طه حسين في رحاب الحرم

يطالعنا مِنْ طه حسين وجه غير مألوف، ذلك أنَّ عميد الأدب العربيّ كان منوطًا به يوم قفل راجعًا إلى بلاده مِنْ باريس = تدريس التَّاريخ اليونانيّ والرُّومانيّ، حتَّى إذا قرأْنا جريدة مؤلَّفاته رأينا فيها مؤلَّفات في ثقافة تلك الأُمَّتين، ترجم روائع مِنَ الأدب اليونانيّ القديم، وحاضر في تاريخ الرُّومان، وكان يرى أنَّه لن ترتقي مصر ما لمْ تأخذ طُلَّابَها في الجامعة المصريَّة القديمة بدرْس تلكما الحضارتين واللُّغتين، حتَّى إذا تقلَّبتِ الأيَّام، قليلًا، رأينا طه حسين الَّذي عرفناه وألفناه، يحدِّثنا حديث الأربعاء، ويُغْرِي قرَّاءَه بالشِّعر العربيّ القديم، ويَجِدِّ في تيسيره وإساغته.

لكنَّ طه حسين هو، كذلك، ابن الجامع الأزهر، وتلميذ شيخ العربيَّة الجليل سيِّد بن عليّ المرصفيّ، قبل أن يصبح تلميذًا لجويدي وماسينيون وسواهما مِنَ المستشرقين الفرنسيِّين والإيطاليِّين والبلجيكيِّين، وقبل أن يختلف إلى السُّوربون، ويدرس التَّاريخ الأوربِّيّ، والفلسفة اليونانيَّة، وما اتَّصل بحضارة الغرب وثقافته، وكأنَّما أراده قرَّاؤه العرب خالصًا لهم، لا يشاركهم فيه أحد!

كان طه حسين مشغوفًا بالأدب العربيّ القديم، وكان مشغوفًا على نحوٍ خاصّ بتلك الأجزاء الَّتي خَصَّصها أبوالفرج الأصفهانيّ في كِتابه الأغاني لأولئك الشُّعراء، وأولئك المغنِّين والرُّواة مِنْ جزيرة العرب، ولا سيَّما مَن اتَّصلتْ أسبابه بالحجاز ومدينتيه العظيمتين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وما اكتنفهما مِنْ بوادٍ وسُهوبٍ، كانتْ، في يومٍ مِنَ الأيَّام، ملعبًا لشِعْر العرب وآدابهم، وبلغ به غرامه بكِتاب الأغاني أنْ كان سلوته حِين يقصد فرنسا أوْ غيرها مِنْ بلدان أوربَّا حِين يصيف، حتَّى إذا آبَ إلى القاهرة أمتع قرَّاءه الَّذين يتحيَّنون الفصل الَّذي ينشره في هذه الصَّحيفة أوْ تلك المجلَّة، فكان ذلك الشَّيخ الأزهريّ السُّوربونيّ داعية لوحدة العرب قبل أن يلهج بهذه الكلمة السَّاسة ومَنْ إليهم.

كَتَبَ طه حسين عن الجزيرة العربيَّة في عصرها الحاضر غير مرَّة؛ كانتْ أولاها حين نشر مقالته «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب» في مجلَّة open court الأمريكيَّة، ونشرها في مجلَّة الهلال سنة 1351هـ=1933م، ثُمَّ أخرجها الشَّيخ خليل الرَّواف في كُتَيِّبٍ سنة 1354هـ=1935م، قبل أنْ تصبح فصلًا مِنْ فصول كِتاب ألوان (1354هـ=1935م)، ثُمَّ حيَّا أحمد عبدالغفور عطَّار بتحيَّة قصيرة كانتْ كالمقدِّمة لديوانه الهوى والشَّباب (1365هـ)، ثُمَّ مضى لشؤونه في الجامعة والأدب والسِّياسة، قبل أن تُبْحِر به السَّفينة إلى جزيرة العرب؛ إلى الحجاز، عام 1374هـ=1955م، رئيسًا للمؤتمر التَّاسع للإدارة الثَّقافيَّة الَّذي عُقِدَ في مدينة جدَّة، وألفى العميد نفسه في تلك الأرض الَّتي كان ينفق السَّاعات الطِّوال في صحبة أبنائها مِنَ الشُّعراء والرُّواة، فجعل يكتب ويخطب وينشر الكُتُب والفصول والمقالات مِنْ فيض قرائحهم الأدبيَّة الصَّحيحة، ويعيش معهم أينما ساروا، حتَّى لكأنَّ ذاكرته مسكونة بأمكنة أولئك الشُّعراء والرُّواة في حواضر جزيرة العرب ووديانها وجبالها وصحاريها.


كان الشَّيخ الجليل فرحًا أنْ زار الحجاز، وأنْ سيكون في تلك الأرض الَّتي ما فارق أدبها وثقافتها وأخبارها يومًا واحدًا، وكان السُّعُوديُّون فرحين بمقدم العميد، فازدحم ميناء جدَّة برجالات الدَّولة، والأدباء، وطلَّاب المدارس، احتشد كلُّ أولئك حتَّى ازدحم بهم المكان، وما إنْ أطلَّ مِنَ السَّفينة حتَّى هتف طلَّاب المدارس باسمه، وشاركهم عُمَّال السَّفينة هتافهم ونشيدهم، في صورة لا أحسب أنَّ جدَّة حيَّتْ بها أديبًا غير طه حسين!

لنْ أتحدَّثَ عنْ زيارة طه حسين للحجاز، فمحلُّ ذلك كِتابي طه حسين والمثقَّفون السُّعُوديُّون، إنَّما الَّذي يعنيني، هنا، أنَّ عميد الأدب العربيّ كان يَعْرِف مقدار ما أدَّتْه الجزيرة العربيَّة، والحجاز خاصَّةً، للمسلمين والعرب، حين منحتْهم شيئين عزيزين: الإٍسلام، واللُّغة العربيَّة، وكان، طوال رحلته، يستشعر هذه المكانة الجليلة الَّتي هي رأسمال رمزيّ للمملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، حتَّى إذا احتفلتِ البلاد بأعضاء تلك البعثة، ألقى طه حسين كلمة بين يدي الحفل الَّذي رعاه الأمير فهد بن عبدالعزيز – وزير المعارف في تلك المُدَّة – وقال هذه الكلمات الحارَّة العظيمة:

سادتي!

كان الفرنسيُّون في بعض أوقاتهم يتحدَّثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إنَّ لكلّ مثقَّفٍ وطنين؛ أمَّا أحدهما فوطنه الَّذي وُلِدَ فيه ونشأ، وأمَّا الآخَر ففرنسا الَّتي تَثَقَّفَ فيها أوْ تَلَقَّى الثَّقافة عنها. وكنَّا نسمع هذا الكلام، وكنَّا نرى فيه شيئًا مِنْ حقٍّ وكثيرًا مِنْ سَرَف.. ولكنَّ الَّذي أريد أنْ أقوله الآن هو الحقُّ كلّ الحقّ، لا نصيب للسَّرَف فيه مِنْ قريب أوْ بعيد، فلكلِّ مسلمٍ وطنان لا يستطيع أحدٌ أن يَشُكَّ في ذلك شكًّا قويًّا أوْ ضعيفًا، وطنه الَّذي نشأ فيه، وهذا الوطن المقدَّس الَّذي أنشأ أُمَّته وكَوَّنَ قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعًا، هذا الوطن المقدَّس الَّذي هَدَاه إلى الهُدى، والَّذي يَسَّره للخير، والَّذي عَرَّفه نفسه، وجعله عضوًا صالحًا مصلحًا في هذا العالَم الَّذي يعيش فيه حتَّى إذا أشرف على ختام خطبته، عاد فألهب القلوب بقوله:

أمَّا بعد، فإنِّي أسعد النَّاس وأعظمهم غبطةً بأنْ أشعر الآن بأنِّي أتحدَّث في بلاد العرب، في البلاد الَّتي عاش فيها محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأصحابه، وفي البلاد الَّتي مَرَّ عليها وقتٌ كان أهلها يقولون فيه: ما أشدَّ قرب السَّماء مِنَ الأرض! ثُمَّ مَرَّ عليها وقتٌ، بعد وفاة النَّبيّ، كان بعضهم يبكي لا لأنَّ شخص محمَّد قد انتقل إلى الرَّفيق الأعلى، بلْ لأنَّ خبر السَّماء قد انقطع عنْ هذه البلاد

عاش طه حسين على ثرى هذه الأرض عِدَّة أيَّام، لكنَّه عاشها في خياله وقلبه ووجدانه عمره كلَّه، وعساه، على كثرة ما خطب وحاضر واجتمع، كان لا ينفكُّ يجيل في خاطره أسماء أولئك النَّفر الكرام الَّذين صحبهم وطالتْ صُحبته لهم كلَّما أخذ يقرأ في الأغاني، أوْ كلَّما أنشأ يكتب هذا الفصل أوْ ذاك يَعْرِض فيه شيئًا مِنْ خبر هذه الأرض، لَمَّا كَتَب عنْ شعرائها مِنْ مترفي الحجاز، أوْ أولئك الأعراب البادين فيها، ويوم مضى يُنْشِئ الكُتُب والفصول عن النَّبيّ الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصحابته الكرام، وها هو ذا اليوم قريبٌ مِنْ تلك الأمكنة الَّتي التصق فؤاده بها:

كان طه حسين في جدَّة غير بعيد مِنْ مهبط الوحي وميلاد النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مكَّة المكرَّمة، فأجمع أمره على أن يقصد البلد الحرام معتمِرًا، فلمَّا نَهَبَتِ المركبة الطَّريق، أومأ إلى سائقه أن يوقف السَّيَّارة ساعة تُلِمُّ بالحُديبيَّة، فلمَّا بلغها «تَرَجَّلَ الرَّجُلُ وَقَبَضَ مِنْ تراب «الحديبية» قبضةً فشمَّها، ثُمَّ تمتم ودموعه تنساب على التُّراب قائلًا: والله إنِّي لأشمُّ رائحة محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – في هذا التُّراب الطَّاهر، وهَدَّأَ مرافقه مِنْ روع الدَّكتور على مدى نِصْف السَّاعة مِنَ الرَّاحة، ثُمَّ استمرَّ الرَّكب حتَّى دخل الحرم مِنْ باب السَّلام، والدَّكتور لا يكاد يُخفي زلزلة إيمانه عنْ رفيقه، وتَوَجَّها إلى الكعبة فتسَّلم الحجر وقبَّله باكيًا، واستمرَّ يطوف ويسعى في خشوع ضارع، وبكاء خفيّ حتَّى أتمَّ عُمرته، وقدْ أخذ مِنْه الإرهاق النَّفسيّ أكثر مِنَ البدنيّ كلَّ مأخذ»، حتَّى إذا طاف بالبيت العتيق، استلم الحجر الأسود وقَبَّله، وجعل يبكي حتَّى وقف المعتمرون ينتظرون أن يغادر هذا الشَّيخ الكفيف مكانه، ولكنَّه ما لبث أنْ بكى وأطال البكاء والتَّنهيد والتَّقبيل، فتُرِكَ في حاله، وأخذ المعتمرون يبكون ويجهشون معه في البكاء والتَّنهيد.

فلمَّا كان في المدينة المنوَّرة ورأى بعين الفؤاد تلك الأماكن الشَّريفة، سأله الصَّحفيُّون كلمة يذيعونها في الصُّحُف، فاعتذر إليهم، فلمَّا ألحُّوا عليه قال: «كيف أستطيع الكلام في بلد صاحب الرِّسالة عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام؟. إنَّني أجد نفسي مأخوذًا بجلال الموقف، وهيبة البلد المقدَّس وذكرياته العظيمة في تاريخ العالَم، ولا أستطيع أنْ أقول شيئًا إلَّا أنَّني أُحَيِّي صاحب الرِّسالة، ثُمَّ المدينة وأهل المدينة»!

لقدْ كنتُ أعيش بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدَّسة زهاء عشرين عامًا منذ بدأتُ أكتب «على هامش السِّيرة» حتَّى الآن، وهنا، في جدَّة، أحسسْتُ أنَّني أعيش فيها بفكري وعقلي وجسدي جميعًا .

المصدر : صحيفة مكة 1438/12/2هـ .