في ظلال الكعبة ... محمد المجذوب

سـعـيـدٌ أنـا في ظلالِ الحرَمْ = فـلا تـسـألـوني بماذا؟ ولمْ؟
أحـسُّ بـجـسـميَ فوق الأثيرِ = وقـد شـفَّ بل خفَّ حتى انعدَم
فـلا عـجـبٌ أن يموتَ البيانُ = ويـعـيـا بـوصف رُؤايَ القلم
أكـادُ أرى (هاجَراً) والصغيرَ = ُـروّعُـه الـظـمـأُ الـمحتدِم
فـتَـجـري هـناك وتَعدو هنا = وفـي سـمـعِها صرخاتُ الألم
تـفـتـش عـن جـرعـةٍ تنقذُ = الـولـيـدَ وتطفئ بعض الضَّرَم

وقـد أوشـك الـيـأسُ يجتاحُها = فـتُـسـلـمُ ذا ثـديـهـا للعَدَم
ولـكـنَّ ربَّـك لـم يَـنـسَـها = وأدركَـهـا بـجـزيـلِ الـنِّعَم
فـذلـك جـبـريلُ يَحبو الثَّرى = بـرِيَّ الـنـفـوس وبُرء السَّقَم
يـمـسُّ بـقـادِمـتـيهِ الترابَ = فـيـدفُـقُ بـالـعذب حتى يَطِم
وهـا هـي ذي زمـزمُ لا تزال = إلـى الـيـوم والـغدِ وِردَ الأمم
وألـمـح ثَـمَّ أبـا الأنـبياء = وبـيـنَ يـديـه فـتـاه الـعَلَم


يُـقـيـم قـواعـدَ هـذا البناءِ = وقـد خـطَّطَ الرسمَ باري النَّسَمْ
ويـؤمـرُ إذ يـنـتهي أن يُذيعَ = عـلى الكونِ بشرى الذي قد أتَم
فـيـهتفُ في الناس: هذا المُقامُ = الـذي شـاء ربُّـكـمُ أن يُـؤَم
فـتـنـداحُ صيحتُه في السهولِ = وخـلـفَ الـبـحارِ وفوقَ الأكَم
ويـأتـيـه سـعياً وفوق المُتُون = أُولـو الـحـظِّ من كل فجٍّ ويَم
وأُبـصرُ "أبرهةً" في الجيوش = ومـن تـحـته الفيلُ طَوداً أشم

يُـطـاوِلُ بـالـكـبرياءِ النجومَ = ويـحـسـب في قبضتيهِ السُّدُم
يـسـيـر إلـى مـكـةٍ مُنذِراً = بَـنـيَّـتَـهـا بـالـبلاءِ الأعَم
ويـيـأس "شـيـبـةُ" مِنْ حَولِه = ومَـن حَـولَـه فـيـنادي: هَلُم
دعـوا الـبـيت وانجوا بأنعامِكمْ = فـبـيـتُ الـمـهيمنِ لا يُقتَحَم
سـيَـحـمـيـه منهم غداً مثلَما = حـمـاه عـلـى الدَّهر منذُ القِدَم
وفـرَّ عـن الـبـيتِ حُرَّاسُه = سـوى واحـدٍ عـيـنُـه لم تَنَم


وحـاوَل ذو الـفـيـلِ تسييرَه = إلـى مـكـةٍ فـأبـى وانـهزم
عــلــى أنـه كـلـمـا ردَّه = إلـى غـيرِها خفَّ، لا بل هجم
وجـاء الـقـضـاءُ بـأجـنادِهِ = مـن الـطـيرِ كالقسطلِ المُدلَهِم
فـراحـتْ تَـصُـبُّ مـناقيرُها = عـلـى الـظـالمين رجومَ النِّقَم
ومـا هـي إلا الـهنيهاتُ حتى = اسـتـحال الغُزاةُ كعصفٍ هُضِم
وتـمـضـي المشاهد حتى أرى = إمـامَ الـنـبـيـينَ يمحو الظُّلَم

يـنـاديـ: إلى الله يا ضائعون = ومـن يَـتَّـبِـعْ هَـديَه لم يُضَم
وعـن كَـثَـبٍ ندوة المشركينَ = تَـحُـوك لِـحَربِ الحبيبِ التُّهَم
وتــرمـي بِـلالاً وإخـوانَـه = مـن الـقـارعـاتِ بسيلٍ عَرِم
يـريـدون مـنـهـم ولو لفظةً = تـسـجِّـل نصراً لحزب الصَّنَم
فـلا يـسـمـعون من المؤمنينَ = سـوى مـا يضاعفُ تلك الحُمَم!
كـأنـي بـآذانـهـم كـلـمـا = دعـاهـا الطغاةُ اعتراها الصَّمَم


وألـسُـنـهـمْ كـلـما رُوْوِدَتْ = عـلـى الكفرِ أفضى إليها البَكَم
وتـهـتـفـ: "بـل أَحَدٌ أحد" = فـتُـصـغي البِطاحُ وتهفو القِمَم
ويـنـطـلـق الرُّوح في مَدِّهِ = إلـى عـالـمٍ قـبـلـه لم يُرَم
فـأشـهـدُ عـودَة خـيرِ الأنامِ = إلـى هـا هـنا في ليوثِ الأجَم
وقد ذلّلَ اللهُ أعـداءَهُ = فـلـيـس لـهـم دونه مُعتصَم
يـقـول لـهم: ما تظنونَ بي؟.. = فـيَـضـرَعُ كـلُّـهـم في ندم:

ألـسـت الـجوادَ الذي لا يَزال = يُـقـابـل زلاتِـنـا بـالكرم!
أخٌ فـوقَ مـا قـد عَهِدنا الإخاءَ = وفـاءُ وبِـرّاً بـحـق الـرَّحِم
فـيـرسـلُـهـا بُشرياتٍ سرتْ = بـسـمـعِ الزمانِ كأشهى النَّغَم:
ألا فـاذهـبـوا.. أنـتم الطُّلقاءُ = ولا تـجـزعوا.. لستُ بالمنتقم
ويُـومي لرمزِ الضلالِ الذي = عـلـى الـبيت منذُ "لُحَيٍّ" جَثَم
فـتَـهـوي الطواغيتُ من فوقهِ = مـنـكَّـسـةً بـعـد ذاك العِظَم


كـذلـك يـعـلو بناءُ الأباطيلِ = حـتـى إذا الـحـقُّ جاءَ انهدَم
ويُـزجـي بـلالٌ نـشيدَ السماءِ = بـأعـلاه عَـذبـاً يَـهُزُّ الأصم
ولـكـنَّ "عتَّابَ" والحائرينَ = يَـرَون بـذاك انـتـهاكَ الحُرم
أعـبـدُ أمـيـةَ نـسلُ السوادِ = عـلا الـبيتَ!.. يا لَلبلاءِ العَمم!
ولا ريــبَ أن امــرءاً آثـرَ = الـحِـمـامَ عـلـى هذهِ لم يُلم!
ويَـهمسُ وابنيْ هشامٍ وحربٍ = حـديـثـاً يَـفـيضُ بمثلِ اللَّمَم

وقـد حـسِـبـوا أنـه قد ثَوى = بـأعـمـاقِـهـم حيث لا مُقتَحَم
ولـكـنـهـم فـوجـئوا بالنبيِّ = يُـمـيـط الـلـثامَ عن المُكتتَم
يُـنَـبِّـئـهـم بـالـذي غَيَّبتْ = صـدورُهـم مـن رهيب الكَلِم
فـلا يـسـتـطـيعونَ رداً وقد = دَرَوا أنـه الـحـقُّ مـن ربهم
ووافـى "فَـضـالةُ" مستخفياً = ويُـخـفـي وراء الرداء الخَذِم
يُـمـنِّـي "مَـنـاةَ" بـألاّ يعودَ = إذا لـم يـخـضِّبه من خيرِ دم!


وأطـمـعَـه أنْ رأى المصطفى = نَـجـيَّ الإلـهِ لَـدَى الـمُلتَزَم
فـأحـكـمَ قـبضتَه في الحُسامِ = وراحَ يُــراقـبُـهُ مـن أمَـم
وهـمَّ ولـكـنْ سـرتْ رِعـدةٌ = بـه تـتـلاشـى لـديـها الهِمَم
ولـمـا أتـمَّ الـرسولُ الصلاةَ = تـطـلـعَ فـي وجـههِ وابتسم
وأدنـاه يـسـألـهـ: مـا بهِ؟ = فـلـم يـبـدأ الـرد حتى وَجَم
فــمـدَّ إلـى صـدره راحـةً = بـلـمـسـتـهـا كم شَقاءٍ حَسَم

وعـاد (فَـضـالـةُ) في غَمرةٍ = مـن الـوَجـدِ فوق مجالِ الحُلُم
ولـيـس أحـبُّ إلـى قـلـبهِ = مـن المصطفى بعدَ مُحيي الرّمَم!
فـفـي لـحـظةٍ طَهُرت روحُه = فـلـيـس لها في سوى الله هَمّْ
ويـعـبـرُ بـامـرأةٍ طـالـما = غَـزَتْ قـلـبَـه قـبلَها فانهزم
فـتـهـتـفُـ: هـيّا إلى شأنِنا = ويـهـتـفُ: يأبى الهدى والشَّمَمْ
تَـنَـحَّـيْ فـبالحقِّ ثاب النُّهى = وبـالـنـور ليلُ الضلالِ انحسَم


ولـن يـنـكأ الإثمُ جرحاً أُمِرَّتْ = يـدا أحـمـدٍ فـوقَـه فـالـتأم
ولـن يـقربَ الغيُّ صدراً أضاء = جـوانـحَـه حـبُّ خـيرِ الأمم
وأمضي وأمضي، ولولا الأذانُ = تـوالـتْ رؤاي فـلـم تَـنفصِم
فـلـيـت مـواكـبَـها لم تَكُفَّ = وأحـلامَـهـا البيضَ لم تنصرم
ولـكـن حـبـيبٌ نداءُ الصلاةِ = ولا سـيـمـا فـي ظلالِ الحَرَم


محمد المجذوب