رأيتُ أمَّ كــُلثوم بمكة في سُويقــَة، حارَة الشامية

د.إبراهيم عباس نــــَتـــّو،
عميدسابق بجامعةالبترول.

كان لجدَّتي (سِتِّي) جواهر سُكنى في الجانب المجاور الأقرب للحرم في سويقة من حارة الشامية، و هي الحارة التي تأثرتْ مؤخراََ بآخر توسعةٍ كبرى للحرم المكي فكانت على عهد المرحوم الملك عبدالله.

ذلك الجزء من الحارة و الذي يلاصقُ الحرم في جهته الشمالية من الكعبة التي بالطبع أبرز ما فيها حِِجرُ اسماعيل و في اعلاه على الكعبة مِزرابها/ميزابها. كما و كأنَ أمامَ الحِجر مقامُ إبراهيم و باب بني شيبة و أيضاََ موقعٌ بينه و المقام الشافعي لحفظ المنبر بعجلاته التي كان يُدفعُ به من هناك ضُحى كل جمعة إلى قـــُرب باب الكعبة تهيئاً لإلقاء خُطبة الجُمعة و خطب الأعياد.

أمَّا بقيةُ الجانب الشمالي من المسجد فكان به مقرِ المقام الحنفي في حصوة فِناء الحرم الأقرب إلى باب العمرة. و قيل لنا أثناء دراستنا الابتدائية انّ بموقعه ذاك كان (دار الندوة)، مجلس التشاور و الشورى فيما قبل الإسلام.

عدا هذا، ففي المنطقة الشمالية من الحرم مما يلي حارة الشامية كان هناك اساساً شيئان: محاكمُ البلد و كانت تقعُ في أسفل ذلك الجزء من رواق الحرم؛ ثم مباشرة بعد (باب زيادة) فتبدأ أسواقُ الشامية، بــَدءاََ بــ(سُويقة).

و سويقة هذه كانت مركزاََ اساسياً للتسوّق و الأغراض المصاحبه، بما يشبه ما يَحدُثُ الآن من (تـــَنزُّه) في الأسواق المُغطاة/المولات!

فلقد كان سوقُ سويقة ممتداََ و متفرعَ الجوانب متعددَ الأغراض.
و منها العطور و الكماليات، و لوازم  التقيين/التجميل؛ و بعامة كان سوقاََ للأقمشة مع القليل النادر من الألبسة الجاهزة، اللهم، إلاّ تلك التي كانت لصغار الأطفال.

و كان الأقرب إلى الحرم من جهته هذه، مواقع مثل محل القــَزّاز (الرئيس و الأول) لصاحبه حسين بكري قــَزّاز.. و اذكر ذات مرة رؤيتي العم حسين في صدر متجره واقفاََ يديرُ أموره. و كان المخل على يمين الخارج من الحرم من 'باب زيادة (باب الزِّيادة). و اذكرُ أنْ كان بقرب عدة أبواب، غير انه ربما كان (زائداََ) نتيجةَ زيادةٍ أو توسعةٍ أو إضافة، او ربما لتسجيل اسمٍ لباشا او والي! فمثلاً كانَ بجواره بابُ (دُِريبة)؛ و بابُ (القــُطبي)؛ و باب (الباسطية)!

كما و إنَّ رُواقَ المسجد في الناحية الشمالية كان عامراََ بعددٍ من الحلقاتٍ الدراسية في فنون اللغة كالبلاغة و الأدب و الأجرومية؛ كما كانت حلقاتٌ دراسيةٌ في عدد من التخصصات في المجالات الدينية، من فقهٍ و حديثٍ و تفسير. و هذه و تلك كانت تـُعقدُ في فترات ما بين الصلوات، كالضُّحى و فيما بعد العصر و ما بين العِشائين؛ فأذكرُ مثلاََ حلقة الشيخ حسن مَشـّاط. و سمعتُ عن حلقات لِمثلِ الشيخ حسن (أو سعيد) يماني، و لعلها تشبه حلقة الشيخ محمد نور سيف بقرب باب العُمرة، شَيخي بمدرسة الفلاح. و بعد مَخرج الحرم هنا مباشرة يبدآُ سوقُ الشامية. و هنا رأيتُ أمَّ كلثوم.

فيبدو اني ذاتَ يوم (لعله في ١٩٥٦م؟) كنتُ ذات عصرية في زيارة لجدتي، و كانت سكناها على امتداد 'باب زيادة'. و امتدت زيارتي هذه المرة إلى فترة المغرب، و خرجتُ بعدها للرجوع للبيت في جبل عمر بحارة الشبيكة ماراََ بقاعة الشفا و باب العمرة، فإذا بي أفاجأ برؤية حركة في زحمة تجمهرية غيرِ عاادية فتوقفتُ، و اذا بي أرى أمامي السيدة أم كلثوم في حُلّة ملائكية من ملابس بيضاء (أنظر الصورة)، مُحاطة بعددٍ من الناس و ربما بثلةٍ من المرافقين.

كانت مفاجاة رؤيتي شخصها الذي ما كان ليشاهده معظمنا بمكة، فما كان لنا أن نراها الا ربما في صفحة في مجلة (المُصوَّر) او في غلاف بمجلة (آخر ساعة) المصريين. كما و لقد كانت معرفة شعبنا بشخص أم كلثوم مَعرفةً سَماعية و ذلك من خلال الجلوس لحفلتها من الغنائية على المذياع في أول ليلة جمعة من كل شهر. وَ لم يكن لدينا تلفاز عام - بعد- لمشاهدتها و التعرِّف على ملامحها مباشرة.

و كانت مفاجأتي الأخرى عند رؤية أم كلثوم -و انا صبي ربما في التاسعة او العاشرة انها كانت في زيّها كاملِ البياض، و ما كانت لي خبرة بهذا اللبس الذي كان يختلف عن النمط العام عندنا المقتصِر عموماََ على السواد، [اللهم عدا معرفتي بسيدة مصرية أخرى، كانت جارتنا، الدكتورة إنصاف، و هي التي كانت تعيش في مكة ليس بعيداً عن متجر والِدي في السوق الصغير، و كانت تلبسُ لباساََ أيضاََ أبيضاََ.. و كنتُ أراها بشكلٍ شبه منتظمٍ أثناء مرورها من مسكنها في طريق/زقاق الجنايز و هو  الشارع التالي لزقاق الصَّوَغ المجاور لنا. فكانت الدكتورة إنصاف تتوشح بما يشبه في ذهني ما ارتدته السيدة أم كلثوم من البياض، عَدا أنــّها كانت تضع كابّاََ Cap على كتفيها حين خروجها اليومي لدوامها الطبي.

أمّا أم كلثوم هنا فكان كاملُ ردائها مكتملَ البياض و كان مُؤقتاََ لفترة قدومها إلى مكة المكرمة في عمرة بدعوة و ضيافة الأمير عبدالله الفيصل (أنظر الصورة)، و هو الذي كان من كبار جمهورها المعجَبين. و علِمتُ -فيما بعد- عن تلحين و غناء اغنيتين لسُموِّه: (ثورة الشك)، و (من أجل عينيك عَشِقتُ الهَوى) و جرى أداؤهما على مسارح القاهرة الشهيرة. و عرفت أنْ كان قد قام الموسيقار رياض السنباطي بتلحين الأولى في ١٩٦٢م، و الثانية في ١٩٧٢م.

ذاك الزقاق الذي مرّت فيه أم كلثوم كان عامراََ بعدد من الحوانيت و المحلات مثل محلَ القزَّاز، الذي كان حتى في تلك الحقبة قد صار رائداََ في تجارة العطور و استيرادها، فكان منها العطر المشهور في بيوت مكة المكرمة الذي تمَّ ترويجُه تحت اسم 'ليالي باريز' (Soir de PARIS).. في زجاجات متميزة القوام، داكنة الازرقاق، من إنتاج شركة بورجوا Bourjois. و لعلّ ذلك العطر و أمثاله كان السائد قبل بدء شيوع عطور أخرى مثل عطر 'مدام كوكو شانيل; ثم عشراتٌ من الأسماء!

لكن، كان من أشهر الأصناف بمكة المكرمة: عطرُ/كولونيا في عدة روائح و نكهات، كان اشهرها بنكهة الليمون الذي كان و ظلَّ يُستخدمُ عندنا في المناسبات و في حفلات الأفراح لعدةِ عُقود، بل و إلى الآن.

بعدَ إقـُترابِ انتهاء جزء زقاق باب زيادة، بدأ توجَّه موكبِ السيدة نحو تفرّع سوق الشامية حيث أنواع الأقمشة، و شملَ انواعاً أخرى من المنتوجات كالساعات (موفادو، زينيث، رومر، و جوفيال؛ و كذلك الساعة المشهورة خاصة بين رجال مكة (لجودتها في دِقـّــَّتها): 'أم-صليب'، شعار علم سويسرا، من صنع شركة West، و كان يبيعها متجرُ الغباشي في سويقة.

في هذا الاتــِّجاه مضت السيدة؛ و كان من أشهر الحوانيت هنا متجرُ (المشَّاط)، و هو المشهور ببيع (الكُلـَفْ) و مختلف المستلزمات  الدقيقة المطلوبة  لأغراض النسج و التطريز و الخياطة المنزلية عند نساء (و فتيات) مكة أيام زمان، حين كان في كلِّ بيتٍ مكينةُ خياطة و مَنسَجٌ تعملُ عليه السيدات و تتدرّب عليه الفتيات.. و ذلك لعملِ انواعٍ من تطريز و تجميلِ الملابسِ النسائية و أيضاََ الرجالية، بما يشمل ديكور صدر الثوب حول الأزارير، و (ياقة) الرقبة Collar، و بالتأكيد لتطريز الأطراف الظاهرة في اسفل السراويل المُشتَغَلَة.

و كانَ لدىَ المشَّاط و أمثاله اصنافٌ عديدة مما كان مشهوراََ و معروفاً في كل بيت من المُنتجات 'الجديدة' كما تنمُّ عنها اللفظة الفرنسية (نوفوتيه) Nouveautes، و لو أن المقصود كان للإشارة إلى (كافة) المتطلبات الإضافية Haberdasheries؛ للتزويق و الزركشة أثناء التدبير و التزيين المنزلي للملبوسات و نحوها، بما يشمل ما صار يُدعىَ بلفظ (الإكسِسوارات). و كانت 'نوفوتيه' تُنطق عتدنا كما في أصلها الفرنسي و كأنها لفظة مفردة، (بدون نطق حرف الجمع في آخرها)! (و بائعُ النوفوتيه الأشهر في جـِدة كان نوري ابوزنادة؛ و لا أعلمُ أكانَ هو المُورِّدَ العام في جدة و منها إلى مكة، أمْ أنّ المَشَّاط كانت له وكالته و كان له استيراده المستقل به بمكة. و كان سوق الشامية يُذكرنا -و لو بشكل مُصَّغر- بالأسواق المُغطّاة في إسطنبول؛ و في سوق الموسكيه في القاهرة قُرب مسجد الحُسين؛ و سوق الحَميدية بدمشق.

كما و لم الحظْ بعد انعطاف خط سير السيدة إلى اليمين ما إذا فعلاََ توقفتْ أم كلثوم عند متجر المشَّاط -أو غيره؛ و ذلك ربما من أثر خِضَمّ الإسراع بها بعد انتهاء طوافها بالبيت للعمرة، محفوفة بمرافقيها في طريق عودتها إلى حيثُ تمَّتْ استضافتها هنا في مكة، بحارةِ الشامية.