قصة بناء الكعبة عام 1039هـ ( 2 )

في يوم الجمعه 21 من شعبان 1039هـ أمر الشريف مسعود بالنداء العام لأهل البلد الحرام بالتنظيف ، و نزل بنفسه إلى المسجد الحرام ، ومعه الساده و الأشراف و الأعيان ، فتهافت الناس من كل صوب ، و أخذوا يزيلون ما قدروا على إزالته من مخلفات السيل من الطين و غيره ، وشمر الشريف مسعود واخذ مكتلاً و حمل فيه الطين ، و فعل الناس مثل فعله ، و تم تنظيف المطاف بسرعه بجهود أبناء البلد الأمين أهل مكة أهل الله و جيرانه و جيران حرمه فهو بيت الله و بيتهم و اصلهم و عزهم و قبلتهم ، فإذا كانت إزاله القذى من المساجد مهور الحور العين فما الظن بتنظيف بيت الله الحرام؟ .

صحيح أن التنظيف لم يكن كاملاً لأنه يحتاج إلى مجهود و وسائل أكثر قدره و هذا ما تم فيما بعد ، إلا أنه على الأقل أصبح ممكناً الطواف و الصلاة في المطاف ، ثم أذن مؤذن الجمعة ، و خطب الجمعه في هذا اليوم الشيخ القاضي (فايز بن ظهيره القرشي المخزومي )وصلى الناس خلفه في المطاف بعد أن نظفوه ، و هنيئاً لهم ، و بعد انقضاء الصلاة أخذوا في رفع حجاره الكعبة التي تساقطت من انهدام جدرانها :
-جزء منها حمله العتالون الى صحن المسجد ، وهي الحجاره الكبيره .
-جزء منها بين المقام الحنفي و حاشيه المطاف ، و هي الحجاره الصغيره .
-بقيه الحجاره وضع جزء منها عند ممشى باب السلام و الجزء الاخر خلف المقام الحنفي .
-الجباب الي ما تحت مدرسه السلطان سليمان مكان المحكمة الشرعيه عند باب زيادة (باب المحكمة) .
-النطاقات  التي كانت تشد الكعبة المشرفة بعد تشقق الجدار الشامي و تصدع البناء التي بعثها السلطان أحمد عام 1020هـ و ركبت فيها عام 1021هـ .

و في هذا اليوم نزل صفر آغا رئيس المرشدين إلى جدة ، و أخذ من حاكمها خمسمائة دينار من مال العشور الذي كان سيرسل للسلطنة .

في يوم السبت 22 من شعبان عام 1039هـ نزل الشريف مسعود بن ادريس شريف مكه الى المسجد الحرام واجتمع اليه علماء البلد الحرام في مجلس عقد في موضع المكبرين من المقام الحنفي في مسألتين أساسيتين :
1-المبادرة بعمارة الساقط منه وهدم ما قال أهل الخبرة أنه آيل إلى السقوط خشية التضرر به .
2-المال الذي يتم التعمير به .
و ممن حضر من العلماء :
- الشيخ خالد المالكي البصير
- الشيخ محمد بن علان الصديقي
- القاضي عبد الله بنت ابي بكر الحنبلي
- القاضي احمد بن عيسى المرشدي
كما حضر حسين اغا شاووش من طرف والي مصر

و كان موضوع المباحثة يدور حول نقطتين :
1-تحديد الإجراء الذي يجب اتخاذه : هل نبدأ التعمير على الفور و نخطر السلطان بالوقائع أم نخطر السلطان بالوقائع و ننتظر قراره ؟
2-تحديد مصادر تكاليف التعمير .
وكان سؤالا الشريف مسعود لهم :
(1) هل يؤثر المبادره الى عمارتها و يعمر في الحال ولي الامر الذاب عن سرحها ؟
(2) و من أي مال يكون التعمير بمال قناديلها ام بمال غير ذلك ؟

فانعقد اتفاق العلماء الحاضرين على :
-المبادرة على الفور بتعميرها (لأنـهم اعتبروه فرض كفاية على جميع المسلمين) من مال حلال و يدخل في ذلك :
1-مال الكعبة (و منه القناديل داخل الكعبة) ما لم يعلم أنـها قد أُوقفت لغير غرض تعمير الكعبة .
2-بيت مال ليس فيه أموال محرمة و لا فيها شبهة .
3-مال حلال ليس فيه شبهة يتبرع به أحدٌ من المسلمين .
-ان يُخطر الخليفه امير المؤمنين السلطان مراد خان الرابع خادم الحرمين الشريفين بالوقائع مع عدم إشتراط استئذانه في العمل .

وبعد انعقاد الاجماع على هذا الراي من الحاضرين أمر الشريف مسعود كتابه وثيقه فيها السؤال و عليها كتابات العلماء لارسالها الى الخليفه امير المؤمنين في دار الاستانة العلية ثم قاموا من المجلس و فرش لهم بساط في (باب أجياد) و كان يسمى في ذالك الزمن (باب الرحمه) وسمي ايضاً (باب الشريف) لان الشريف سرور كان يخرج من بيته الى المسجد الحرام عبر هذا الباب وطلب الحاضرون من (الشيخ /محمد بن علان الصديقي) كتاب (المناهل العذبة في إصلاح ما وهي من الكعبة) الذي ألفه مفتي الشافعيه بمكة المكرمة (الإمام/ابن حجر الهيتمي) فأحضره لهم فأخذه (الشيخ/تاج الدين المالكي) وظل يقرؤه عليهم عشره أيام و الحاضرون يسمعون حتى وصلوا إلى المطلوب فكتبوا السؤال كما ذكر سابقا.

بعد ذلك ظهر لابن علان الصديقي رأيٌ آخر و هو : أن المسؤول عن هذا الأمر هو الخليفة وحده و أنه هو و ليس أحد آخر ، و أن لا يبدأ أحدٌ بالتعمير قبل عرض الأمر عليه ، و صدور أمر منه بذلك .

و من أهم ما ارتكز عليه هو (درء مفسدة الفوضى و الإستخفاف بمقام ولي الأمر الشرعي) حيث قال : (فدل على أن المخاطب بعمارة ذلك وما شابهه من المواضع الأكيدة الحرمة كالكعبة وحدود الحرم وعمارة موضع حجرته - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الإِمام الأعظم، مع ما في مباشرة الآحاد لذلك من التعريض للفتنة ولإِهمال أمر الخلافة ولا شك أن ما يؤدي لذلك ممنوع) .

فناقش هذا الامر مع بعض الفقهاء المفتين و عرض عليهم مسوغاته فلم يرجعوا عن رأيهم الأول حيث يقول :(فكنت أرى أخذًا مما في (المناهل العذبة في إصلاح ما وهي من الكعبة) للشيخ المحقق شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي، من طلب عمل ما كان فيه خلل في البيت، أو حاجة أو استحسان -وكذا رأى الجماعة-، وأن ذلك يبادر به مبادرةً للقُرب، ومسارعةً لمرضاة الرب، وأن عمارته تكون مما به من المال، إذ لم يعلم لمرصَده اعتبارُ مصرِفٍ معين، وما كان كذلك يصرف منه للعمارة، وكذا يعمر مما تبرع به متبرعٌ غالبُ الظن حِلُّ مالِه، أو من مال بيت مالٍ خَلِي عن الحرام فيما يظهر، وأن ذلك لا يحتاج لمراجعة مولانا السلطان الأعظم، بل يشرع في العمل ويرسل إليه بالأمر.

وكُتِب في المسألة سؤال، وكتب عليه مفتو العصر بذلك، وكتبت معهم ثم تأملتُ بعدُ ونظرت، وراجعتُ الفكْرَ وتفكرت، فرأيت أن ما ألَّف فيه ابنُ حجر إنما هو في أمر رُفع للسلطان وبرز أمره بالعمل، ثم اختُلف بعد تحقق وجود الأمر السلطاني الذي يرجع فيه إلى ذلك: أيكفي مسوِّغًا لهدم ما آل إلى السقوط وقال أهل الخبرة به؟ أو لا بدَّ بعد تحقُّق الإِذن من وجود السقوط بالفعل؟ فموضوع رسالته في حكم ما خُشي سقوطه ولم يسقُط بعد، وقد رُفع للسلطان فأذن بالهدم .

وكون ابن حجر لما نقل أقوال الأئمة بعدُ لم يذكر اعتبار ذلك لا يضر، لأن الأصل الانسحاب والاستصحاب حتى يأتي ما يعارضه. وأيضًا، فانظر لجميع عماراته منذ أيام قريش إلى الآن، لم ينقل أنه عمل فيها إلَّا بعد عرض ذلك الداعي للعمل على السلطان في ذلك، والوقوف عند أمره. ولما كان الأمر زمن قريش منتشرًا في بطونه، لم يعمرها إلَّا مجموع البطون الذي لهم الأمر بمكة، ومن أراد ذلك فلينظر "تاريخ الفاسي" وغيره، وقد لخصه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري") .

و قرر الشريف مسعود تغيير صيغة السؤال لسبب أو لآخر بصيغة وصفها ابن علان بأنـها (فيها بسط ، و هي بـمعناها) ، و كتب العلماء مرةً أُخرى ما كتبوه سابقاً وكتب ابن علان عليه قوله : (وإمام المخاطبين بهذا الفرض المقدم، مولانا سلطان الإِسلام المكرم مولانا السلطان مراد خان ثم نائبه مولانا الشريف) .

و جهز الشريف مسعود هيئة للسفر بالوثيقة ليتم عرضها و تبليغ ما حصل للكعبة المشرفة على والي مصر (الوزير/محمد علي باشا) لعرضها على أمير المؤمنين بالأستانة العلية ، فسافر بـها :
-أحمد شاووش
-النوري علي (صنجق دار اليمن)
و كان سفرهم بعدها بيومين بتاريخ الإثنين 24 شعبان 1039هـ .

دخل شهر رمضان المبارك هذا العام على مكة المكرمة ليس كأي رمضان مرَّ عليهم في أي زمن من أزمنة التاريخ ، آثار السيل منتشرة ، و أحزان الناس على الذين رحلوا عنهم تجعل في قلوبـهم غُصة ، الكعبة المشرفة متهدمة غير مستورة لا بخشبٍ و لا بغيره ، مكشوف ما بداخلها ، متنجسة متسخة أرضيتها من الداخل ، تدخل إليها القطط حاملةً ما تصطاده من حمام الحرم وتترك مخلفاتـها داخل الكعبة ، و نبه الشيخ (محمد بن علان الصديقي) على وجوب المباشرة بسد مواقع الهدم حفظًا لها من التنجيس فقال : (لا شبهة في وجوب سد ما ظهر بالانهدام من الجدار والسقف المحاذي بما يمنع وصول ما يحصل منه التنجيس لداخل الكعبة من طير، سيما (أبابيل)  فإنه في أقل زمن يبني بيوته في الأماكن التي يتمكن منها ويفرخ فيها ويحصل منه مزيد التنجيس، ومن هرة.

ويكون السد موثقًا بأخشاب أو بحِفْش ، ويطلب أن يسدل عليه ثوب ويكون ذلك على الفور، ولا يتوقف في ذلك على إذن السلطان الأعظم في ذلك, لأنه لا ينتظر لعمارة مثل ذلك وعمله، وإنما ينتظر لعمل الذي يكون على الدوام من الجدار والسقف ونحوهما، لما فيه مع كمال الأجر عند صحة النية من إشادة الكف المنظورة للملوك)  .

و ذكر الإمام الحلبي أن الطاعون نزل بـمكة أيضاً ، و أنه ظل حتى تـم ستر الكعبة فيما بعد . وباقتراب (حولية السيدة أم المؤمنين خديجة عليها السلام) ، و في العاشر من رمضان انتهت عملية التنظيف الثانية للحرم التي استخدمت فيها الأبقار لحرث مخلفات السيل ، و بالرغم من ذلك ظلت مخلفات أُخرى احتاجت فيما بعد لـمجهودٍ أكبر .