باب ما جاء في السوبيا

ما ذكرت (السمبوسك) ورد السؤال عن (السوبيا) ، وهي شراب بارد يصنعه أهل الحجاز من الشعير أو الزبيب أو من بقايا الخبز المصنوع من الدقيق الأبيض ، ينقعونه في الماء يوما أو ليلة ، أو أكثر من ذلك بقليل ، ثم يصفونه ، ثم يحلونه بالسكر ، وقد يضيفون إليه قليلا من القرفة .

وهو نوع من الأنبذة المباحة ، التي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يشربها وهي شراب رمضاني في الحجاز ، يتبردون بشربه على الإفطار وبعده ويطفئون به ظمأهم .

ومن قصصي الطريفة مع السوبيا منذ نحو ثلاثين سنة : أنني ذهبت إلى أحد المحلات الشهيرة بصنعها في مكة المكرمة (وليس هو الخضري) ، لأشتري منه ، وذلك في غير رمضان ؛ لأننا في رمضان نصنعها في بيوتنا . وكان صاحب المحل يضعها في برادات كهربائية كالتي توضع فيها العصائر (التوت وغيره) . لكن كان قد دخل المحل رجل قبلي ، وسمعته يطلب من البائع سوبيا ، ويقول له : «أريد من اللي جوة » ، أي من الجواني (بفتح الجيم) الداخلي ، فذهب البائع لداخل المحل (إلى مكان غير ظاهر كالمخزن) ، ثم خرج ، وأعطا الرجل كيسا فيه السوبيا التي طلبها . فظننت أن هذه السوبيا الجوانية أفضل ، فقلت للبائع : أريد من السوبيا الجوانية ، فإذا بالبائع يجيبني بعنف قائلا : ما عندنا إلا هذه ، وأشار للسوبيا المعروضة في البرادات . فعجبت من تصرفه ، ولا فهمت سبب هذا الموقف الغريب منه . ثم بعد فترة يسيرة ، لا تزيد عن أسابيع قليلة ، مررت بالمحل نفسه ، فإذا به مغلق بالشمع الأحمر (كما يقال) ، فسألت عن السبب ، فقيل لي : إنه كان يبيع سوبيا وصلت حد الإسكار . فعرفت حينها الفرق بين السوبيا الخارجية والجوانية ، وحمدت الله تعالى أن الرجل عرف أنني لست من أهل السوبيا الجوانية ، وإلا فقد كنت : يا غافلا ، لك الله !!

والسوبيا معروفة بهذا الاسم منذ القدم : فقد جاء في (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير : «في حديث ابن عمر ذكر «السوبية» وهي بضم السين وكسر الباء الموحدة وبعدها ياء تحتها نقطتان: نبيذ معروف يتخذ من الحنطة. وكثيرا ما يشربه أهل مصر» .

ولذلك فقد تكلمت عنها المعاجم العربية ، كـ(لسان العرب) لابن منظور ، والزبيدي في (تاج العروس) ، بل ذكر الزبيدي في (التاج) أنه قد صنف رسالة في معرفة خواص السوبية .

وقال ابن القوطية الأندلسي (ت367هـ) في (المقصور والممدود) : «فُوعلاء بنية لم توجد في كلام العرب إلا معرّبة من كلام العجم ... (ثم ذكر منها) سُوبياء: ضرب من الأشربة» . وفُوعلاء بضم الفاء.

وهي مذكورة باسم (سوبية) و(سوبيا) و(سوبياء) .

ومع أنه قيل إنها فارسية ، إلا أني لم أجدها في بعض المعاجم الفارسية العربية التي عندي ، ولا في المعربات الفارسية للتونجي .

وفي (أخبار قضاة مصر) لأبي عمر محمد بن يوسف الكندي (ت350هـ) ص239 : «حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثني ابن قديد، عن أبي نصر بن صالح، قال: حدثني عبيد الله بن سعيد، عن أبيه، عن ابن لهيعة، عن عمران بن شبيب، أن عبد الرحمن بن حجيرة: كان يشرب الشوبية»

وعلق المحقق على كلمة (الشوبية) فقال المحقق : «في الأصل : السوبية» ، ولا ذكر المحقق سبب تغيير ما في الأصل ، مع أن الذي في الأصل هو الصواب .

وقد نقل الحافظ ابن حجر العبارة على الصواب ، فقال في كتابه (رفع الإصر عن قضاة مصر) ص216، ناقلا عن الكندي : «من طريق ابن لَهيعة عن سعيد بن المسيّب، أن ابن حجيرة كان يشرب السوبيا» .

وهذا النقل صحح لنا (السوبية) ، لكنه حرف اسم الراوي ، فالصواب أنه عمران بن شبيب وليس سعيد بن المسيب .

وعبد الرحمن بن حُجيرة الخولاني أحد سادة التابعين وقضاتهم وخطبائهم بمصر (ت83هـ) ، مما يدل على قدمها ، وأنها ترقى إلى زمن الصحابة (رضوان الله عليهم) .

وإسناد الخبر ضعيف ، لكنه محتمل في مثل هذه الأخبار .

وقد اشتهرت السوبية في الفقه المالكي ، فذكرها كثيرون :

فقد جاء ذكرها في التفريع على مذهب مالك لأبي القاسم ابن الجَلَّاب المالكي (المتوفى: 378هـ) ، وفي المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (المتوفى: 422هـ) ، وفي الذخيرة للقرافي وغيرهم .

وذكرها داود الأنطاكي في كتابه الطبي (التذكرة) .

وذكرها أيضا معبرو الرؤى والأحلام !

ففي (الإشارات في علم العبارات) لخليل بن شاهين الظاهري (ت873هـ) : «وشرب السوبية حصول ما فيه شبهة إذا كانت حلوة والحامضة منها مال حرام».

وفي (تعطير الأنام في تعبير المنام) لعبد الغني النابلسي (ت 1143هـ) :«(سوبيا) هي في المنام دالة على الراحة والرزق وحلول السوء بالشارب لها وإن كان الرائي أعزب فربما كان محللاً للنساء المطلقات» .

المصدر : صفحة الشيخ الدكتور الشريف حاتم العوني على الفيس بوك