المسفلة ...حي عتيق يجسد تاريخ أم القرى

المسفلة من الأحياء القديمة فى مكة المكرمة التي لازالت تحتفظ بالكثير من عبقها التاريخي وخصائصها رغم تأثرها بمعطيات المدنية المعاصرة .
ويمثل الحى نصف مكة المكرمة فى العصر القديم فقد كانت مكة فى العصور القديمة تنقسم الى قسمين معلاة ومسفلة ورغم تداخل الحوارى وقصر اسم المعلاة فى الجزء العلوى البسيط لمكة المكرمة ، احتفظ حى المسفلة بعراقته ومكانته وتوسعت حدوده من حيث المساحة وزاد عدد ساكنيه ، ولا يزال الحى يعتبر واحدا من أكبر الأحياء احتضاناً للسكان إلى جانب كونه يحتضن اكبر عدد من الحجاج والمعتمرين والزوار سنوياً ،

المسفلة.. هنا كانت دار أبي بكر الصديق وفيه ولد عمر
وتحفل المراجع التاريخية بذكر الكثير من الآثار والأماكن التى لاتزال باقية ومعروفة حتى اليوم رغم التطور العمرانى الذى شهدته العاصمة المقدسة على مدى القرون الماضية خاصة فى عهد الدولة السعودية حيث نالت مكة المكرمة من الرعاية والاهتمام ما لم تنله على مرَّ العصور . حافظ حي المسفلة على بعض معالمه وخصائصه من الأزقة والشوارع القديمة التاريخية ولاتزال بمسمياتها كشارع ابراهيم الخليل الذى يمثل طريق وادى إبراهيم الخليل عليه السلام الذى سار فيه وسمى وادى ابراهيم بهذا الاسم منذ (4200عام) ، والمواقع التى سار فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم وشارع حمزة بن عبدالمطلب.

دار ابوبكر الصديق
ومن أهم المواقع التاريخية فى حى المسفلة شارع ابوبكر الصديق الذى كانت تقع فيه داره وجبل عمر الذى ولد فيه عمر بن الخطاب ومنازل الصحابة رضوان الله عليهم أمثال طلحة ابن عبيدالله وعبدالرحمن بن ابى بكر كما كان يضم مزرعة معاوية بن أبى سفيان ، وسكن هذا الحى التاريخى أكثر من(150) عائلة من قريش وغيرها من القبائل فى الجاهلية وكما كان هذا الحى عريقاً فى ماضيه ، لايزال زاهرا فى حاضره حيث يضم أسر وعوائل مكية كبيرة منهم العالم والوزير والسفير والقنصل والداعية والمدير وقد ساهمت بفاعلية فى نهضة هذه البلاد الطاهرة.
يقول المؤرخ الشيخ راجح بن على الكريمى العبدلى: كانت مكة المكرمة تنقسم الى قسمين معلاة ومسفلة ، المعلاة تبدأ من جزء الصفا وتشمل جزء من الكعبة المشرفة ، والركن اليمانى للكعبة يعتبر من المسفلة وإذا مددت خطاً من الصفا إلى محاذاة الكعبة الجنوبى إلى الجبل الأحمر وهو موقع فندق مكة قبل التوسعات الأخيرة للساحات الشمالية التى أمربها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتجرى هذه الأيام ، وهو جزء من القيقعان إلى كدّي ومن الصفا إلى جزء كبير فيما يسمى بالعزيزية إلى جمرة العقبة وما نزل عن هذا الخط فهو مسفلة وما علا عن هذا الخط فهو (المعابدة) .

أسفل مكة
ويضيف المؤرخ راجح العبدلى إن ما يسمى الآن بجرول وشارع المنصور ووادى طوى وجزء من التيسير حتى امتداد المسجد الحرام كله من المسفلة. وينقسم هذا الحى التاريخى إلى قسمين شمالى وجنوبى فمثلاً وادى إبراهيم ووادى طوى وهو ما يسمى الآن بشارع المنصور يعتبر المسفلة الشمالية وما يسمى بالعزيزية الآن كان يقال (المِفجَر) بكسر الميم وفتح الجيم وفى رواية أخرى بفتح الميم والجيم ، وهذه من حدود المسفلة حتى جبل حبشى ويسمونه الآن الراقد وقبل الراقد قوز من الرمل يسمونه دف الراقد وكل قوز ممتد يقال له فى اللغة دف ،،وتروى كتب التاريخ أنه سمى بهذا الاسم لأن عبدالرحمن بن أبى بكرالصديق كان يسكن فيه فى الإسلام ومات وهونائم فيه ،،، وعبدالرحمن بن أبى بكرالصديق هو شقيق لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنه ، ومنذ أن مات فيه عبدالرحمن بن أبى بكرالصديق نائماً سمى بدف الراقد وروى أيضاً أن تسمية حى المسفلة بهذا الإسم لأنه أسفل مكة المكرمة وكان فى الجاهلية يسكن هذا الحى قبيلة (قطورة) .

جبل ولد تحت سفحه عمر
ويشير العبدلى الى أن حى الشبيكة والهجلة جزء من المسفلة وكان يسكن بالشبيكة قبائل بنى عدّي وهى قبيلة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، والخليفة عمر ولد تحت سفح جبل (الغافد) وهو إسم جاهلى وسمي جبل عمر المعروف حالياً والذى يشهد مشروعات عملاقة لتوسعة المنطقة المركزية للمسجد الحرام ، كانت أمة لسيدنا عمر بن الخطاب تسكن الجبل ، وعن أشهر سكان حي المسفلة فى الجاهلية قبل الإسلام سيدنا ابوبكرالصديق رضى الله عنه وبنو عدّي وبنو تيم كانوا من القبائل التى سكنت المسفلة ، كما سكن الحى فى العصر الإسلامى خزاعة وهذيل وبنى هاشم وفى القرن السابع الهجرى قدم ملك التكرور من أفريقيا والتكارنة من أقدم الجاليات الموجودة فى مكة المكرمة ولهم باع طويل ومشاركة فاعلة فى تأسيس وتكوين جوانب كثيرة من حياة المجتمع المكي وقدموا من نيجيريا وغانا عندما كانتا دولة واحدة وهي إمبراطورية (سنغاي) وهذا فى زمن الإمام السيوطى وبعدها قدمت جالية قليلة من البنغال كما قدمت جاليات من مصر .
ومن سكان المسفلة حمزة بن عبدالملك وهو الوحيد من بنى هاشم الذى كان يسكنه ثم سكن بنو هاشم فى مايسمى بدحلة الرشيد ومنطقة الكعكية بالمسفلة كانت تسمى المغش وفى حي المسفلة توجد مزرعة معاوية بن ابى سفيان التى مانت تشرب من بركة (ماجل) وكانت البركة موجودة إلى عهد قريب والماجل هو المستنقع من الماء وكانت مزرعة معاوية تمتد من منتصف بركة ماجل حتى منتصف حديقة المسفلة حالياً .

أبو الأحياء
ويتميز حي المسفلة بالكثير من الخصائص والميزات التى لا تتوفر فى ما عداه من احياء مكة المكرمة ، وفي هذا الصدد يقول أحد المعمرين من أبناء الحى أحمد مكى فحام (88) عاما: اطلق على هذا الحى أبو الأحياء لأنه كان يجمع كافة سكان مكة المكرمة عندما كانت مكة محدودة المساحة وكان الأهالى جميعهم يعرفون بعضهم خاصة ابناء الحى الواحد ، والغريب إذا دخل حي من الأحياء لفت نظر جميع أبناء الحى ، وإذا تكرر دخوله تعرض للمساءلة عن أسباب تردده وإذا ذكر اسم شخص من أبناء الحى شفع له ذلك الشخص فى التردد على الحي بعد ذلك دون مساءلة ، ويضيف : كان أهل المسفلة أصحاب صنعة وحرف يدوية ويتشرفون بخدمة الحجيج فى موسم الحج ومنهم أقدم المطوفين أضف إلى ذلك عنصرا مهما فى حياتهم وهو طلب العلم الشرعى والانشغال بالثقافة والقراءة والبحث العلمى رغم ضيق ذات اليد ومحدودية إمكانيات الكثير منهم ، كانوا لا يفوتون أى فرصة تتاح لهم لشراء كتاب وقراءته ، وإهداء بعضهم البعض للكتب دليل على حرص المجتمع المكي منذ القدم على البحث العلمى والإطلاع والمعرفة لذلك تجد اليوم كبار السن من أبناء مكة المكرمة يتميزون بثقافة دينية وأدبية وشعرية ورياضية ، كما كانت المراكيز داخل الحوارى تحي يومياً بمناقشات علمية هادفة ، وهذا الحوار الوطنى الذى تتناقل أخباره وسائل الإعلام حالياً مارسنا ما يشبهه فى مكة المكرمة منذ أكثر من (70) عاما لأن المجتمع المكى يجمع جميع المذاهب والثقافات والطوائف لذلك كانت هذه المجالس ميدانا لطرح الأفكار التى تصب فى مصلحة العلم والمعرفة .

تكافل اجتماعي فريد
ويستطرد العم مكى : الحديث عن حي المسفلة يعيد ذاكرتى إلى ايام الطفولة والصبا حيث كان مجتمع المسفلة مترابطا ومتماسكا وتسوده قيم وسلوكيات أفتقدناها فى هذا الزمن ، حيث كان حي المسفلة أسرة واحدة كان كبير الحى يوجه جميع أبناء الحارة ، وعندما يرى خطأ يصدر من اى شاب لا يسأله من أبوك بل يوجه له النصيحة وإذا أحتاج الأمر للعقاب البدنى مارسه ويجد المباركة من جميع أبناء الحى ، أما اليوم فقد اختلف الوضع وقل احترام معظم الشباب للكبير ويمضي قائلا : ان مظاهر التكافل كانت تتبدى في الافراح والاتراح ، حيث يشارك جميع أهالى الحي فى مناسبات الزواج وتتحمل مجموعة منهم تكاليف الطبخ ومجموعة اخرى قيمة الذبائح واخرون يتحملون تكاليف تجهيز البيت ولم يكن هناك غرف نوم كما هو الحال اليوم بل المُنَجد يقوم بصناعة لحاف خاص للعرسان ويقدم هدية للعريس يتحمله اهالى الحى وأصدقاء العريس ، ويتسابق الجميع لخدمة العريس كما تعلن مظاهر الفرح والسرور داخل الحى قبل موعد الزواج بأسبوع .
ويمضي العم فحام : وتجد هذا هو حال الناس فى الحزن حيث يقف الكل مع اهل المتوفى ويساندونهم حتى يتجاوزوا المصيبة.

أرباب حرف ومهن
ويوضح ان الحرف التى كان يعمل فيها اهالي المسفلة فتشمل اعمال الحدادة والنجارة والبناء ولهم دور كبير فى أعمال التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام وهناك البردعجى ومن يعمل فى صناعة الخزف والمكانس وطلى القدور والفحام ، اضافة الى انهم كانوا أصحاب بسطات ودكاكين ، ومن العلامات الفارقة لحى المسفلة أن الركب الذى كان يسير سنوياً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة على الدواب “الحمير” ينطلق فى شهر رجب من حى المسفلة فتجد الاستعدادت والناس يخرجون ويجتمعون فى وادى فاطمة يقضون وقتا طويلاً قبل انطلاق الركب إلى المدينة المنورة ثم يودعهم أهالى مكة المكرمة وكانت عادة الركب من العادات الجميلة لأهالى مكة المكرمة والتي اندثرت مع الكثير من العادات والتقاليد التى كانت تعزز الترابط الاجتماعى.

المصدر جريدة المدينة الخَمِيس ٢٩ جمادى الآخر ١٤٢٩ ..محمد رابع سليمان