مدرسة تحضير البعثات

كان تطوير النظام التربوي المدرسي للتعليم ما بعد الابتدائي ملحٌّا بعد توالي ازدياد خريجي المرحلة الابتدائية ، وليس ثمة ما يلبي حاجة النظام التعليمي الثانوي الحديث الذي لم تعرفه البلاد حتى عام 1355هـ / 1936م ؛ ولذلك فقد كان هذا العام منطلق مرحلة انتقالية في التطور النوعي للتعليم المدرسي الحديث الذي أسفر عن نهضة تعليمية انفسحت لتشمل المملكة مجتمعة بأفلاذ أكبادها في مدرسة رائدة أنشئت في العاصمة المقدسة : مكة المكرمة باسم ( مدرسة تحضير البعثات ) لإعداد الطلاب وابتعاثهم للدراسة الجامعية في جميع حقول المعرفة العلمية ، دون الاقتصار على حقول العلوم النظرية ؛ بمعنى أن يكون ثمـة إلحاح دراسي على العلوم العلمية العملية التطبيقية لتوجيه طـلاب ما عـرف لأول مـرة في هذه المدرسة بـ ( القسم العلمي ) لدراسة : الطب ، والصيدلية ، والعلوم ، والهندسة ، والزراعة ، والفنون والصنائع ، ومنها الطيران وهندسة الطيران ؛ على نحو ما ورد في الإعلان بصحيفة أم القرى ( ع 609 في 19/5/1355هـ ) ، كما يمكن لطلاب القسم الآخر ( القسم الأدبي ) أن يلتحقوا بكليات الآداب ، واللغة العربية ، والشريعة ، والحقوق ، والتجارة ، والبوليس ، والحربية .. وسواها.

ميلاد مدرسة البعثات :
كان ميلاد هذه المدرسة الجديدة أكبر حدث تعليمي شهدته البلاد منذ تأسيس مديرية المعارف العامة بأم القرى في 3 رمضان 1344هـ وكان بداية التعليم الثانوي الحديث ، ومنطلق نشر التعليم الابتدائي الحكومي خارج ( الحجاز ) ، ومستهل تجربة تأسيس وتعميم التعليم الثانوي بقسميه العلمي والأدبي .

https://e.top4top.net/p_775lmzsi1.png

فكرة المدرسة من قِبل رجل التعليم :
كان صاحب فكرة ومشروع ( مدرسة تحضير البعثات ) والتعليم الثانوي الحديث هو المربي والمفكر التربوي الرائد الكبيرالسيد محمد طاهر بن مسعود الإدريسي الدباغ ( 1308-1378هـ ) - الذي كان أبرز الأعلام بين زملائه السبعة الأجلاء مديري المعارف العامة ، وطليعة أبرز الرواد في تاريخ التربية والتعليم في بلادنا ، وقد وصفه أحمد محمد جمال في ( ماذا في الحجاز ؟ ) '' برجل نهضة التعليم الحديث '' ؛ حيث عرف بذلك لأولياته التربوية الرائدة ، وفي طليعتها - غير ما سبق - بوادر نشر مدارس التعليم الابتدائي ( ومدارس الملحقات ) في آفاق بلادنا المقدسة ، وتحديث مناهج التعليم وبرامج النشاط التربوي المدرسي ، وتطوير الإدارة التربوية ، والإشراف التربوي ، والبعثات التعليمية .

تأسيس المدرسة المكية :
جاء الإعلان عن تأسيس المدرسة في 12 رجب 1355هـ ، ومدة الدراسة فيها ثلاث سنوات ، ويشترط للقبـول بها حملــة شهادة المعهد العلمي السعودي أو ما يعادلها . وكان لإنشائها صدىً وامض الارتياح ، وتواكب الطلاب على الإقبال عليها ، وعبرت صحف تلك الفترة - وخصوصًا أم القرى وصوت الحجاز - عن مباهج ما لتجلي هذا المنجز التعليمي الذي كان في بؤرة تطلعات أهل الفكر والرأي والتنوير .

وأومأت صحيفة أم القرى إلى أن أول من تقدم بتسجيل طلب الالتحاق بها الأديب الكبير عزيز ضياء ، ولكنه لم يلتحق بها عند افتتاحها ، وأقبل على الالتحاق بها نفر من خريجي ( فلاح ) مكة وجدة ... وغيرهما.

https://f.top4top.net/p_775yv3y32.jpg

دراستها :
أشرعت مدرسة تحضـير البعـثـات أبوابهـا للدراسة في صبـاح يوم 7 المحـرم 1356هـ بمقـرها الأول فـي مبنى مستأجر( دار أحمد بوقري ) بحي ( المسفلة ) ؛ حيث ظلت سنتين ، ثم انتقلت منضمة مع المعهـد العلمـي السعــودي عام 1358هـ إلى ( قلعـة جـبل هـندي ) الشهــيرة ، فانتقـل مقـرها بعد ذلك إلـى (القشاشية ) مطلع عام 1369هـ ، ثم إلى ( الزاهر ) أواخر عام 1375هـ ، ثم إلى حي ( العزيزية ) الذي سمى باسم المدرسة بعد انتهاء مرحلة تحضير البعثات واستقلال المرحلتين : المتوسطة والثانوية ، فعرفت المدرسة باسم ( العـزيـزيـة الثانوية ) ثـم ( الملك عبد العزيز الثانوية ) القائمة - الآن - بجوار الإدارة العامة للتربية والتعليم .

مراحل تطوير المدرسة المكية :
ويذكر المربي الكبير الشيخ محمود بن عبد الله قاري - في تقرير له حفظ ضمن ملف مدرسة تحضير البعثات بوزارة المعارف - أن الدفعـة الأولى من الملتحقـين بالمدرسة كانــوا من خريجي المدارس الابتدائية في : مكة وجدة والمدينة و ( الفـلاح ) ، وقد أحرزوا الشهادة الابتدائيـة قبل سنوات ، وكان بعضهم موظفــًا في ( الدوائر الحكومية ) أو مدرسًا ، وكانت نتيجة اختبار القبول أن صنفوا إلى قسمين ؛ فالتحق قسم بالسنة الأولى بالمدرسة ، حيث يمكن أن يدرسوا منهج السنة الأولى بمصر ، وألحق الباقون بقسم سمي ( الإعدادي) ليتأهلوا للانتقال إلى السنة الأولى الثانوية .

وهكذا كانت فاتحة الدراسة بهذه المدرسة الرائدة ؛ حيث كانت مديرية المعارف تحث إليها خطى الاهتمام والرعاية ، وتعنى بتوجيه وتنمية تحصيل تلاميذ الشهادة الابتدائية للالتحاق بها، وتجري الدراسات والخطط لتطوير مناهج ومقررات وبرامج المرحلة لهذه المدرسة.

ففي سياق خطوات التطوير التعليمي تقرر - منذ شهر شعبان 1358هـ - أن تكون الدراسة خمس سنوات تبدأ بسنة إعدادية ، ثم أجري في نهاية عام 1359هـ تعديل النظام ومقررات مواد المنهج التعليمي بحيث تجمع دراسة الطالب بين الثقافة العامة والمواد التخصصية العلمية والنظرية ، حتى يجتاز اختبار ما دعي بـ ( الثقافة العامة ) في نهاية السنة الرابعة ، وتكون السنة النهائية الخامسة متفرعة إلى قسمين تخصصيين : العلوم - والآداب ؛ فيمنح الطالب ( الشهادة التوجيهية ).

وفي عام 1364هـ جاء تطوير الخطة الدراسية بتقسيم الدراسة إلى مرحلتين : مرحلة الكفاءة / ثلاث سنوات - ومرحلة الثانوية / سنتان يمنح الطالب  في خاتمتهما ( شهادة الثقافة العامة ) ، وألحق بهذه المرحلة سنة ثالثة يمنح الطالب بعدها ( الشهادة التوجيهية ).

وفي عام 1365هـ شمل تطوير الدراسة في سنواتها الست تقسيمها إلى مرحلتي : الكفاءة - والثانوية ، وتفريع مرحلة الثانوية إلى : القسم العلمي - والقسم الأدبي في السنتين الأخيرتين ( الخامسة والسادسة ) .
وفي عام 1378هـ كانت خاتمة مرحلة تحضير البعثات في عهد وزارة المعارف ؛ حيث تمَّ فصل مرحلة الكفاءة عن مرحلة الثانوية باستحداث مدارس التعليم المتوسط ، وانفراد مدارس التعليم الثانوي بسنواتها الدراسية الثلاث .

https://a.top4top.net/p_77587r8g3.jpg

دورها الريادي :
إن الدور الريادي لتحضير البعثات كان قد امتد إلى ما بعد إنشاء مدارس ثانوية منفردة أو افتتاح فصول ثانوية ملحقة بمدارس ابتدائية ، مثل : ثانوية جدة وثانوية طيبة بالمدينة عام 1362هـ ، وثانوية الأحساء عام 1367هـ وثانوية أبها عام 1369هـ والثانوية الثانية ( الرحمانية الثانوية ) بمكة عام 1370هـ ، وثانوية الطائف عام 1373هــ , وكانت مدرسة تحضير البعثات رائدة البعثات العلمية إلى مصر ثم لبنان وأوروبا وأمريكا ، ومحضن تعليم نخبة الطلائع الرائدة من العلماء والأدباء والوزراء والأطباء والمهندسين والإعلاميين والقيادات المدنية والعسكرية وجملة من بُناة التعليم العام والتعليم الجامعي ، وكافة مجالات البناء الثقافي والاجتماعي .

خريجين ونخبة رائدة :
وقد تخرجت الدفعة الأولى من الطلائع البعثاتية ( القسم العلمي ) عام 1360هـ ، ولم يتم ابتعاثها إلا مع الدفعة الثانية التالية لها عام 1361هـ .
وعرفت بعثة الدفعة الأولى ببعثة العشرة ، وأفرادها :
حسن نصيف
حامد هرساني
أحمد شطا
حسن شطا
سعيد آدم
علوي جفري
محمد نور الجوهري
عمر عقيل
شرف كاظم
معتوق باحجري

وأفراد الدفعــة الثانيـة هم :
حسني بخش
محمد منصوري
عبد الله الدباغ
رشيد رضوان
محمد بادكوك
منصور عارف

وتوالى الابتعاث للعشرة الأوائل في كل عام ، وتخرجت أول دفعة من ( القسم الأدبي ) عام 1362هـ .
ولقد حظيت مدرسة تحضير البعثات بإدارة نخبة رائدة من المديرين الذين زينوا تاريخها التربوي ؛ فتعاقب على إدارتها الأساتذة المربون : أحمد العربي ، وإبراهيم النوري ، وإسحاق عزوز ، وعبد القادر وصفي ، وأحمد العربي ( مرة ثانية ) ، وعبد الله بغدادي وجميل شقدار ، ومحمد فدا ، وسراج خراز .

ومن أعلام مربيها ومدرسيها :
أحمد العربي ( مديرها الشهير ) ، وعبد الرؤوف الأفغاني ، وعبد الله عبد الجبار ، وإبراهيم السويل ، وحسين فطاني وعمر عبد الجبار ، ومحمد أمين كتبي ، وعبد الله أبو العـينين ، وخليل طيبة ، وسعيد الدباغ ، وجميل شقدار ، وسراج خراز وطلحة الشيبي .

كتبه : الأستاذ الأديب فاروق بنجر .