مسجد البيعة ... و قصة اكتشاف اللوحة المفقودة من ستمائة عام

تحتفظ مكة المكرمة برصيد كبير من الاماكن التاريخية ذات المواقف الاسلامية الحاسمة في تاريخ الامة و هي جزء هويتها و عنوان حضارتها . فقد وضع لبناتها الاولى و اسس لدولتها و حضارتها سيد الاولين  و الاخرين و اشرف الانبياء و المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اذ عايش هو و صحابته الكرام على ارض مكة المكرمة الشدائد و المحن , فجاهد في الله حق جهاده .

كل موضع من هذه المواضع المباركة شاهد قائم ناطق على ذلك التاريخ المشرق المضيء: جهاد و كفاح تحمل للاذى و الضيم اثمر امة تميزت عمن قبلها من الامم بصفاء العقيدة فأورثها عزا و سؤددا في الدنيا و سعادة في الاخرة و اصبح لهذه المعالم اهتمام و عناية . من حسن حظ هذه الامة ان المواضع التاريخية التى شاهدت و عاصرت تلك الاحداث برغم تتابع القرون قد وثقها سلفنا الاقدمون و حافظوا عليها و على معالمها كأوثق ما يكون التاريخ لا يخلو من ذكرها ووصفها و الاحداث التى جرت على ارضها الطاهرة ليس فقط كتب التاريخ بل اهتمت بذكرها كتب المناسك و السيرة النبوية المطهرة .

و اكثر من هذا و ذاك ألف السلف فيها مؤلفات مستقلة و من بين اهم الاماكن التاريخية المهمة التى حافظوا عليها و تواترت على ذكرها و تعيينها المصادر الفقهية و التاريخية و مصادر السيرة النبوية المطهرة : ( مسجد البيعة ) الذي بايع فيه الانصار النبي صلى الله عليه و سلم على المؤازرة و الفداء بالنفس و المال و الاهل للذود عنه و حمايته في سبيل نشر الاسلام و الدعوة اليه .

موقع هذا المسجد على يسار الداخل الى مكة المكرمة من منى قبل جمرة العقبة في شعب متوار يسمى شعب البيعة او شعب الانصار . حرص الخلفاء و الولاة على صيانته و عمارته عبر القرون فكان لهم ذكر رفيع و مقام كبير في التاريخ الاسلامي ناهيك عن الاجر و الثواب الذي يعمهم بالآية الكريمة ( انما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر ) .

دون المؤرخون ما اتصل بهذا المسجد من عمارة و ترميم عبر القرون و حاضرهم من السنين رمزا و اصحا لاهتمامهم بالحدث الاسلامي الذي يمثل منعطفا في تاريخ البشرية بشاهد المكان .

اهتم السلف الصالح بهذه الاماكن فبنوا على ارضها مساجد لعبادة الله عزوجل تتردد كلمة التوحيد بين جدرانها ليل نهار ما اقيمت فيها الصلوات مما يدل على سمو فكري روحي و توظيف حضاري تواتر الحديث و الاهتمام عن مسجد البيعة منذ البداية لدى المؤرخين المكيين بدءا بالإمام ابي الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد الازرقي ( ت 223 ) و من بعده الامام ابو عبدالله محمد بن اسحق الفاكهي ( كان حيا في سنة اثنتين و سبعين و مائتين ) .

و هكذا تتابعت الكتابات عن هذا المسجد المبارك حتى عهد المؤرخ المكي الكبير العلامة الحافظ تقي الدين محمد بن احمد الفاسي المكي المالكي (775-832) فذكر ثلاثة الواح و ما دون عليها ما يتصل بعمارتها و ما يتضح من النص الاتي ان الثالث منها ملقى حول المسجد لتخربه كما في العبارة التالية :  ( ومن ذلك المسجد الذي يقال له مسجد البيعة و هي البيعة التى بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها الانصار بحضرة عمه العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه على ما ذكر أهل الاخبار و هذا المسجد بقرب العقبة التى هي حد منى من جهة مكة و هو وراء العقبة بيسير الى مكة في شعب على يسار الداخل منى وفيه حجران مكتوب في احدهما امر عبدالله امير المؤمنين اكرمه الله ببنيان هذا المسجد مسجد البيعة التى كانت أول بيعة بايع فيها الرسول صلى الله عليه و سلم عقد عقده له العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه و فى الاخر تعريفه بمسجد البيعة وانه بني في سنة اريع و اربعين و مائة و امير المؤمنين المشار اليه هو ابو جعفر المنصور العباسي .

و عمره ايضا المستنصر العباسي على ما وجدته مكتوبا في حجر ملقى حول هذا المسجد لتخربه و فيه ان ذلك في سنة تسع و عشرين و ستمائة و قد ذكره الازرقي و لم يذكر شيئا من خبر عمارته في زمن المنصور وصفة هذا المسجد رواقان كل منهما مسقوف بثلاث قبب على اربعة عقود وخلفها رحبه و له بابان في الجهة الشامية و بابان في الجهة اليمانية و طول الرواق المتقدم من الجهة الشامية الى الجهة اليمانية ثلاث و عشرون ذراعا و عرضه اربعة عشر ذراعا و الرواق الثاني نحو ذلك و طول الرحبة من جدارها الشامي الى اليماني اربعة و عشرون ذراعا و نصف ذراع و عرضها ثلاث و عشرون ذراعا و نصف ذراع و طول المسجد من محرابه الى اخر الرحبة ثمانية و ثلاثون ذراعا و سدس , الجميع بذراع الحديد و ابواب كل رواق التى يدخل منها الى الارض ثلاثة و اكثر هذا المسجد الآن متخرب و كان تحرير ما ذكرناه بحضوري .

و من فضل الله عزوجل على بلده الطاهر مكة المكرمة ان هيا لها ابنائها العلماء في كل جيل و عصر من يهتم بها تاريخا و علما و حضارة و اجتماعا و عمرانا و آثارا اما المتابعة العلمية التاريخية الاثارية لهذا المعلم الاسلامي الخالد في العصر الحديث فتتمثل فيما سطره المؤرخون المكيون مثل :

1.    عميد المؤرخون المكيين في العصر الحديث الشيخ عبدالله غازي رحمه الله تعالى ( ت 1365هـ )  في كتابه افادة الانام بذكر اخبار البلد الحرام و من بعده.

2.    فضيلة العلامة المؤرخ الاديب الشيخ محمد طاهر الكردي الخطاط ( ت 1400 هـ ) في كتابه ( التاريخ القويم لمكة و بيت الله الكريم ) و قد استعرض رحمه الله تاريخ عمارة هذا المسجد عبر التاريخ حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري يتحدث رحمه الله واصفا له في وقته على عهده فيقول : " نقول ان مسجد البيعة هو قبيل جمرة العقبة على يسار الذاهب الى من مكة المكرمة الى منى و المسافة بين هذا المسجد و بين جمرة العقبة بأول منى هي كالمسافة بين الصفا و المروة أي نحو ثلاثمائة متر .

و لايزال هذا المسجد عامرا غير منهدم . و فيه حجر واحد مكتوب بالخط الكوفي و هو مثبت عند محرابه خارج المسجد لا من داخله و لم نتمكن من قراءة ما هو مكتوب فيه .

ذكر العلامة الفاسي ثلاثة احجار اما الثالث الذي نقش عليه تاريخ عمارة المستنصر اخر الخلفاء العباسيين فذكر انه " ملقى حول المسجد لتخربه " و ان تاريخ عمارته له سنة في سنة تسع و عشرين و ستمائة ". اما الشيخ محمد طاهر كردي الخطاط رحمه الله لم يجد الا حجرا و احدا .

 


 

يتابع العلماء المكيون الآثاريون في الوقت الحاضر دراساتهم الاثارية الحضارية عن معالم مكة التاريخية و الاسلامية المباركة و حيث لا يتسع المجال عن جميع من كتب حوله نذكر العالمين الفاضلين من علماء الاثار و التاريخ و الحضارة و عرض دراساتهما عن اللوحات التاريخية المنقوشة التى شاهداها و كتبا عنها لنتعرف على مدى ما توصلا اليه بعد الدراسة و البحث :

اولهما : عالم الآثار الاستاذ الدكتور محمد فهيم عبدالله الفعر الاستاذ بقسم الحضارة و التاريخ بجامعة ام القرى في رسالته العلمية بعنوان ( تطور الكتابات و النقوش في الحجاز منذ فجر الاسلام حتى منتصف القرن الرابع الهجري ) بعد ان ذكر وصفا تفصيليا للوحتين عرض لما يخص الالواح المنقوشة و الملصقة بجدار المسجد الخارجي التى نبه عليها قبله سلفه المؤرخين المكيين :" يوجد بمسجد البيعة بمنى لوحان من الرخام اولهما يقع في جدار القبلة من الخارج في الناحية الغربية من المسجد و هو غير مؤرخ و مقاسه 96× 58 سم و يتألف من خمسة عشر سطرا بالخط الحجازي المزوي محفورا حفرا غائرا.. و في الاخر : أي اللوح المؤرخ : تعريفه بمسجد البيعة بمنى و انه بني في سنة اربع و اربعين و مائة .

اما ما اورده الفاسي من ان المسجد قد عمر في عهد الخليفة المنتصر العباسي سنة تسع و عشرين و ستمائة على ما هو موجود في لوح مكتوب فيه ذلك كان ملقى حول المسجد فان ذلك في عهد الفاسي نفسه و ولم يعد له وجود الان .

الاستاذ الدكتور الفعر ينفي وجود الحجر اللوح الثالث الذي نبه عليه الفاسي و لم يذكره العلامة المؤرخ الشيخ محمد طاهر كردي المكي رحمه الله و انما ذكر لوحا واحدا في قبلة المسجد .

اما الدراسة الحديثة الثانية فقد قام بها الدكتور ناصر عبدالله البركاتي رحمه الله تعالى الاستاذ بقسم الحضارة و التاريخ بجامعة أم القرى و عميد المكتبات سابقا مع زميله الدكتور محمد سليمان مناع في كتابهما القيم بعنوان ( دراسة تارخية لمساجد المشاعر المقدسة : مسجد الخيف – مسجد البيعة بمنى ) نشرته دار المدني بجدة في طبعته الاولى عام 1408هـ / 1988م يقع الكتاب في مائتين و اربع و ستين صفحة و في صدد الحديث عن موقعه الجغرافي و ما يتصل بالحجارة المنقوش عليها تواريخ عمارة مسجد البيعة يقول : " و فيه حجران : مكتوب في احدهما : امر أمير المؤمنين ( ابو جعفر المنصور ) اكرمه الله ببنيان هذا المسجد ( مسجد البيعة ) التى كانت اول بيعة بايع فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم عقد عقده العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه .. و في الاخر تعريفه بمسجد البيعة و انه بني في سنة اربع و اربعين و مائة .

و قال الفاسي:( وعمره ايضا المستنصر العباسي على ما وجدته مكتوبا في حجر ملقى حول هذا المسجد لتخربه , و فيه ان ذلك سنة تسع و عشرين و ستمائة ).

و في دراسة ميدانية للكاتبين : د.معراج نواب مرزا رئيس قسم الجغرافيا بجامعة أم القرى و الدكتور عبدالوهاب ابراهيم ابو سليمان استاذ الفقه و الاصول ( سابقا ) بقسم الدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى , اكتشفا الحجر التاريخي الثالث الذي يعد وثيقة مهمة في تاريخ مسجد البيعة و ذلك اثناء القيام ببحث علمي بعنوان ( منى المشعر و الشعيرة : دراسة فقهيه جغرافية حضارية ) مقدما لمجلة البحوث الفقهية المعاصرة سينشر بإذن الله في عدد ذبي الحجة لعام 1421هـ .

ولدى القيام بزيارة ميدانية متكررة لمسجد البيعة عام 1420هـ و عام 1421هـ اخرها كان الساعة الخامسة بعد العصر من يوم الاحد العاشر من شهر ذي القعدة عام 1421هـ تم من قبلها تنظيف و جلاء اللوح  الثالث الذي ذكره الفاسي و لم يتمكن فضيلة الشيخ محمد طاهر كردي من رؤيته برغم دقته ونفى وجوده قطعيا الاستاذ الدكتور محمد الفعرو نقل دكتور ناصر البركاتي عبارة الفاسي و لم يعلق عليها , بعد اكتشافه و تحديد موضعه في زيارات سابقة و كان التاريخ الانف الذكر زيارة عمل اصطحبا معهما الادوات اللازمة لابراز الحجر الثالث و اظهار الكتابة المنقوشة على صفحته و فد كان مغطى بطبقة من الرخام البلدي و احكم لزق حوافه و جوانبه بطبقة كثيفة من التليس البلدي بالطين و النورة البلدية, لون الحجر المنقوش اسود يتبدى من خلال الرخام , تم الكشف عن الكتابة المنقوشة بعناية تامة و اتضح ان بالحجر شطبا في الجهة اليمنى و الجانب الاسفل منها ايضا .

بعد ظهور النقش المكتوب تأكد لهما بما لا مجال للشك فيه سبق قراءة العلامة الفاسي للتاريخ المدون على الحجر و قد تابعه عليها المؤرخون من بعده فهو يذكر ان التاريخ المدون لعمارة المسجد في عهد الخلفة ابي جعفر المستنصر بالله ( سنة تسع و عشرين و ستمائة ) في حين ان المدون عليه بشكل واضح هو ( سنة خمس و عشرين و ستمائة ) و بهذا تم و لله الحمد و بفضل منه و عون اكتشاف هذا اللوح المفقود من آثار مسجد البيعة الذي يدون تاريخ عمارته عبر بعض العصور بعد العلامة تقي الدين الفاسي بستة قرون تقريبا , كما تم بفضل الله و عونه الكشف عن الكتابة المدونة على اللوح الحجر ( الثالث ) و الذي يقع بجوار اللوحة الثانية على سور المسجد في الجهة الجنوبية منه , و تصحيح ما وقع سهوا من العلامة الفاسي و من جاء بعده و نقلوا عنه تاريخ عمارة المستنصر بالله العباسي : النص منقوش على حجر ( شبيكي ) اقرب الى السواد بحروف بارزة مساحة : متوسط عرضه 44 سم في متوسط ارتفاعه 24 سم و ينتهي في اخره بعرض 40 سم .
 

نقدم مع  هذا العرض صورة مستقلة لهذه اللوحة يبدو منقوشا عليها الجمل السابقة , و اللوحة الاخرى بجوارهما في صورة اخرى و بهذا تسد الثغرة التاريخية لمسجد عظيم من مساجد مكة المكرمة و مواقعها التاريخية التى عاصرت احداثا نتجت عنها تحولات تاريخية انسانية عظيمة , و الامل في الله ثم في الهيئات المسؤولة التى تبدي اهتماما بآثار الامة ان تعيد لهذا المسجد مكانته الشرعية و التاريخية و تحافظ عليه بناء يمثل عصرا من العصور و طرازا متميزا لمساجدنا القديمة التى استبدل بها طراز غريب عن بيئتنا لا يمت بصله للتراث المعماري الحضاري للمساجد في بلادنا فمن خلال هذه المواقع التاريخية الموثقة تتعرف الاجيال الناشئة على تاريخ الاسلام في مهده حياً ناطقاُ في موقعه الطبيعي اننا اذا فعلنا هذا نرسخ العقيدة الصحيحة و التعامل الشرعي السليم مع ما منحنا الله اياه و آثرنا به على سائر الامم و خصنا به في هذه البلاد على الحفاظ على تراث الامة الاسلامية فهو حق لها , امانة في اعناقنا و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه اجمعين .

المصدر : عكاظ الثلاثاء 19 ذو القعدة 1421ه | معالجة الصور : موقع قبلة الدنيا (  حسن عبدالعزيز مكاوي ) .