخ مشايخ طائفة الجاوة عام 1294هـ. بفرمان من شريف مكة في ذلك الوقت الشريف عون الرفيق ( مرفق صورة الفرمان ) كما كان رحمه الله دمث الأخلاق ظريف الحديث لطيف الحضرة مع شدة وحزم عند اللزوم ، وكان يعتبر في زمانه أحد وجهاء مكة المكرمة المعروفين ، والسبب الآخر هو أن مكتب البريد كان في بيتنا والذي كان كغالبية البيوت في المنطقة المحيطة بالحرم المكي الشريف ، طابقه الأرضي عبارة عن دكاكين ، وأحدها كان مؤجراً لمكتب البريد قبل أن ينتقل إلى بيت الكتبي في برحة القطان .

ومن عجيب الأمر أن هذا البيت وأنا ولدنا في نفس السنة ويحمل على جدرانه وأرضياته وسقوفه وبين ثناياه بصمات تلك الفترة الزمنية الزاهرة من ذكريات الصبا وأحلام المراهقة وعنفوان الشباب ، شهد البدايات الأولى لتعلمي القراءة والكتابة ودخولي للمدرسة الابتدائية وأحتفل معي بتخرجي من جامعة أم القرى ، وشاركني فرحتي بزواجي وبولادة اثنين من أبنائي الخمسة حفظهم الله ورعاهم ويسر لهم دروب الخير والرزق والعافية أجمعين ، وكنا جميعاً نسكن فيه جدي زيني ووالدي وعمي أحمد والعمات رحمهم الله جميعاً .

كان ( قبل مشروع التوسعة الأخير في عام 1429) هذا المنزل على الشارع العام ( شارع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ) ولم يكن داخل الحارة ، ولأنه كان على الشارع العام فالمساحة المتاحة لنا للعب كأطفال كانت محدودة جداً تتجاوز جدران المنزل لتصل إلى أبعد حد للرصيف تحت الرواق - وهو عبارة عن ارتداد للدور الأرضي للمباني لترك مساحة للمشاة ولجلوس أصحاب الدور أمام بيوتهم كعادة أهل مكة - ثم يبدأ الدور الأول ليغطي ذاك الارتداد ويرتفع بعد ذلك بحسب طوابق المبنى ، وهو أمر كان مألوفاً في البيوت المكية خاصة المحيطة بالحرم .

في الجهة المقابلة يوجد بيتنا القديم قبل انتقال العائلة للسكن في هذا المنزل وعلى اليمين منه كان مركاز عم إبراهيم خوج أمام البيت الذي كان يسكنه والذي كان يحرص عند نزوله للحرم لأداء صلاة المغرب أن نكون نحن الصبية داخل البيت ، فلم يكن مسموحاً للصغار البقاء خارج البيوت من بعد صلاة المغرب ، يصيح بنا ( ياللا يا واد إنتا وهوا على البيت لا أشوف واحد فيكم واقف برة ) كنا نخشاه ونحبه في آن ، نخشى سطوته لعلمنا بأنه سيستخدم العصا لمن لا يسمع الكلام دون أن يلومه أحد ، وتلك كانت إحدى عادات أهل مكة فلكل الكبار الحق في توجيه وتربية الصغار وضربهم لو لزم الأمر دون ملامة من أحد ، بل قد يلام أحدهم لو لم يفعل ، فقد كانت مسئولية التربية والرعاية للصغار تقع على كواهل جميع الكبار في الحي ، وكنا نحبه لظرفه ومرحه وخفة روحه وكرمه رحمه الله .

وهناك زقاق صغير يؤدي للبيت الذي كان يسكنه السيد أحمد برقة – وهو من آل البيت ومن مطوفي أفريقيا غير العربية – وهذا المنزل والمنزل الذي يليه في نفس الزقاق وقف الشيخ عبد الصمد الفلمباني – وهو من كبار علماء الشافعية وله مؤلفات عديدة - كان يسكنه العم عبد الصمد هاشم كماس وكان من ألطف الناس وأحسنهم حديثاً ورقة في المشاعر ، ويطل هذا البيت على برحة البدوي ويقابله مباشرة من الجهة الجنوبية للبرحة بيت البدوي والذي كانت تسكنه كل عائلة البدوي وأذكر منهم الشيخ حسن – وكان حافظاً للقرآن ومدرساً بمدرسة تحفيظ القرآن وإماماً لمسجد الحريري الواقع في القرارة بجوار بيت المنصوري ، وبيت عم عباس بشاوري الذي كان من وجهاء الحارة ومن أهل الظرف والمرح ، وبيت البنجر وكانت جدتهم هي الفقيهة عباسية راوية التي كانت تعلم الفقه ، وبعد بيت بنجر في اتجاه الشارع العام وقف السادة الذي كان فيه دكان المنشي لإصلاح الأجهزة الكهربائية خاصة أجهزة سحب وضخ المياه (الدينمو والمواطير) .
ويليه على الشارع العام بيت البشاوري وكان يسكنه عم محمد بشاوري قبل انتقاله إلى المدينة المنورة حيث توفي ودفن فيها ، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ، ثم يليه بيت الرفة وتحته دكان العم عبد الرحمن بنجر لخياطة الثياب ، ثم تحول لمحل بقالة شغله لفترة طويلة العم رشاد باشا وبعده بيت الشيخ زيني علايا أبو النجا الذي سكن فيه لفترة طويلة العم أحمد شير بنجابي – حتى حسبناه بيته - وهو من كبار مطوفي الهنود والباكستان ويليه وقف غضنفر وكان يستأجره الشيخ سليمان دمنهوري وهو من مشائخ الجاوة ، وكان به من الواجهة الجنوبية دكان للحلاقة يديره الأخوين عبد الأحد وعبد الواحد .

وفي الطريق إلى الحرم ، نزولاً من بيتنا ، تجد على يسارك زقاق النصير وفيه بيت العم عبد القادر نصير وهو من كبار مطوفي الهنود والباكستان والذي يوجد فيه مطعم الأكل الجاوي لصاحبه الأنكو – وهو لقب جاوي معناه المعلم أو الطباخ - عبد الرحمن فادن المشهور بالبويوم يليه في بيت البركاتي دكان صغير للعم عبد الرحمن بنجر للحلاقة وبعده دكان الزقزوق لصناعة البراميل والتنك الصفيح التي كانت تستخدم لنقل وحفظ ماء زمزم من قبل الحجاج لأخذه معهم إلى ديارهم بعد أداء فريضة الحج ، ويقع هذا الدكان في بيت الشيخ سالم شفي ، ويليه محل الخطاط والرسام نعمان باشا ثم محل بيع الآيسكريم ( المثلجات ) ومكانه اليوم تقع المكتبة التجارية لصاحبها العم مصطفى باز بعد أن كانت في المسعى ثم انتقلت للشامية بعد عمليات التوسعة للحرم ، ثم بيت الكتبي حيث أنتقل مكتب البريد ويوجد به اليوم مطعم ، وعلى يساره زقاق العجيمي وكان يوجد في بداية هذا الزقاق وقف السنبل وبعده بقليل في اتجاه الحرم برحة القطان والبيت الكبير الذي كان يسكنه الشيخ عباس يوسف قطان عميد عائلة القطان وكان أول من حمل لقب أمين العاصمة المقدسة في العهد السعودي – سكن في هذا البيت لفترة ليست بالقصيرة عم برهان سيف الدين مطوف لحجاج أفريقيا غير العربية ، ثم تحول هذا البيت إلى فندق بعد ترميمه وإدخال الكثير من التحسينات عليه - وأمام ذلك البيت كان مركاز العم صالح عاشور وقد كان نحاساً يقوم بصناعة وصيانة الأواني والقدور النحاس في الفترة التي كانت تستخدم فيها تلك الأواني النحاسية للطبخ ، وكان دكانه في زقاق العجيمي وبعد وفاته أصبح العم أحمد راوة هو صاحب المركاز والقائم على شئونه ، وهو أحد كبار مشائخ الجاوة وكان رقيقاً لطيفاً أنيقاً في ملبسه وحديثه ومأكله وكل شئونه كما كان من وجهاء الحارة رحمهما الله وغفر لهما .

في هذا المركاز كان يجتمع العديد من أهل الحارة ونخبة من أهل مكة يومياً خاصة من قبل صلاة المغرب ، وبعد صلاة العشاء في الحرم ، يكملوا سمرتهم في بيتنا حتى قبل منتصف الليل ليعود كل منهم إلى داره ، وأذكر منهم طبعاً الوالد رحمه الله وعمي أحمد ، والعم عبد الرحمن أبو راشد والعم أحمد راوة والعم حمادة خوج والعم صالح خوج والعم حمزة خوج والعم عبد الرحيم طيب بخاري والعم صدقة مداح والعم فؤاد حمدي والعم حمزة قزاز والعم محمد خياط ، والعم حسين بوقيس والعم عبد الفتاح ( عبدو ) بوقيس والعم إبراهيم سليم والعم عباس بشاوري والعم علي فلمبان والسيد عبد العزيز مالكي والعم محمد بو والعم علي مختار والعم علي رمل والعم علي قستي والعم رشاد نقيب والعم سليمان دمنهوري والعم حمزة بوقري بعض الأحيان رحمهم الله أجمعين وآخرون غير معاودين نسيت أسمائهم .
 
في الجهة المقابلة للمركاز على الطرف الآخر للشارع العام يقع مرمى البلدية للنفايات التي تجمع من كل المنطقة المحيطة بالشامية وجبل هندي والفلق والقرارة ، ومن عجائب الأمور أن يستمر ذلك الموقع في مكانه على الشارع العام حتى يومنا هذا بشكله المقزز للنفوس ليصبح معلماً من معالم الحارة على ما فيه من قاذورات ونفايات تزكم رائحتها الأنوف وتخرج منها الكثير من السوائل اللزجة العفنة التي تملأ الشارع العام وصبغته بلون داكن عفن نتيجة التخمرات المستمرة للنفايات ، ومرامي النفايات - كما يعرف أهل النباهة من الناس - أحد أكبر مصادر انتشار الأوبئة والأمراض دون منافس ، دون أن تفكر أمانة العاصمة في نقله إلى مكان آخر بعيداً عن صدر الحارة ، وقد يكون هذا الأمر مقبولاً في الزمن الذي كانت تستخدم فيه البهائم من الحمير والبغال لنقل النفايات قبل النقلة – الحضارية - الكبيرة في إستخدام السيارات والضواغط والتي أضحت في حد ذاتها أحد مصادر التلوث المتحركة في الشوارع - و لربما كان الغرض من إبقاء المرمى في مكانه ذاك هو منع بعض أهل السطوة من الناس في بسط يده على ذلك الموقع واستغلاله في غير ما تخطط له أمانة العاصمة المقدسة – فيما يشتهر عنهم في الأمانة من براعة في التخطيط المستقبلي بعيد المدى غير المنظور لعامة الناس وخاصتهم - أو ربما لتأكيد أن النفايات أحد الكنوز غير المكتشفة ولتحقيق مقولة أن الشامية مكان الذهب بالأوقية .

 في تلك البرحة ومع البدايات الأولى لدخول شهر رمضان المبارك من كل عام كانت تنصب العديد من المراجيح الدولابية الحديدية ومراجيح اللوح – وكان يقيمها ويديرها العم حسين إدريس رحمه الله وأخوه العم حسن إدريس رحمه الله وغفر له ، وبعض شباب الحارة أذكر منهم فايز بنجر المشهور بالجحرش – وبعض الألعاب الأخرى وبعض البسطات لبيع البليلة والكبدة والكباب الميرو ، كما كانت هناك بسطة العم محمد شعباوي للساتي – وهو نوع من المشاوي الجاوية باللحم أو الدجاج يعد في أعواد صغيرة من خشب البامبو أساساً -  والأكل الجاوي والذي يختلف عما يقدمه مطعم البويوم من مأكولات جاوية .

ونزولاً إلى الحرم بعد برحة القطان تشاهد بيت الشيخ عطا إلياس ودكانه لبيع الأدوات المكتبية من طاولات وكراسي وخزائن الحديد ، وبجواره بيت القطب وبيت الباشا يفرق بينهما زقاق صغير يؤدي لبرحة إلياس ، وبالعودة للشارع العام كانت هناك قهوة ( مقهى ) صغيرة على يمين النازل للحرم تقع في وقف الكركي وكان مبنياً بالحجارة ثم أعيد بناؤه بالأسلوب الحديث ليصبح فندقاً الآن وهو وقفٌ وناظره خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله ، وبعد هذا المبنى كان دكان العم أحمد إدريس وبجواره في الزقاق فرن جمال ودكان العم يوسف الجزار ، وكانت هناك معصرة للسمسم خلف دكان العم أحمد إدريس وفرن آخر هو فرن أبو راسين .

وفي مقابل القهوة على يسار النازل يقع مركاز الشيخ عبد الله بصنوي عمدة الشامية رحمه الله ، أمام بيت أبو ناجي وبعده بيت الألفي ثم زقاق الكدوة المؤدي إلى القرارة مروراً ببيت الباشا ووقف المغاربة وبيت العم عبد الله حريب وبيت البدري ثم الكدوة – والكدوة وزقاقها الموصل لبيت القامة تعتبر من القرارة – وبعدها على اليمين درج تؤدي إلى برحة المنكابو وبها بيت الطيب وبيوت الفلمبان والخالدي وكانت في الزقاق المؤدي إلى الحرم دكاكين الخوج والبوقري والطيب والدهلوي ، ولمن واصل المسير بعد الدرج يجد نفسه بجوار  بيت القامة الذي كانت به المدرسة العزيزية الابتدائية ودكان عم سرور با سلوم للسمبوسة ومسجد الحريري وزقاق العجيمي ، ويلي زقاق الكدوة نزولاً إلى الحرم على شارع عبد الله بن الزبير زقاق البازان – وهو خزان لتجميع المياه كان السقاؤن يحملون منه المياه لتوزيعها على البيوت ، ولا يزال مليئاً بالمياه إلى الآن بالرغم من إقفاله وعدم إستخدامه منذ فترة ليست بالقصيرة ، ويطل عليه بيت قديم له رواشين كان في السابق مقراً للمدرسة العزيزية الابتدائية قبل أن تنتقل إلى بيت القامة في القرارة أمام عمارة الأشراف بجوار دكان عم سرور با سلوم رحمه الله تعالى صاحب السمبوسة المشهورة في مكة ، وعند باب البازان كان دكان عم حسن حلواني لبيع الحلويات المكاوية مثل الطحينية واللبنية واللدو والهريسة والمعجون والمشبك والمفروكة ، ثم تقابلك دكاكين السبحي والغزاوي والحسون وأبو عرب والنواب والسراج لتصل إلى الدرج المؤدية إلى الحرم عند باب الزيادة وباب الندوة وباب الشامية ، مكان الميضات والحمامات الآن ، أعزكم الله . 


كتبه : عبد الجليل حسن زيني الآشي