شعب أَبي دُب ( دحلةُ الجن )

حينما نتذاكر الأحياء المكية، أحياء وحواري مكة العتيقة ، فنحنُ نقلب صفحات من التاريخ، ونفتش في ذاكرة حاضرة، فمكة المعظمة ، أم القرى، وحاضرة العمران، جعلها الله تعالى في بؤرة التاريخ وموضع عناية التاريخيين قديما وحديثا، فدونوا في تاريخها المطولات والمختصرات، وكتب عنها العرب والأعاجم فجاء سجلها سلسلة متصلة الحلقات ؛ أحداث وتراجم ، ومناشط حضارية.

وسنعرض اليوم لحارة عتيقة من أحيائها، تراصت دورها وتشابكت فكأنها تستند ببعضها، تتواصل فيما بينها عبرما يعرف بالمناور؛ فصارت موائدها وكأنها أعدت في بيت واحد.. تلك مراسيل الطعمة، و ذاك عهد النقاء وصفاء السريرة.. تلك دحلة الجن، حارة قديمة . سمتها أمانة العاصمة شعبة الجن، وهي في الشرق جغرافياً، قبالة مقبرة المعلاة، وتعد من الأحياء التابعة لمحلة شعب عامر.ولكونها تتبع الشعب غدت فيما يبدو في منطقة ظل التاريخ والرواية.

أما مسمى الدّحال فيكثر في مكة المكرمة ، وهو في الغالب لحارات واقعة بين أو على أطراف الجبال . يقول ابن منظور :الدحل : هوة ضيقة في الأعلى واسعة في الأسفل .وذكر صاحب المعجم : الجرف :ما تجرفته السيول فأكلته من الأرض ، وقيل الجرف : عرض الجبل الأملس ، وقيل جرف الوادي ونحوه من أسناد المسايل إذا نخج الماء في أصله فاحتفره وصار كالدحل . فالدحل مدخل أو هوة تحت الجرف ، وقد يطلق على ما يحدثه جريان سيول الجبال من جرف شديد في الأرض . ويذهب البلادي في تعريفه للدحلة بقوله: أرض واسعة بطرف الجبل أو تجويف فيه.

وكانت هذه الحارة قديماً تُعرف بشعب أبي دُبّ ، وهو رجل من سواده ا بن عامر بن صعصعة، وقيل أنها كانت مقبرة في الجاهلية وصدر الإسلام ، حتى قيل أن بها قبرأم النبي صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في بعض الروايات وهو ضعيف. وجغرافية هذه الحارة أشبه ماتكون بشعيب بين عدة جبال ، فيحيط بها جبل قرمان ثم جبل السودان جنوباً، وجبل أبي سلاسل شرقاً وشمالاً، ويفتح مسيالها غربا على ما يعرف بالخريق قديما وشارع الحرم حاليا، وتقوم مبانيها على سفوح هذه الجبال وفي وسط الشعيب، وهي تعد من أحياء حدود مكة خارج سور المعلاة في العصور المتأخرة،وذلك لتاخمها لمسجد الجن المعروف قديما بمسجد الحرس حيث كان العسس لأعلى مكة يجتمعون عنده،وهو فيما يقال الموضع الذي خطه رسول الله  لابن مسعود ليلة استمع عليه الجن ، وان الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيه .

ويبدأ حد هذه الحارة من الحجون القديم أو الأول – لا الحجون المشهور حالياً- وهو الجبل المشرف على المعلاة إلى الشرق من مسجد الجن ويفصل بين الدحلة وبرحة الرشيدي وكنا نسميه الطلعة ولقد عايشت الآليات مرات عدة تحاول أن تأخذ منه لتسويه بالأرض ، وينتهي حدها الخارجي شمالاً بحارة فوق عند منجرة عربي المغربي. أما حدها الداخلي فجبل أبي سلاسل ثم جبل قَرَمان، وتمتد من الجهة الغربية على باحتها والتي كانت تتصل قديماً بما يعرف بالخريق الموصل إلى ميدان الساعة قديماً في موقع كوبري الحجون حالياً.

و استيطان هذا الحي يرجع تاريخه إلى صدر الإسلام، فقيل أن أول من سكنه هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عقب عودته من التحكيم فبنى فيه سقيفة وحفر بئراً يذكر البعض أنها هي البئر المعروفة إلى وقت قريب ببئرغيلمة،وقد طمست هذه البئر ثم أعيد حفرها في العصر العباسي ، وبقيت تحمل اسم غيلمة حتى طمرت في التوسعة الأخيرة عقب هدم ميدان الساعة وبناء كوبري الحجون .

ويذكر الفاكهي أن شعب أبي دب عرف في عصره _ القرن الثالث الهجري _ بشعب الجزارين لأن به مجزرة مكة. وفي القرن الثاني عشر الهجري أطلق المحبي على هذا الشعب مسمى شعب العفاريت .

ومن خلال الاستقراء في كتب التاريخ المكي المتاحة ، لم أقف على مايشير إلى سكنى واستيطان هذا الحي بشكل واسع في الفترة المبكرة ؛ ليعد من الأحياء المكية المأهولة، ويبدو أن تأهله بالسكنى كان مع توسع مكة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري ، رغم أن هناك أحياء أبعد منه جغرافياً ولكنها عمّـرت واستوطنت. وسأصف ما استطعت جمعه بالرواية الشفهية من بعض المعمرين عن أحوال الحي خلال القرن الرابع عشر.

فيذكر البعض انه كان في بدايته عبارة عن عشش وبيوت من الحجر، ومن أوائل عماراته المبنية على الطراز المكي: بيت حسن البياري المبني في البرحة من الدحلة ،وخلفه بيت عبدا لعزيز بن يوسف والذي بناه المعلم يوسف باتي، حيث مدرسة البنات الابتدائية سابقا. وبالحي ورشة مشهورة في جبل أبي سلاسل لتقطيع الحجارة ومصنع للنورة.

بقلم : د.عبدالله العبادي |
مصدر الصورة : كتاب مكة من السماء  | تأليف :  الدكتور معراج بن نواب مرزا والدكتور رمزي بن أحمد الزهراني