«مولانا» المضواحي .. وموسيقى الروح والتجلي
توثقت علاقتي بالزميل الراحل عمر المضواحي على مدى أكثر من عقدين، منذ انضمامي محررا في مكتب جريدة الشرق الأوسط بمدينة جدة في أغسطس 1994، وظلت هذه العلاقة تتنامى حتى رحيله المرير في 20 ديسمبر 2015، حيث ذكرني «مارك» مؤسس فيس بوك قبل أيام كعادته السنوية بهذه المرارة.
وكنت أرى «السيد» كما أدعوه، يوميا بمكتب الشرق الأوسط، وكنت أعمل ـ إضافة لكوني محررا للصياغة ـ سكرتيرا مؤقتا لمسؤول التحرير في المكتب الذي يقع في أول الردهة، تأتي بعده مكاتب جريدة المسلمون حيث يعمل عمر المضواحي، فكنت أستمع وأستمتع بحواراته وجداله مع الزملاء، والتي غالبا ما تنتهي بضحكة مجلجلة منه، وقبلة على رأس أحدهم إذا كان يكبره أو تربيتة على كتف من يماثله أو يصغره سنا.
وبعد «المسلمون» انتقل المضواحي إلى «المجلة»، ثم التحق في بدايات 2003 بـ «الشرق الأوسط» حتى 2007، شغل فيها منصب مسؤول التحرير، وهو منصب جعله في وجه المدفع، فكان لا يقبل بأنصاف الحلول، واختلف مع زملاء ومرؤوسين واتفق، ولان مع بعضهم وقسا، وبعد استقالته انتقل إلى «الوطن» ثم «مكة» حتى رحيله.
«مولانا» عمر المضواحي لم يكن يتميز بتقاريره الاستقصائية وكتاباته عن الأمكنة والشخصيات فحسب، بل كان يملك ذوقا موسيقيا فاحصا وشخصية متذوقة للفن بكل أنماطه، فقد عاش في أم القرى «مكة» التي منها خرج مقام الحجاز وانتشر، فهي موئل الصهبة والتراتيل والمقامات تلاوة وإنشادا، ونقطة انصهار للشعوب والفنون.
يذهلك المضواحي وهو يتحدث عن السماع والأناشيد، كدرويش صوفي في تكية مولوية حيث الحزن «شرقي بامتياز»، يتناول موسيقى الـ «كناوة» التي تشتهر في بعض دول المغرب والصحراء، ويقول عن هذه الموسيقى الإيقاعية في تدوينة عنها على حائطه في فيس بوك، موردا نموذجا صوتيا منها بأنها تمثل «موقفا حرا لنفس بشرية ذاقت مرارة ذل العبودية، وإشعال ذكرى العودة للوطن الأم قبل أن تكون تزجية للروح والجسد المتعبين بعد ترحل قسري طويل من أرض الآباء والأجداد ومساقط الرؤوس الجاعدة الشعر».
ويشير إلى أنها «تتوشح بنفس صوفي خالص، ومشحونة دوما بتوسلات لا تنتهي للانعتاق من قدرهم الحتمي. كأنهم استودعوا في هذه الأغاني والموشحات كل حكايات الشوق والحنين، ورسموا منها بالنغمة والكلمة طريق (خلاص) لأرواحهم المتعبة».
وقبل ذلك يحيلك إلى منشد وجسيس مكي شاب اسمه عمر عبدالهادي الذي يصفه بأنه أحد أجمل وأندى الأصوات الحجازية، داعيا للاستماع إليه، فهو «ينشد لمكة الحب دوما مجسات تشعل الأشواق لبطاحها المقدسة».
«اطلبوا الموسيقى.. ولو في الصين!» يكتب مشيدا بفرقة موسيقية صينية، ويؤكد أنها ستغير كثيرا من «عاداتنا السماعية عن الموسيقى الصينية الزاخرة بالإيقاعات الحادة»، جازما بأن «هنا شيء من الحوار بين الآلات الوترية، ومزمار الصين ونايه الشجي»، داعيا في مرح «اسمعوا الموسيقى ولو من الصين!».
وتتملكك دهشة حول قدرة عمر في تذوق ألوان غامضة من الموسيقى، فيلتقط صوت الراحلة الزنجبارية «بي كيدادي» ويبين أنه «يستحق المتابعة والاستماع»، ويأخذك في تدوينة أخرى عن أفريقيا «الجزء الغامض من عالمنا الفسيح» كما كتب، حيث جذبته مقطوعة موسيقية «يفوح منها كل عبق الغابات السمراء، وخرير الأنهار الهاربة من جفاف الصحاري السرمدية»، مضيفا بثقة «لا شك أن سامعها سيلامس ثمرة السيمفونية. تماما كالزرافات الباحثات في ترفع عن الثمرات المغسولة بالطل وقطرات الندى».
ويدرج مقطوعة للهنود الحمر في حائطه، وحولها يجزم المضواحي أن هوليوود استطاعت «رسم صورة ذهنية مشوهة» عن قبائل الهنود الحمر، ويقول «في هذه الموسيقى رد عملي وساحر، في لوحات أخاذة على بشاعة ذلك التشويه»، ثم يفسر «في النوتة الموسيقية ضجيج حياة مضطربة، أصوات بوم وحداء وعواء ذئاب، وخطر لا يرده غير تراتيل، وتعويذات للنجاة من شر الإنسان الأبيض.. ذهب الهنود الحمر إلى الفناء، وبقيت موسيقى مع نفر قليل ليدلوا بشهاداتهم في صوت وجل يرتجف تضرعا، لعودة الزمان إلى عين المكان، حيث الخيول المسرجة، والنسور السابحة، وبقايا خيال!»، عن أي موسيقى تكتب يا سيد؟! فهذه الأحرف بحد ذاتها «نوتة مقتلعة من لحن الحياة».
ولا ينسى أن يحيلك «السيد» في تدوينة أخرى إلى سماع أغنية للمطرب الكوبي الراحل إبراهيم فيرير الذي بدأ حياته ماسحا للأحذية، ومنح قبل موته في سن الثمانين عاما فرصة الغناء في مسرح الأوبرا في العاصمة الفرنسية باريس، مبينا أن في أغانيه بالإسبانية «شيئا يلامس الروح.. وتلافيف حزن قديم!».
كما يدعوك أيضا بإلحاح الدرويش للاستماع لصوت مصري صاعد (محمد محسن) وهو يشدو برائعة نجيب سرور «البحر بيضحك ليه» فيقول «صوت هذا الشاب طربي لحد الدهشة، كأن حقول قصب السكر المصري نبتت بديلا عن حباله الصوتية».
وقبل استقالته بأيام من «الوطن» يترك العنان لصوت المغنية اللبنانية غادة شبير ينساب في يوتيوب عبر حائطه «در تم حاز حسنا يخجل الأقمار.. وله في الحسن معنى حير الأفكار.. آه تسنى فاق غصنا مس بالأسحار.. قد شفى بالنغم وازدهت أنوار».
وعن هذا الموشح يكتب «ربما، صوت غادة شبير وحده يغسل وعثاء هذا اليوم المرهق!!» محذرا من يشاكسهم دوما بأن الكلمات «لابن زيدون!».
واجترارا للذكريات، يطالبك مولانا بمشاهدة يوتيوب، للحن فضائي كان رائجا منتصف التسعينات من القرن الماضي للبناني أحمد قعبور وهو يشدو «وحياتك بتمون».
وعودة لأفريقيا، يكتب عمر المضواحي في جريدة الوطن تقريرا استقصائيا فاخرا عن الموسيقار السوداني حافظ عبدالرحمن تحت عنوان «مزمار السودان يصارع طواحين الانفصال بلغة الحروف السبعة»، وأعاده بعد عام من نشره في مدونته، وذلك في رحلته للعاصمة السودانية الخرطوم بصحبة زملاء وزميلات لتغطية الانتخابات الرئاسية والتصويت على انفصال الجنوب السوداني عن شماله المنهك بالفقر والحروب العبثية.
يبدأ عمر مقاله كأنه قائد أوركسترا تعزف لموزارت «بقصبة ـ فلوت ـ ومزامير تملأ حقيبة عتيقة، يدوزن الموسيقار حافظ عبدالرحمن كل نوتة موسيقية شاردة أو واردة في بلده لمواجهة خطط التقسيم، وطواحين الانفصال».
ويضيف واصفا عازف الفلوت السوداني بأنه من «أكثر العارفين بلغة الموسيقى، ولا شيء غير حروفها السبعة، وأنها قاسم مشترك لا يتناطح فيه رؤوس الوحدة، وقرون الانفصال في سودان اليوم»، مشددا «رسالته واضحة، بأن السودان وطن واحد، لا يقبل القسمة على اثنين»، بيد السودان بشقيه الجنوبي والشمالي ـ رغم أمل المضواحي الكبير في بقائه موحدا ـ انقسم بعد ذلك إلى شظايا وطرائق قددا!
كنت أرى حجم الفجيعة مساء تلك الليلة في جدة أول أيام العزاء، في وجوه وقسمات أصدقاء ومحبي الراحل بعد مواراته في «المعلاة» بمكة «التي كانت تسكنه ويسكنها، وعشقها حتى ثمالة الوجد»، فيما كانت فجيعتي أكثر لأني قبلها بأيام فقدت زميلا عزيزا كان يمكن أن يكون خليفة «عمر» لو قيض له العيش. فقد كان أديبا ومحررا استقصائيا مثله، وهو الزميل إبراهيم الأمين الذي رحل قبل أيام من وفاة عمر. فكلاهما عاشا وعشقا مكة وتراثها وأمكنتها وشخوصها، وكلاهما كانا عاشقا للفنون والموسيقى والسفر والترحال، لذا أجدني أستعير مرثية الزميل محمد عبداللطيف في إبراهيم الأمين لأسبغها على المضواحي:
على بعد حُلمين كنا نراكْ
تجوب الزمان اللذيذَ
الذي يسكن التلَ خلف المحالْ
كنا هنا كالعناكبِ نَنسجُ ليلَ الأسى
ونَنبذُ في قَبْوِ أحزاننا الكرهَ
ما زال في حزنِنا ألفُ قبْوٍ مليءٍ
نعتق فيه النبيذَ احتفالا بنخب السعالْ
على بعد يأسين منك انتبهنا
فقد صرت أعلى.. وأجلى
وقد صرت نجم الشمالِ!
وما جدَ شيءٌ على كل حالْ!
كنا هنا في الأسى
ولا زلتَ تسمو هناكْ!
رحم الله مولانا عمر المضواحي فقد كان محبا للحياة عاشقا لمكة، محبا لأسرته الصغيرة ووفيا لأصدقاء الحرف والمهنة والكلمة.
كتبه : أحمد عزوز
السبت 2 جمادى الأولى 1441 - 28 ديسمبر 2019
0 تعليقات