كتاب "مقتطفات من رحلة العيّاشي (ماء الموائد)"، المحقق حمد الجاسر

كتاب "مقتطفات من رحلة العيّاشي (ماء الموائد)"، المحقق حمد الجاسر، دار الرفاعي للنشر والطباعة والتوزيع، الرياض، ١٤٠٤ هجرية - ١٩٨٤ ميلادية.

يُعد كتاب "ماء الموائد" لعبد الله محمد العيّاشي من أوفى رحلات الحج إذ وصف الحجاز ومنازل الحج ومشاعره المقدسة وصفاً شاملاً في القرن الحادي عشر الهجري في مختلف حالاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإدارية، وهو من أهل فاس في المغرب، وحج سنة ١٠٥٩ و ١٠٦٤ و ١٠٧٢ هجرية، كما جاور في الحرمين الشريفين. أما كتاب المقتطفات، الذي يُشكل هذا العمل، كما بيّن محققه الشيخ حمد الجاسر فليس تلخيصاً للرحلة "ولكنه عرض لنصوص مختصرة، يتركز أهمها في وصف الطريق من مصر إلى مكة المكرمة، ثم لمحات موجزة ذات صلة بالحج، وبمختلف أحوال سكان المدينتين الكريمتين، وما بينهما"، وهو الكتاب الثاني من سلسلة في رحاب الحرمين - أشهر رحلات الحج، التي نشرتها تباعاً دار الرفاعي. "إن المؤلف عاش في عصر يختلف عن عصرنا، ولهذا فقد تضيق نفوس بعض القراء ممن يجدون فيه أنماطاً من الأفكار والآراء، لا تتفق مع إدراكهم، ومبلغ علمهم ...."، هذا ما يقوله المحقق الشيخ حمد الجاسر. غير أن هناك ميزة فريدة وقيمة للكتاب تتجسد في أهمية وضرورة الرعاية والحفاظ على الإنجازات والمكتسبات التي تحققت في العصور الراهنة في كافة المجالات، وجُلها يجعل من المعلومات الواردة فيه ذات عظة وعبرة، وكذا تذكير بالواجبات ودعوة إلى المثابرة مع السيرة الصالحة.

في مكة المكرمة :  " دخلنا مكة (المكرمة) عشية يوم السبت خامس يوم من ذي الحجة (سنة ١٠٧٢ هجرية) ....، ودخل الركب المصري قبلنا في اليوم الرابع، ودخل الركب الشامي في السادس، .... وكانوا لقوا من الحرامية شدة في الطريق حتى كادوا أن يتعوّقوا، .... بعد أن انتهب من ركبهم كثير، وقتل أناس، ثم دخل ركب العراق يوم الثامن بعد ما وصل الناس إلى منى. ولما نزلنا من الثنية أنخنا الركاب بالحجون وسط المقبرة للضرورة وحططنا الرحال بين القبور، إذ لم نجد مكاناً سوى ذلك، والأركاب قد ملأت خيامهم السهل والوعر، ولم يسلم إلا أماكن القبور المبنية أو المحوط بها، والله يغفر لنا ما اقتحمنا من ذلك. .... تركنا الخباء والإبل بمنزلنا بالحجون يبيت فيه بعض أصحابنا، ولقوا من أذى السرّاق بالليل شدة، فإنهم يهجمون على الناس هجوماً، ويعظم أذاهم في أيام الموسم لقلة الحكم بتهاون الحكام، وإرخاء العنان لهم في ذلك. .... ولأهل مكة (المكرمة) في ليلة ١٣ ذي القعدة مولد كبير في مشهد السيد العيدروس عند الشبيكة، يجتمع هناك جماعة من أولاده وأتباعه السالكين على طريقه، ويعمل هناك سماع وقراءة وتلاوة، ويجتمع فيه خلق كثير، وقد فُرش المشهد كله وما حوله، وأُعدت للحاضرين أطعمة وأشربة، ويستكثر هناك من المصابيح، وقد زرته في هذه الليلة رضي الله عنه ومشهده من المشاهد المشهورة بمكة (المكرمة)، والمزارات العظيمة، وبيتهم له صيت ومكانة عند الخاص والعام .

في المدينة المشرفة :وأهل المدينة (المنورة) زادهم الله خيراً وأوسع عليهم، أهل رفاهية وتوسع في المعيشة في زماننا هذا (١٠٧٢ هجرية)، وتغال في الملابس الفاخرة، .... ولقد أُخبرت أن للنساء عليهم عادة يسمونها الشخشخة، وهو ما تشتري به المرأة ما تشتهيه من الأزهار، فربما بلغ ذلك ريالاً في كل يوم. .... وأيام الموسم عند أهل الحرمين فيها يجمعون غالب أمور معاشهم، فلا يتفرغ أحد لتدريس ولا عبادة إلا ما لابُدّ منه، فإذا انقطعت أيام الموسم ذهبت الأركاب الواردة من الآفاق، ولم يبق بالحرمين إلا أهلها، رجعوا إلى معتاد حالهم، في الأمور الدينية من القراءة والتدريس وأنواع العبادات، والدنيوية من الفلاحة والتسعير في الأسواق وتصحيح المكاييل والموازين. وأما أيام الموسم فلا سِعر معلوماً، ولا مكيال كافياً، ولا ميزان صحيحاً، كلٌ يفعل ما يشاء، ولا يتكلم الولاة في شيء من ذلك، إلا أن يقع أمر مهم. .... (ومن عاداتهم في الإملاكات أن يكون عقد النكاح في الحرم) فيأتي أكابر المدينة (المنورة) من أرباب المراتب والمناصب، والخطيب، فيجلسون صفّين، من المنبر إلى الحجرة الشريفة، صف مستقبل القبلة، وصف مسند ظهره إلى جدار القبلة، وجلس على يسار الشيخ كبير الخطباء بالمدينة (المنورة) أحمد البرّي، وبإزاء الخطيب المتعاقدان، فشرع في الخطبة، وأطال الثناء على الله بما أهله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. .... ثم أُتِيَ بأطباق الرياحين ووضعت بين الصفين، وأطباق من اللوز والسكر وفرّق ذلك على الحاضرين، وقام المنشد فأنشد قصيدة أو قصيدتين في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فافترق المجلس، وقام الحاضرون إلى المتعاقدين يهنوهما، .... وهذه صورة إملاك كل ذي وجاهة ورياسة من أمير أو تاجر أو صاحب خطّة، وأما غيرهم فعلى حسب ما يتفق لهم. " 

بقلم : المطوف الدكتور عبد المجيد داغستاني