المحناطة .. مخزن للحنطة بين المدّعى والمسعى




وصف الرحالة أبوالحسين محمد بن جبير الأندلسي ضخامة أسواق مكة المكرمة ، وتنوع السلع فيها حين زيارته لها
سنة 579هـ/‏‏ 1183م بقوله « لو لم يكن لمكة المكرمة من المتاجر إلا أوان الموسم لكفاها، فيباع فيها في يوم واحد من الذخائر النفيسة كالجواهر والياقوت،وسائر الأحجار، ومن أنواع الطيب كالمسك والكافور والعنبر والعود، والعقاقير الهندية إلى غير ذلك من واردات الهند والحبشة، إلى الأمتعة العراقية واليمانية، إلى غير ذلك من السلع الخراسانية، والبضائع المغربية ما لا ينحصر ولا ينضبط، ما لو فرق على البلاد كلها لأقام لها الأسواق النافقة، ولعم جميعها بالمنفعة التجارية، كل ذلك في ثمانية أيام بعد الموسم، حاشا ما يطرأ بها مع طول الأيام من اليمن وسواها، فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر إلا وهي موجودة فيها مدة الموسم، فهذه بركة لإخفاء بها، وآية من آياتها التي خصها الله بها ».

أما المستشرق الفرنسي جيل جرافيه كورتلمون الذي زار مكة سنة 1311هـ فيصف التجارة في مكة بقوله: « إن مكة تتحول خلال موسم الحج إلى أكبر معرض تجاري في العالم الإسلامي، فإنها تتحول إلى مكان تبادل الأقمشة والبضائع القادمة من جميع أركان الكرة الأرضية ».

ونتيجة لرواج السلع في الأسواق المكية وتنوعها، بدأت الأسواق المركزية المتخصصة في بيع سلع معينة في وقت مبكروخصصت أماكن حول الحرم لعرضها وتنظيم المزادات الخاصة بها وتخزينها، وأشار أبوالوليد محمد الأزرقي في كتابه أخبار مكة لكثير من هذه المواقع، فمثلا نجده يذكر سوق الحطب في جنوبها وموقع الصيارفة في أجياد، أما البزازون وهم باعة الأقمشة الحريرية وغيرها، فكانوا بالقرب من المسعى.

واتخذ باعة الجلد والأدم من المروة مكانا لعرض بضائعهم، أما الخرازون وهم أصحاب الصناعات الخاصة بالجلد من أحزمة وحقائب وغيرها فكانوا في المسعى، والحدادون في سوق الليل، ومن يتتبع هذه المواقع في التاريخ المذكور، يظهر له وبوضوح جانب حضاري مشرق من جوانب التاريخ المكي المبكر، حيث تظهر أهم مقومات بناء المدن المتحضرة، وهي الأسواق الكبيرة المتخصصة، ضمن تنظيمات يتم وضعها تبعا لحاجات المدن وسكانها.

ومن المواقع التي اشتهرت بالتخصص في بيع أنوع معينة من البضائع، منطقة عرفت بـ "بالمحناطة" ونلحظ من الاسم أن المقصود بذلك: مكان أعد لبيع الحنطة أي القمح، ولعل ذلك يرجع إلى أهمية القمح دون سائر أنواع الحبوب.

وبحسب المعلومات التاريخية ضمت المحناطة تجار الحبوب بجميع أنواعها، مع ملاحظة أن تاجرها في مكة يقال له حباب ولتجار الحبوب شيخ يقال له « شيخ الحبابة ».
وتقع المحناطة في منطقة صغيرة بين المدعى والمسعى، وهي موقع قديم ذكرها بهذا الاسم تقي الدين السنجاري في كتابه  منائح الكرم. ولعلها تعود إلى ما قبل القرن التاسع الهجري، وبنى السلطان قايتباي المملوكي بعض مبانيه الوقفية بتلك المنطقة في حدود سنة 885هـ، وكانت لعدة قرون مخزنا وسوق غلال مكة، ويختص تجارها ببيع الحبوب جملة على التجاربعد جلبها من جدة.

ونجد ضمن حدودها الحوش الشهير بحوش القبان، والقبان هو الميزان الكبير الذي توزن به البضائع الثقيلة، وبه كان يتم وزن الحبوب جملة، ثم تباع بعد تقسيمها، كما يتوجه إليه باعة السمن والعسل لوزن ما لديهم. وضمن حدود المحناطة مخازن كبيرة لتخزين الحبوب، ولعل الربع الكبير الذي كان يعرف بربع الرز أحدها، كما كان بها ربع آخر يعرف بربع  الدشيشة، ومعنى الدشيشة الحب المجروش، ولعله كان يخزن هناك تمهيدا لبيعه.

وأعدت في وسطها ساحة للمزادات وعرض البضائع، وفي سنة 1341هـ، ظللت الساحة بالكامل، وبنيت بعض الدكاكين التي تبيع سلع أخرى إلا أنها قليلة مقارنة مع التجارة الأساسية لها وهي الحبوب، وظلت المحناطة مصدرا لجميع أنواع الحبوب في مكة حتى تم إزالتها في التوسعة السعودية الأولى للمسجد الحرام.



بقلم الباحث : حسام عبدالعزيز مكاوي
نشر في صحيفة مكة بتاريخ 11 رجب 1437 هــ | 18 أبريل 2016