عبدالله المعلمي.. أمين مكتبة الحرم المكي

مكتبة الحرم المكي من المكتبات القديمة في مكة المكرمة، وترجع نواة هذه المكتبة إلى القرن الثاني الهجري في عهد الخليفة المهدي العباسي؛ حيث أمر بتأسيس قبة في الحرم توضع فيها المصاحف ومنها مصحف الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وبعدها على مر العصور والأزمنة تأسست مكتبة مستقلة يستفيد منها العلماء وطلبة العلم والقراء عامة، فكانت هذه المكتبة منارة علم وثقافة ومعرفة، ومصدرًا من مصادر المعلومات في مكة المكرمة، والباحث د.محمد سعيد باجودة أصدر كتابًا قيمًا عن هذه المكتبة بعنوان (نثر القلم في تاريخ مكتبة الحرم)؛ حيث استعرض مسيرة هذه المكتبة وما تحتويه من كتب ومخطوطات، والأمناء الذين تولوا هذه المكتبة، فكان من المناسب أن نكتب للقراء عن أحد هؤلاء الأمناء الذين خدموا المكتبة ألا وهو الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- الذي أمضى قرابة أربعة عقود وهو أمين مكتبة الحرم المكي، فكان أحد الأمناء الذين لهم بصمات تطويرية في المكتبة.

والشيخ عبدالله المعلمي أعاد سيرة الأمناء والقيمين على المكتبات في أزمنة الحضارة الإسلامية ،حينما كان القيم على المكتبة من طلبة العلم، الذين يقدرون قيمة الكتاب، وأنه أنفس من كل شيء ثمين، وليس موظفًا يؤدي مهمات وواجبات روتينية فرضت عليه، ولعلنا في هذه السطور نتعرف على هذه الشخصية العلمية، ونرسم معالمها، ونجسد ما قدمت للمكتبة وللثقافة.

هو عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالرحيم المعلمي، ولد عام 1347هـ، تعلم وثقف نفسه بنفسه وبملازمة العلماء، وعندما كان الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي -رحمه الله- أمينًا لمكتبة الحرم المكي، كانت فرصة ثمينة في أن يتعلم الشيخ عبدالله على يد الشيخ الشهير المعلمي الذي ملأ الدنيا سمعة وشهرة بعلمه في الحديث، وقد درس الشيخ عبدالله المعلمي على المحدث عبدالرحمن المعلمي ألفية ابن مالك والنحو الواضح بأجزائه وتعلم منه مصطلح الحديث، ولازمه حتى وفاته.

ولأن الشيخ عبدالرحمن المعلمي كان لا يفارق مكتبة الحرم المكي منذ أن تعين فيها؛ حيث كانت له غرفة في المكتبة نفسها ينام ويستريح ويقرأ ويكتب فيها، فلذلك كانت فرصة عظمى للشيخ عبدالله المعلمي أن يستفيد من هذا البحر الذي لا ساحل له، بل إن الشيخ عبدالله المعلمي هو القائم بشؤون شيخه من أعمال ومراجعات خاصة خارج المكتبة، فكان في مكانة الابن له.ترجمة حافلة

والشيخ عبدالله المعلمي كما أخبرني حفيد الشيخ عبدالرحمن المعلمي الأستاذ عبدالرحمن المعلمي؛ حيث كان هو الذي يدخل عليه في غرفته الخاصة، وعندما صلى الشيخ الفجر بتاريخ 6/ 2/ 1386هـ رجع إلى غرفته الخاصة، ولما بدأ الدوام الرسمي للمكتبة جاء الشيخ عبدالله المعلمي في بداية الدوام، فلم يجد الشيخ عبدالرحمن كعادته في المكتبة، بل لا يزال في غرفته الخاصة، ولما سأل بعض الموظفين عن الشيخ قالوا له: «إن الشيخ عبدالرحمن ما زال نائمًا، وقال لا أحد يدخل عليّ اليوم يوقظني»، وكان من برنامج الشيخ عبدالرحمن المعلمي أن يهيئ له الخادم كوبًا من الشاي بعد صلاة الفجر، ولكن قال له الشيخ هذه المرة: «لا أريد الشاي»، فما كان من الشيخ عبدالله المعلمي إلاّ وقد استأرب من الأمر وفزع، وفتح غرفة الشيخ عبدالرحمن فوجده مستلقيًا وعلى صدره كتاب وقد فارق الحياة.

وقد كتب الشيخ عبدالله المعلمي ترجمة حافلة عن شيخه عبدالرحمن المعلمي في مجلة الحج وهي الترجمة الوحيدة، وكل التراجم التي أتت بعدها للشيخ المعلمي لا تستغني عنها مطلقًا، بل الكل لا بد أن يرجع إليها، وهي سَبْق علمي من الشيخ عبدالله المعلمي، وليته كتب كتابًا مستقلًا عن حياة شيخه راويًا كل الذكريات بل الفوائد التي سمعها منه، وقد ترجم لشيخه في كتابه القيّم (إعلام المكيين)، وهذا من وفاء الوفاء.

وتأثر الشيخ عبدالله المعلمي بشيخه عبدالرحمن المعلمي من حيث حُب العلم، بل بأخلاق شيخه بالزهد في الدنيا وأنه لا شيء أغلى ولا أنفس في الدنيا سوى العلم والكتاب.

كان يقول لابنه الأستاذ وديع: «نحن أسرة المعلمي خلقنا للعلم فقط وليس لشيء آخر»، ومن العلماء الذين درس عليه الشيخ عبدالله المعلمي الشيخ محمد نور سيف في المسجد الحرام، حيث درس علوم الشريعة، يُذكر أن الشيخ عبدالله المعلمي واصل دراساته النظامية وهو على رأس الوظيفة في مكتبة الحرم المكي كما يذكر ابنه وديع المعلمي.

علم ومعرفة

وتعين الشيخ عبدالله المعلمي في مكتبة الحرم المكي بتاريخ 24/ 8/ 1376هـ، وكانت وظيفته صغيرة جدًا؛ حيث كانت طبيعتها مناولة الباحثين والقراء الكتب وإرجاعها إلى أقسامها الخاصة، كانت المكتبة هي جنته في هذه الدنيا وعالمه السعيد وحبه الأول والأخير، بل إنها علّمته كثيرًا من العلم والمعرفة والثقافة العامة، فكان وفيًا كل الوفاء لهذه المكتبة بكل صدق وإخلاص وورع ومحبة، دخل المكتبة بوظيفة صغيرة جدًا، وتقاعد منها وهو أمين لها، يحدثني الأستاذ وديع المعلمي من ورع وصدق وإخلاص والده قائلًا: «إن الوالد كان يسافر إلى الدول العربية لشراء الكتب لمكتبة الحرم وجلب المخطوطات، فكانت هذه الرحلات رسمية وعلى نفقة المكتبة؛ أي منتدبًا منها، فتكاليف السفر كلها من ميزانية المكتبة، فكان لا يشتري لنفسه أي كتاب، بل عندما نقول له: لماذا لا تشتري من الكتب؟ فيقول: هذا عمل رسمي كلفتني الحكومة به ولا يحق لي أن أشتري لنفسي، إنما أشتري للمكتبة فقط»، وهذا من ورعه وإخلاصه وقمة أمانته -رحمه الله-، هو عاشق لمكتبة الحرم، ولم يعمل في أي وظيفة سوى هذه المكتبة، كل ما في هذه المكتبة من مخطوطات وكتب ودوريات يعرفها، بل يعلم ما تحتويه من أبحاث وما هو تصنيفها.

تعلمت منه

ويحدثني الأستاذ هشام علاء الدين - عمل تحت إدارة الشيخ عبدالله المعلمي - قائلًا: «إنني تعلمت من المعلمي الشيء الكثير في الفهرسة والتصنيف، أمرني أن أضع كرت فهرسة وتصنيف، فكتبت أول كرت وأتيت به إليه واطلع عليه ومزّقه، حتى عملت سبعة كروت وكلها يمزقها ويقول: هذا الكرت غلط، فقلت له: علمني كيفية وطريقة الفهرسة واعتبرني طالبًا في التمهيدي، وابتدأ يعلمني الطريقة الفنية لفهرسة المخطوطات، ومن ذلك الزمن تعلمت الفهرسة منه، وبعدها التحقت بدورات في التصنيف والفهرسة في معهد الإدارة بجدة، وكانت أكثر المعلومات في هذه الدورات ليست جديدة؛ لأنني تعلمتها من الشيخ عبدالله المعلمي، وقد استغرب مني الأستاذ الذي كان يدرسنا في هذه الدورة، فأخبرته أنني تعلمتها في مكتبة الحرم المكي، ومرة كنت أبحث عن معلومة فلم أهتدِ إليها في أي مصدر وبحثت عنها وسألت الشيخ عبدالله المعلمي فقال تجدها في المجلة الفلانية في الصفحة الفلانية»، ويضيف الأستاذ هشام قائلًا: «إن الشيخ عبدالله المعلمي له فضل عليّ كبير جدًا، وأنه لا فضل عليّ بعد الوالدين سواه -رحمه الله-، كان سخيًا بعلمه لكل أحد يسأله، ويعلم ويدرب الجدد من الموظفين، وكان في قمة التواضع لمن يقابله، يحضر جميع المناسبات، وقد حضر مناسبة زواجي في جدة مع أن مكان الزواج كان صعب التعرف عليه».

مواكبة التطور

والشيخ عبدالله المعلمي اعتلى أمانة مكتبة الحرم المكي بعد وفاة الشيخ عبدالرحمن المعلمي بتاريخ 6/ 2/ 1386هـ، وقبلها كان مناولًا للكتب ثم كاتب فهارس ووكيل مكتبة، واستنفر جهده في أن تكون المكتبة مواكبة للتطور الحديث وشاملة وجامعة لبغية ومطالب طلاب العلم والقراء عامة، وارتبطت المكتبة برئاسة الإشراف الديني عام 1385هـ الذي كان يرأس الإشراف الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله-، وقد كلف الشيخ ابن حميد الشيخ عبدالله المعلمي بتأمين كل كتاب غير موجود في المكتبة، فقام بشراء الكتب من الداخل من المكتبات التجارية وكذلك من المكتبات العامة عن طريق الإهداء. ومن جهوده في المكتبة التي تذكر وتشكر أنه سافر إلى القاهرة لأول رحلة من أجل دعم المكتبة بالكتب والمراجع والدوريات، وزار دار الكتب المصرية، وصور بعض المخطوطات على أساس التبادل بين دار الكتب ومكتبة الحرم المكي، وأوفى بوعده لدار الكتب المصرية وأرسل صور «ميكروفيلم» لهم من مخطوطات مكتبة الحرم المكي؛ حيث صوّرت جامعة الملك سعود مخطوطات مكتبة الحرم، وطلب بخطاب من ابن حميد إلى مدير جامعة الملك سعود نسخة من هذه الصور. وطوّر الشيخ عبدالله المعلمي نفسه فنيًا؛ حيث انضم إلى معهد الإدارة بالرياض بدورات في مجال الفهرسة والتصنيف وتحقيق التراث، وبهذا كانت مكتبة الحرم المكي من أفضل المكتبات العامة في الفهرسة والتصنيف قبل أربعة عقود، حيث أشادت بعثة زارت مكتبة الحرم المكي بتاريخ 1394هـ وذكرت الأساتذة المفهرسين ومنهم الشيخ المعلمي وزملاؤه محمد صالح جمعة ومحمد عثمان الكنوي، وأثنت على هذا العمل، وأوصت باتباع هذه الفهرسة في جميع مكتبات المملكة كما ذكرت صحيفة البلاد عام 1394م رقم العدد 4565.

30 عامًا

وقال د.محمد سعيد باجودة -أمين مكتبة الحرم المكي السابق وهو ممن عمل تحت إدارة الشيخ عبدالله المعلمي-: لقد أحب روّاد المكتبة وأحبوه، فكان يهب لخدمة الجميع ولا يمل من خدمتهم، بل حتى أنه في بعض الأيام يمكث بعد انتهاء عمله لمرافقة الباحثين حتى ينتهوا من أبحاثهم دونما كلل أو ضجر، ولقد أجمع عارفوه ومن عملوا معه وتحت إدارته على أنه هادئ الطبع، يجنح إلى الصمت، يجيد براعة الاستماع، يحتفظ برأيه إلاّ عندما تستدعي الحاجة للبوح به، وإذا تحدث فهو مؤثر في حديثه، طيب المعشر، ليّن الجانب، كريم في أخلاقه وكريم في تواضعه، وكان موسوعة في معرفة الكتب والمخطوطات، بل هو من القلائل الذين يجيدون معرفة أسماء الكتب والمخطوطات وأماكن وجودها، والجيد منها والرديء».. -انتهى كلام باجودة-.

ولقد سلخ الشيخ عبدالله المعلمي أكثر من 30 عامًا من عمره في مكتبة الحرم المكي، دخلها وهو شاب وتقاعد منها وهو شيخ قد أدركته الشيخوخة، وغادرها بعد ذكرى طيبة من العمل الدائم والمستمر، فنقش اسمه في ذاكرة الأمناء الذين كانت لهم بصمات واضحة في مكتبة الحرم المكي، يقول هشام علاء الدين: «له نصيب من اسم أسرته المعلمي، فهو كان يعلم من حوله من موظفين وباحثين، يهب المعلومة لكل سائل، فهو معلمي وأستاذي».

فهرسة وتصنيف

واهتم الشيخ عبدالله المعلمي بالتراجم وحب التاريخ عمومًا، هذا فضلًا عن أنه متخصص في الفهرسة والتصنيف، وهو مرجع في هذا الفن، ومؤلفاته كالتالي: كتاب (أعلام المكيين من القرن التاسع عشر الهجري حتى القرن الرابع عشر)، وقد تفرغ لهذا الكتاب بعد تقاعده وجمع المصادر والمراجع في إعداد هذا الكتاب حتى خرج وطبعته مؤسسة الفرقان في مجلدين، وهو عمل علمي نفيس وقيِّم وممتاز، كذلك كتاب (قضاة مكة المكرمة من القرن الأول الهجري حتى العصر الحاضر)، ولم يكمله إذ توفاه الله، ونُشر بعد وفاته، إضافةً إلى بحث عن مكتبة الحرم المكي الشريف في ماضيها وحاضرها بالاشتراك مع الشيخ محمد صالح جمعة تم تقديمه لدورة أمناء المكتبات الأولى في معهد الإدارة العامة بالرياض، إلى جانب فهرس مخطوطات الفقه بمكتبة الحرم المكي الشريف، وفهرس مخطوطات الحديث ومصطلحاته، وفهرس مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف -المجاميع الأصلية- بالاشتراك مع عبدالرحمن الحذيفي، وكذلك الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف الأصلية والمصورة -مراجعة وإضافة عبدالرحمن الحذيفي-، إضافةً إلى معجم مؤلفي مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف.

ناصح ومحب

وتحدث وديع ابن الشيخ عبدالله المعلمي قائلًا: «كان الوالد هادئ الطبع حليمًا حكيمًا في اتخاذ القرارات وناصحًا ومحبًا، وكان شغوفًا بقراءة كتب اللغة العربية وعلومها وكتب السنة، وأذكر أنني كلما كنت أسأله عن معنى كلمة لا يجيبني وإنما يأمرني البحث عن معناها في معاجم اللغة العربية مثل لسان العرب والمعاجم الأخرى المتوافرة في مكتبته الخاصة في المنزل، لكي ينمي فيني حب القراءة والبحث والاطلاع، وكان رحمه الله يوجهني بأسلوب علمي من غير إلزام أو توبيخ، تعلمت منه الكثير مثل فن التعامل مع الآخرين وبالأخص من هم أكبر سنًا، وعندما تقاعد كان يقضي يومه كله في مكتبته الخاصة مستمتعًا بالقراءة والبحث والتأليف، وبعد وجبة العشاء يخلد للنوم ويستيقظ في الليل لقراءة القرآن حتى أذان الفجر».

هذه سطور من سيرة الشيخ عبدالله المعلمي، الذي أوقف حياته كلها في خدمة العلم وطلبة العلم والقراء بصمت وهدوء ورحابة صدر بعيدًا عن الأضواء والشهرة والإعلام، وقد توفي بتاريخ 5/ 4/ 1428هـ في يوم الأحد وصلي عليه بالمسجد الحرام، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، فإن رحل المعلمي بجسده فما زالت كتبه وآثاره حية ينتفع بها طلبة العلم، وكما قال: «الكتاب النافع هو أفضل من الولد بعد الممات، فهو بار بمؤلفه ما دام يُنتفع به».

نشكر وديع ابن الشيخ عبدالله المعلمي على تزويدنا بالمعلومات عن والده سواءً مكتوبًا أو مشافهة، ونشكر د.محمد سعيد باجودة على تعاونه معنا، وكذلك الشكر موصول للأخ هشام علاء الدين الذي حدثنا عن علاقته بالشيخ عبدالله طيلة عمله بمكتبة الحرم.

المصدر : جريدة الرياض | بقلم : صلاح الزامل