إنها مكة يا سادة ..

جعل الله للبلد الحرام خاصية وميزة عن باقي البلدان بأن له شوقا في القلوب وجذبا للأرواح ، مصداقا لقوله تعالى " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس .." أي يثوبون إليه لا يقضون منه وطرا ، فهذه البقعة المباركة والارض الطاهرة مهوى الافئدة وسكن القلوب لكل الناس ومن كل أرض ، تتوق نفوسهم إليها ويتحرقون شوقا لزيارتها ، هذا حال من بعُد عنها وكان من غير أهلها ، ولكن يا ترى كيف بمن ولد بها ونشأ فيها !! وما حال أهلها وذويها !! ، يذكر جمع من المحققين و المحبين للبلد الأمين -وشهد عليه شاهد الحال - أن من ولد على أرض مكة وترعرع فيها ، واستنشق نسيمها وشرب من زمزمها يصعب عليه فراقها أو السكنى بغيرها اختيارا ورغبة ، إن المكيين يشعرون أن مكة المكرمة جنة الأرض وهل يخرج عاقل من الجنة ليسكن غيرها !!

إن المكيين يشعروا بالتميز والاصطفاء في جوارهم لمكة واختيار الله لهم بسكناها ..
إن المكيين ينتشون فخرا بما أودع الله بمكتهم من كنوز مقدسة لا تقدر بثمن
إن المكيين يتعاظمون شرفا بأنهم سادة الناس وفي خدمتهم
إن المكيين يرون مكة بغير العيون التي يراها الناس بها  ، استمع للسيدة عائشة وهي تصف مكة ورغبتها في سكناها لولا مانع الهجرة - وما أمتع وأجمل ما وصفت به مكة - قالت رضي الله عنها : "لولا الهجرة لسكنت مكة ، إني لم أر السماء بمكان قط أقرب إلى الأرض منها بمكة ، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمئن بمكة ، ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة" ..

إن مكة للمكيين قصة عشق ، وحكاية حب ، وقصيدة وداد ، ورباط ألفة ومودة
المكي لا يقدر على فراق بلدته ، أو السكنى بغيرها ..
إن المحب إذا تألف لم يجد ...  طعم الحياة وإلفه في معزل

ولذلك صح عند البخاري أن سادات الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وبلال وغيرهما رضي الله عن الجميع كانوا بعد الهجرة يحنٌون ويتذكرون مكة فيغشى على الواحد منهم حتى أن بلالا رضي الله عنه كان إذا أفاق رفع عقيرته وأنشد :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة  ... بواد وحولي اذخر وجليل

وكانت الأنباء تصل لسيد محبي مكة صلوات ربي وسلامه عليه وهو الذي ما كان ليقدر على كتم حبه واخفاء بثه ،،
 فمن مبدأ مبعثه تَوجّع وتَفجّع ، واهتم واغتم ، يوم أن ذهبت به زوجه خديجة رضي الله عنها الى ورقة بن نوفل ودار بينهما مادار من حوار إلى أن قال ورقة - وهو الشاهد - ياليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك فقال صلى الله عليه وسلم :
"أو مخرجيٌ هم" !!!؟؟
وقف عند هذه الجملة .. وتمعن العبارة جيدا ؛ لتسمع منها أنينا ، وتجد فيها حنينا ، وتحس منها ألما ، وتلمس عندها حقيقة معنى حب مكة ، واحساس مرارة الابعاد عن مكة ، وتقرأ من خلالها ألم الفراق وشدة الوقع و ...
وحدث ما شئت عن الهوى .. فالكلام حلّ والبلاد حرام
واستَصْحبَ هذه اللّوعة ، وهذا الألم ليوم خروجه للمدينة وقد وقف على الحزورة وقال مخاطبا بلدته الحبيبة مكة : " والله إنك لأحب البقاع إلى الله ، ولولا أن اهلك أخرجوني منك ماخرجت"

ولذلك صح عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعوا على عتاة قريش الذين اضطروه للخروج من بلدته الحبيبة مكة فيقول : " اللهم العن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا..."

وحين تصل أنباء أصحابه وما يجدونه من شوق وحنين لمكة وما يلاقونه في حبها يقدر لهم ذلك الحب ويوافقهم عليه ويدعوا الله : "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" ...
شجانا منك يا مكة ..  ما يشجي المحبينا
فقد كنت لنا الدنيا  ..  كما كنت لنا الدينا
إنها مكة يا سادة ..
إنها الاختيار الإلهي ..
إنها الحب الأبدي ..
إنها مكتي .. .

ابو عبدالعزيز
محمد كريم بخش
مكة المكرمة
١٤٤٠/١٢/٦