قصة أولى التسجيلات الصوتية والمجموعات الفوتوغرافية من الحجاز

يجري تداول مقطع في اليوتيوب يشير الى أقدم تسجيل للقرآن يترافق مع صور قديمة عن مكة المكرمة. وفيما ان الصور منسوبة الى المستشرق الهولندي سنوك هوروخرونيه، وهذا نصف صحيح، اذ ان النصف الآخر من الصور يعود للمصوّر المكيّ السيّد عبدالغفار البغدادي (وهي مجموعة اخذت بين اعوام 1884 و 1887)، فان تاريخ التسجيل ليس متزامناً مع الصور الفوتوغرافية، بل انه يعود يقيناً الى الفترة بين عامي 1906 و 1909. هذه تدوينة لتوثيق حكاية أولى التسجيلات الصوتية والمجموعات الفوتوغرافية من اقليم الحجاز. 

القسم الأول |  أولى المجموعات الفوتوغرافية في الحجاز

1.  مجموعة المهندس والضابط المصري محمد صادق ـ أول من صوّر مكّة (1880) :
 

هي الصُور التي أخذها محمد صادق بيه ضمن رحلته الرسمية للحج في عام 1880م، وضمّنها في مخطوط مشعل المحمل الذي كان مفقوداً ولم يكن يتداول الا في وقت قريب. وصادق بيه كان من ضمن أفراد بعثة الجيش الرابعة التي اختارها احد قيادات جيش محمد علي باشا الكولونيل جان ساف الى معهد البوليتكنيك، حيث تخرج كمهندس حربي واتقن التصوير الفوتوغرافي.

ضمت مجموعة محمد صادق بيه الأولى صورا بانورامية للحرم المكي من أعلى جبل أبي قبيس، وصور متفرقة من داخل صحن الكعبة، وصور للمدينة المنورة من خارج السور من ناحية الباب الشامي التقطها من أعلى برج الطوبخانة، وأخرى لأجواء حارة المناخَة. ولمحمد صادق بيه صور شهيرة ترصد لحظة وصول المحمل المصري للمسعى امام بيت باناجه مقابل باب علي. 

وبيت باناجه (ذو الروشان المهيب) هو قصر بناه أصلاً الوالي المصري لمكة أحمد يكن باشا قبل عام 1820م ابّان حكم محمد علي باشا للحجاز، قبل ان يشتريه من ورثته التاجر الجدّاوي عبدالله يوسف باناجه عام 1883م. وكان بيت باناجة يُستخدم للتشريفات الملكيّة فنزل فيه الخديوي عباس والسلطان القعيطي، والملك عبدالعزيز عند دخوله مكة – وكان أهل مكة يستخدمونه كقاعة لاجتماعات واحتفالات المدينة ومراسم الصلح- كما استضاف في الثلاثينات الميلادية مقرّ الشركة العربية للاقتصاد والتوفير التي أسسها الشيخ محمد سرور الصبان، وكان مقراً ايضا لادارة تحرير صحيفة (صوت الحجاز) التي كان تصدر آنذاك عن الشركة العربية. 

ومن مجموعته في المدينة المنورة (الصور التالية) : وكانت مجموعة محمد صادق بيه الأولى والمكوّنة من اثني عشر صورة قد حصلت على الميدالية الذهبية في الدورة الثالثة لجمعية الجغرافيين الدوليين في البندقية عام 1881. 
 

2. مجموعة السيّد عبدالغفار عبدالرحمن البغدادي المكّي – أول مصوّر محلي (1884) : 

كان السيّد عبدالغفار بن عبدالرحمن البغدادي المكّي، طبيباً مرموقاً في مكة يحفل بعدة مواهب منها إلمامه بعلم الكيمياء وصنع البنادق والذخيرة والمتفجرات الخفيفة.. ناهيك عن ريادته الباكرة في التصوير الفوتوغرافي منذ عام 1884م، وهو تاريخ محاولته لتصوير بورتريه لحاكم الحجاز العثماني عثمان نوري باشا. 

وللسيّد عبدالغفار، وهو من أهل حارة الشاميّة، عقب مستمر في مكة (يحملون اسم عائلة عبدالغفار) توارثوا عنه مهنة الطب، فأحد أحفاده هو الدكتور هشام بن حسن بن حسين بن عبدالغفار وكيل وزارة الصحة الأسبق، والرجل الذي وضع البنية الحديثة للمستشفيات العامة في مكة. 

اتصل السيّد عبدالغفار بالمستشرق الهولندي سنوك هوروخرونيه الذي زار الحجاز ومكث في مكة حدود عام في 1885م، وبقيا على تواصل حتى بعد عودة الأخير الى اندونيسيا عبر القنصل الهولندي في جدة الخواجة فان دير شايس.. وخلّفا سوياً مجموعة قيمة من الصور الفوتوغرافية التي تناولت كافة المظاهر الجغرافية والعمرانية والحضارية والاجتماعية في مكة المكرمة في زمانهما – وتعد مجموعتهما المشتركة بمثابة ثروة أركيولوجية هائلة، ومصدراً رئيسياً للبحث العلمي في تاريخ وأنثروبولوجيا مكة والحج والجزيرة العربية. 

ومجموعة السيّد عبدالغفار التقطت في مكة بين أعوام 1884م و1889م. وتنقسم تلك التي أُخذت لأفراد الى نوعين: صور انصب فيها اهتمام السيد عبدالغفار على تصوير حكام الحجاز وأشرافه وأعيانه وأثريائه على طريقة البورتريه – لأسباب ربحية او توثيقية.. هنا نماذج منها:

ثم هناك صور الأفراد التي طلبها سنوك خصيصاً لشخصيات عادية من طبقات اجتماعية متنوّعة لأغراض الدرس الأنثروبولوجي. ومجموعة السيّد عبدالغفار وصلتنا  كاملة عبر ارشيف سنوك هوروخرونيه الذي اهداه الى معهد الدراسات الشرقية في لايدن بهولندا عند افتتاحه عام 1927م (وبقيت مفقودة ومهملة حتى وُجدت عام 1983م) .. الا صورة واحدة لكراكون مكة (مخفر الشرطة) أخذها السيّد عبدالغفار البغدادي عام 1886م هي من مقتنيات قصر يلدز بتركيا. 
 

3.  مجموعة المستشرق الهولندي كريستيان سنوك هوروخرونيه – أول مصوّر أوروبي لمكة المكرمة  (1885): 

كان الكولونيل كريستيان سنوك هوروخرونيه ( (1857-1936أستاذاً للعربية في باتافيا (جاكرتا حالياً)، ثم بروفيسورا في معهد الدراسات الشرقية في لايدن بهولنده منذ افتتاحه عام 1927م. 

تعد مجموعته الفوتوغرافية العريضة وهائلة التنوع والدقة عن الحجاز ارثاً معرفياً، سواء تلك الصور التي أخذها بذاته ابّان مكوثه في جدة ومكة عامي 1884م و1885م – او تلك التي طلبها خصيصاً وموّلها لتكون من مقتنياته – والتقطتها له السيّد عبدالغفار البغدادي. 

وبخلاف السيّد عبدالغفار.. اهتم سنوك بتصوير الجماعات المحلية الحِرفية والطوائف الشعبية العامة، اضافة الى الجماعات الاثنية والعرقية المتنوعة القادمة للحج.. نكتفي هنا بثلاث صور للتوضيح، خصوصاً ان هذه المجموعة ومنذ خروجها للعلن في 1984م باتت متداولة بين الباحثين والمختصيّن:

اضطر سنوك الى ترك مكة المكرمة بغتة بعد ان توجّس منه خيفة الشريف عون الرفيق، لكنه استطاع انجاز مشروعه العلمي الطموح في توثيق أنماط الحياة الاجتماعية في مكة عبر قنطرة القنصلية الهولندية في جدة، بتعاون من تلميذه فيها الخواجة فان دير شايس ومن أعقبه من القناصل، وعبر مندوبين محليين: السيّد عبدالغفار البغدادي في الشق الفوتوغرافي، والسيّد جمال تاج الدين في الشق التسجيلي الصوتي كما سيأتي.


القسم الثاني | اولى التسجيلات الصوتيّة في الحجاز

تختصر هذه الصورة قصة أولى التسجيلات التي سعى خلفها سنوك هوروخرونيه، واستمر تسجيلها في اسطوانات شمعية في طول الحجاز وعرضه طيلة ثلاث أعوام من 1906م الى عام 1909م. 

كان سنوك هوروخرونيه مسئولاً رفيعاً في الدبلوماسية الهولندية عبر البحار في مواقع نفوذها في جزائر جاوى وجزر الهند الشرقية. كانت مهمته تنحصر في رصد واستشراف اتجاهات الفكر لدى السكان الجاويين المحليين، وكان ذلك باعث رحلته الأولى الى مكة عام 1885م. لكن نزعات المعرفة والاستطلاع ستنمو لديه.. فاستغل درايته وقدراته اللوجستية في رفد حقليّ  اللسانيات والموسيقى الاثنيّة وفلكلور الشعوب بمواد رائدة عن مكة. وفي سبيل تنفيذ مشروعه أرسل سنوك الفونوغراف الخاص به الى الحجاز عام 1906م.. عبر ترتيب يشرف عليه السيّد محمد سعيد تاج الدين أحد أقطاب نقل حجاج جنوب شرق آسيا بالسفن البخارية، مع القنصلية الهولندية في جدة وعبر مندوبه وشقيقه في الحجاز السيّد جمال الدين آل تاج الدين. 

سُجل على تلك الاسطوانات قدر هائل من كل ما يمكن أن يخطر على البال مما يخص الموروث الحجازي بين عامي 1906 و1909م : سور صغار من القرآن الكريم. أذان الحرم المكي. ابتهالات دينية وموشحات مديح نبوي وتزهيد. غناء محكي. دانات مكيّة مُغنّاة على آلة العود. ألوان من المجرور والحدري والفرعي. مجسات على الأصول والفروع. تسجيل لغناء جماعي في الحارات الشعبية كمقاطع من الصهباء المكيّة ويماني الكف. غناء نسائي. شعر بدوي. غناء لنساء بيشة. مقاطع من احتفالات الزواج. مقاطع ترصد الأهازيج المغناة في الاحتفالات العامة مثل افتتاح محطة معان الحجازية ضمن سكة حديد الحجاز عام 1907.

وفي وثيقة لمحمد سعيد تاج الدين لأخيه (انظر للصورة بالأسفل) ارسلت في منتصف عملية التسجيل عام 1907، نجده يحدد له الأقدار المطلوبة من التسجيلات وأجناسها، كما ينبهه الى عدم ارسال ما سبق وتم جمعه من دانات او مجسات. 

ومن هذه الوثيقة نخلص الى ان أول الدانات المكيّة اليمانية التي جرى تسجيلها في مكة عام 1906م كانت كالتالي: حوري على رضوان. اراك طروبا. في حط لك يا منى قلبي على الخد شامة. ما القميري ترنّم في الظلام. ما حركت سكناة الأعين النجل. تردّو علي طرفي النوم الذي سُلبا. ليذهب في ملامي كيف ما ذهبوا. حذاري سيوف الهند. بات ساجي الطرف. أسعد الله مساك. نالت على يدها. سبت فؤادي بالعيون الملاح. سبت بذاك المحيا طلعت البدري. اذا عقد اللثام بداها لا لا. يا رب سألتك بسورتي حاء وميم. ما بين معترك الأحداق والمهج. قال الشجي الهاي? اسمع يا فهيم. وابروحي من الغيد كالهلال. قال المعنّي بدت قمري. يا ساري الليل قم وانظر حروف العشّاق. يا الله يا عالم الضماير. جرحت قلبي بلحظ منك فتّاك. رهيني الهوى يشكي من يودّه. يا هل الهوى اليوم خلّي أطال. 

فيما المصري الذي كان يُغنى في الحجاز: أدو الميّاس. دلالك يا جميل أفراح. افرح وصالك. وأول مجرور تم تسجيله:  سلو فاتر الأجفان صافي الثنايا. 

أما أول المجسّات المكيّة التي سجّلت في مكة فكانت: يا قلب انت وعدتني في حبهم. ابقي لي مقلة لعلّي يوما. بدا فأراني الظبي والغصن والبدرا. وحقك اني قانعٌ بالذي تهوى. سلو فاتر الأجفان عن كبدي الحرا. حجبوك عن مقل الأنام. ان عيني من غاب شخصك عنها. جذبته للعناق فانثنى خجلا. عني خذو وبي اقتدوا. لقد رام خلّي من ارادت وصاله. سمعت سويجع الأثلاث غنّي. وملكته روحي وان عنّي عفا. ان الغرام هو الحياة فمت به. بدا فأشبه غصن البان في الميل. 

كانت التسجيل على الاسطوانة الواحدة لا يزيد عن ثلاث دقائق. وبعض التسجيلات تُجزّأ على أكثر من اسطوانة. ومن أهم الأصوات التي سجّلت الأذان المكّي للمقرئ والمدّاح اليماني المعروف جابر احمد رزق، من اهل صنعاء أصلاً، ثم رحل الى الحديدة قبل ان ينتهي به المطاف في الحجاز.

وكان الى جانب اللهجة الحجازية الحضرية الأكثر حضوراً – لهجات أخرى لافراد يتحدثون الحضرمية والزنجبارية  والعربية بمخارج صوتية جاوية. غير ان أهم ما يمكن استخلاصه من الاسطوانات: وحدة الفضاء الصوتي والموسيقي بين الحجاز وتهامة واليمن – وتداخل الموروث وتشابكه - ومرونة تنقل الأفراد والمؤديين شمالاً وجنوباً دون قيود جوهرية.

لقد شحنت تلك الإسطوانات بعد الفراغ من تسجيلها من مكة عبر قنصلية هولنده في جدة الى جاكرتا حيث مقر اقامة سنوك على دفعات زمنية طويلة من 1907 الى 1920م . وأودعها سنوك ارشيفه الشخصي – قبل ان يهديها الى معهد الدراسات الشرقية في لايدن سنة افتتاحه عام 1927م – حيث اشتغل سنوك بالتدريس الى وفاته. 

ظلت تلك الاسطوانات حبيسة أضابير مُغلقة حتى بعثت من مرقدها عام 1983- اذ تم استخراج 150 اسطوانة شمعية من الركام – لكنها لم ترى النور سوى بعد مرحلة شاقة من الفرز والتحليل والتفكيك والمعالجة الفنية في عام 1994 بتعاون اشترك فيه مركز الدراسات الشرقة في لايدن، ومتحف هارفارد للثقافات الساميّة، واكاديمية ارشيف الفونوغراف في فيينا.

كان أديسون قد اخترع جهاز الفونوغراف في ديسمبر 1877م وبعد ذلك بعام شرع فيه ترويجه تجارياً. وفي 1881م ادخل عليه تقنية الاسطوانات الشمعية لتسجيل الصوت. 

واول التسجيلات العربية رصد في سبتمبر عام 1893م، وهو تسجيل لموسيقى عربية وجاوية على مسرح تركي – من تسجيل  البروفيسور بينيامين جيلمان من جامعة هارفارد. 

وكان عبده الحامولي اول مطرب يسجّل اغانيه على الفونوغراف قبل وفاته عام 1901.. فيما بدأت صحف مصر بالاعلان عن المسجلات الاسطوانية لافضل المغنيين المصريين والشرقيين منذ عام 1904. كما وجدت تسجيلات لمطرب ظفاري من عُمان من مقتنيات معهد فيينا للموسيقى - يعود تسجيلها لعام 1902م. 

كان سنوك في رحلته لمكة في 1885م قد وثّق الصلة بعالمين من علماؤه: السيّد عبدالله بن محمد بن صالح زواوي، مفتي الشافعية، والسيّد عثمان بن عقيل. واستطاع لاحقاً من خلال معرفته بهما ان يستخرج منهما أولى الفتاوي المحلية في حكم الفونوغراف. 

وفي عام 1889م اصدر السيّد عثمان بن عبدالله بن عقيل رسالة طلوع بدر العلم المرتفع يرحب فيها بالآلة الجديدة، ويفتى باباحتها طالما روعيت في تسجيلاتها الآداب الاسلامية. كما لم يمانع تسجيل صوت المرأة طالما انها ابتعدت عن اثارة الغرائز. 

وفي 8 سبتمبر 1908م اصدر السيّد عبدالله بن محمد بن صالح الزواوي، مفتي الشافعية في مكة فتوى بإباحة تسجيلات القرآن والابتهالات الدينية على الفونوغراف في جواب على سؤال سنوك هوروخرونيه

 

  المصدر : مدونة محمود عبدالغني صباغ