تحليل غرافيكي لرسومات المسجد الحرام بمكة المكرمة | د.رزان عرقسوس

    اختارت الباحثة إجراء هذه الدراسة بسبب الاهتمام المتنامي من قبل الباحثين حول مكة المكرمة وبالأخص المسجد الحرام الذي يميزها. من القرن التاسع عشر الميلادي وحتى اليوم أُزيلت العديد من العناصر المثيرة للاهتمام من المسجد الحرام بسبب التوسعة على الحجاج والمعتمرين والزائرين وبالتالي فُقدت وظلت في ذاكرة الأجيال السابقة بينما تجهلها الأجيال الحالية. منذ بناء المسجد الحرام وإلى الآن تغيرت ملامحه تماما كلما تتابع الهدم والبناء للعناصر مما نقله من نموذج معماري إسلامي قديم إلى عمارة حديثة ثم عمارة معاصرة مختلفة تماما عما سبقها.

    من أجل هذا يهدف البحث إلى اتباع طرق لمحاولة استعادة العناصر التي هُدمت من خلال الرسومات القديمة بنسج شبكة من الأفكار المعاصرة التي تساعد في مناقشة القضية من خلال معارف ومشاعر الجيل الحالي. في هذا البحث تم تجميع عشرين رسمة ثنائية الأبعاد مأخوذة من مخطوطات وأعمال فنية من التراث الإسلامي رُسمت ما بين القرن الحادي عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين. رُتبت هذه الرسومات تصاعديا حسب التسلسل الزمني لظهورها بناء على المعلومات التاريخية المتوفرة عنها مثل اسم الكاتب، التاريخ، المنشأ، الأبعاد (يُذكر هنا في حالة المخطوطات أن اسم الكاتب الذي يُكتب على المخطوطة غالبا ما يكون مختلفا عن اسم الرسام الذي رسم المسجد الحرام بصفحاتها، فحسب الكتب التاريخية أن الكاتب يكتب المخطوطة ويترك صفحات الرسم فارغة فيعطيها للفنان ليرسمها ولهذا من الصعب معرفة رسامي هذه الرسومات وبالتالي من الصعب تعقب تاريخ هذا الفنان ودراسة أسلوبه الفني لتحليل هذه الرسومات).

    جُمعت هذه الرسومات من مصادر مختلفة من بينها جامعة هيدلبرغ في ألمانيا، متاحف هارفرد، متحف الفن في سان دييغو، متحف متروبوليتان نيويورك في الولايات المتحدة، مجموعة آغاخان في كندا، متحف بناكي في اليونان، مجموعة سكالا في فلورنسا، موقع صور بريدجمان، مجموعة ناصر الخليلي والمكتبة الوطنية البريطانية في بريطانيا، متحف الفن الإسلامي في الدوحة، متحف الفن الإسلامي في القاهرة ومكتبة مكة المكرمة. بالإضافة إلى كتب د. معراج ميرزا وكتاب جي تي ريفوارا "العمارة الإسلامية، أصولها وتطوراتها".

    اختيرت هذه الرسومات بطريقة شبه عشوائية رُوعي فيها اختيار حقب زمنية مختلفة، أساليب رسم وتلوين متنوعة. العديد من الرسومات الموجودة في هذا الوقت تم نسخها أكثر من مرة من قبل رسامين مختلفين عبر الزمن إما بالحفاظ على معظم التفاصيل أو بتغييرها حسب رؤية الفنان وبالتالي من الصعب الوصول إلى الرسام الأصلي لكل رسمة. بالنسبة للمواد المستخدمة فهي متنوعة حيث أن معظم الرسومات تم تنفيذها على مخطوطات ورقية كُتب فيها صلوات وأدعية أو قصص رحلات أو أشعار دينية. هناك أيضا لفافات الحج وهي عبارة عن شهادات يحرص الحجاج على شرائها وتسليمها إلى خطاط لكتابة شهادة تشهد للحاج بأدائه للشعائر المقدسة في مكة المكرمة، كما أن هناك رسومات منفذة على قطع من البلاط أو السيراميك.

    بعض الرسومات كُتبت عليها عبارات تصف العناصر المرسومة وبالتالي يمكن معرفة البلد المنشأ الذي أتى منه الرسام، ولا تعد هذه الخاصية سهلة التمييز حيث أن اللغة العربية والتركية القديمة وكذلك الفارسية استخدمت نفس الحروف الهجائية وبالتالي من الصعب التفريق بينها، فإن أغلب الرسومات فارسية وتركية وبعضها عربية وهناك رسومات هندية وبخارية أيضا. هذا الاختلاف في أصول الرسومات أثر كثيرا على الطريقة التي أُظهر بها المسجد الحرام ومن خلال هذه الدراسة لوحظت الفروقات وكيفية معرفة أصل الرسام من خلال الرسم بدون الرجوع إلى المعلومات التاريخية التي ذكرت عن الرسمة وهذا ما يجعل الرسومات مادة قوية للدراسة في سبيل البحث في مجال الفن والعمارة الإسلامية.

    قُسّم هذا البحث إلى ثمانية فصول تبدأ بنبذة تاريخية في الفصل الأول عن بناء وتوسعة المسجد الحرام من بداية بناء النبي إبراهيم عليه السلام للكعبة وحتى القرن التاسع عشر الميلادي مع شرح التوسعات التي جرت على المسجد الحرام لمقارنة المعلومات التاريخية بما هو مرسوم في الرسومات. في الفصل الثاني استعراض للعشرين رسمة المختارة لهذا البحث مع عرض عام للمعلومات التاريخية المذكورة عنها والمصادر التي أُخذت منها الصور.

الفصل الثالث يشرح المواد التي صُنعت منها الأوساط التي رُسم عليها وهي مقسمة إلى قطعة من حجر المرمر وأربع ألواح من البورسلين وخمس عشرة ورقة سواء مخطوطة أو مقواة، بالإضافة إلى تحليل الألوان المستخدمة في الصبغ اللوني للرسومات.

في الفصل الرابع حللت الباحثة الزخارف المستخدمة في رسم عدد من الرسومات المختارة في البحث سواء استخدمت هذه الزخارف في العناصر المعمارية أو في عناصر أخرى زُخرفت بها اللوحة لتجميلها.

    يبدأ التحليل الغرافيكي للرسومات في الفصل الخامس الذي أخذ يحلل كل عنصر من عناصر المسجد الحرام على حدا ابتداءً من الكعبة وانتهاءً بالمسعى في طريقتين تحليليتين إحداها تزامنية والأخرى لاتزامنية. تهتم الكاتبة في هذا الفصل بمقارنة العناصر المرسومة في الرسومات بواقعها من خلال رسومات ثلاثية الأبعاد نُفذت من قبل م. أحمد الحرازي وذلك لتحليل اللغة السيميائية المستخدمة من قبل الرسامين بتصنيف عناصرهم إلى رموز أو أيقونات أو إشارات حسب تقسيم العالم شارل ساندز بيرس للعلامات (1839-1914م).

    الفصل السادس يجيب عن أسئلة مهمة جدا في حقل رؤية وتمثيل العمارة: كيف يرى الفنان المسلم العمارة وبالأخص المسجد الحرام؟ لماذا جميع الرسومات باختلاف تاريخها يتجه شمالها نحو اليمين؟ لماذا يتجه الفنانون الشرقيون إلى التسطيح في رسومات المخطوطات وكيف تُمثل العمارة من خلال التسطيح؟.

   الفصل السابع يحلل بعض الرسومات هندسيا ويقترح طريقة بناء الرسام لهذه الرسومات وكيفية تخطيط الصفحة وبناء هيكلها. أما الفصل الثامن والأخير فيتوسع في دراسة المآذن في العالم الإسلامي وكذلك المآذن المرسومة في الرسومات المختارة لهذا البحث.

   من الجدير بالذكر هنا ندرة البحوث المكتوبة في هذا المجال في العالم العربي بشكل خاص والغربي بشكل عام ولكن يجب ذكر كتاب د. أحمد رجب محمد علي "المسجد الحرام بمكة المكرمة ورسومه في الفن الإسلامي" المؤلف عام 1996م ويعد النقطة الذي انطلق منها هذا البحث والذي يقترح طرقا مختلفة لدراسة هذا النوع من الرسومات. مازالت هناك الكثير من النقاط التي يجب تطويرها في هذه الدراسة وبالأخص الرسومات ثلاثية الأبعاد ويظل السؤال قائما: هل هذا النوع من الرسومات نُفذ حتى يكون خريطة يهتدي بها الحجاج أو رسمًا معماريًا يتبع أسسا وقواعدا هندسية مخلدا للبناء المعماري أو هو لوحة تجميلية يراد بها الزخرفة وإثراء الفن الإسلامي.