الذكرى الثانية لوفاة المنشد الديني السيد عباس بن علوي المالكي الحسني رحمه الله تعالى

 

الحمد لله الذي كتب على عباده الموت والفناء، وتفرد سبحانه بالحياة والبقاء، والصلاة والسلام على من ختمت به الرسل والأنبياء، وعلى آله وأتباعه إلى يوم اللقاء ، وبعد :
وقالوا  الإمامُ  قضى  نحبَهُ   
                   وصيحةُ مَن قد نعاهُ عَلَتْ
فقلتُ فما واحدٌ قد مضى   
                     ولكنّه   أمَّةٌ   قد    خَلَتْ
 
إن أخي السيد عباس بن علوي المالكي الحسني رحمه الله تعالى، لم يكن رجلاً عاديًا؛ لكنه أمةٌ في رجل، ولا شهابًا لاحَ في سماء المديح لم يلبَث أن مضى وتَلاشى، بل كان كوكبًا مُتلألئًا مُضيئًا، لم يبرَح كبدَ السماء، ولم تَزده الأيامُ إلا ألَقًا وبَريقًا، ولا غَرْوَ فقد تملَّك ناصيةَ السيرة النبوية نثرًا وشعرًا، وتربَّع على عَرشها، وأُوتيَ من جمال التعبير وحُسن الديباجَة في سردها ما يأخُذُ بعقول سامعيه، صادرًا ذلك كلِّه عن ثقافة إسلاميَّة أصيلَة، ومعرفة لغويَّة عميقة، وإحاطة بالتُّراث العربيِّ واستظهار له، مع نظرة فلسفيَّة متأمِّلة للحياة ، وزاد معرفيٍّ جبَّار، حتى لتَخالُه قد قُدَّ عودُه من العربيَّة بعبقريتها وروعَتها وجَلالها.

تقلَّب في عصرٍ فيه كلُّ ألوان الطَّيف، تراه زاهرًا في جوانبَ منه، مُضطَربًا مُتقَلقلاً في جوانبَ أخرى، ومن مظاهر ذلك الاضطراب: رغبته في الوصول إلى تحقيق أهدافه في وقت وجيز، وهو مظهَرٌ فيه ما لهُ وفيه ما عليه، ولعلَّ من أهمِّ ما يُحسَبُ له ما تمخَّضَت عنه تلكَ الفترة من نتاج إنشادي ديني أغنى الحياةَ الثقافيَّةَ في الحجاز والعالم العربيِّ والإسلامي بل والعالم قاطبة ، وما زالت آثارُه بيِّنةً جليَّةً في أيامنا هذه.
ولقد عاشَ السيد رحمه الله عصرَه كما هو، راكبًا فيه الصَّعبَ والذَّلول، لابسًا لكلِّ موقفٍ لَبوسَه، فارسًا من فُرسان المَيدان غيرَ مُدافَع.

      مُلقّنٌ ملهَمٌ  فيما يحاولُهُ   
                   جمٌّ خواطرُهُ جوَّابُ آفاقِ
 
ولا شكَّ أن الأمة فقدت برحيله رجلاً عليمًا بأسرار السيرة النبوية الشريفة المباركة نثرًا وشعرًا، متذوقًا لبيانها، حاذقًا في لسانها، ناشرًا لكنوزها وذخائرها.

وهذه مبادرةً كريمة نهض بها أبناء السيد عباس رحمه الله تعالى (السادة عاصم وعلوي وعمرو وسعيد) حفظهم الله تبارك وتعالى، إذ خصصوا هذه الليلة المباركة لذكرى والدهم السيد عباس برًا ووفاء ، فأسدوا إلى طلابه و محبيه وعاشقيّ صوته الشجي يدًا بيضاء ينبغي أن تُذكر فتُشكر .

وكي لا يظن السامع أني أبالغُ في نعوت السيد رحمه الله ، فسأجعل همي في هذه الكلمة الكشف عن حقيقة هذه النعوت والتدليل عليها:
- إن مكانة السيد عباس رحمه الله وعلوّ كعبه تتبدى في رحلة كفاحه والتي استمرت منذ ولادته حتى الوفاة، هذه المكانة منحها الله تعالى للسيد نتيجة لأخذه بالأسباب ، والتي جعلت منه قارئًا مميزًا ، و منشدًا للسيرة النبوية الشريفة المباركة يفوق الأقران، بل ويتجاوز الزمان والمكان ، فأسس مجلسًا في داره واختار لمجلسه الزمان والمكان ، أما الزمان فيوم الجمعة الأزهر الذي خصه الشارع بمزيد مزية ، (فقال خير البرية صلى الله وسلم وبارك عليه وصحبه والذرية ، فيما رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان ، عن سيدنا عبدالله بن سيدنا العباس رضي الله عنهما ، أكثروا من الصلاة على نبيكم في الليلة  الغراء واليوم الأزهر ، يعني ليلة الجمعة ويوم الجمعة) ، وأما المكان فبلد الله الحرام ، ومولد ومبعث خير الأنام صلى الله عليه و آله وصحبه مادام الليل والنهار ، يشنف فيه الأسماع ، بصوته الشجي ، الذي بلغ الأصقاع ، ويبث فيه ما تصفحه من زواهر أسدافها ، وجواهر أصدافها ، مع ما تميزه روحه الشريفه الطيبة المباركة والتي مزج فيها بين الملحة والظرف ، والفكاهة والجراءة واللطف ؛ ليصدح في نهاية المطاف بمدح الله جل جلاله وعظم شأنه ومدح حبيبه المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم، وصحبه الكرام عليهم من ربهم الرحمة والرضوان، مظهرًا نفائس المدائح في أنواع من البراعة مغشأة، وأزاهر بيان يغدو لها صاحب غايات، ويروح المستمع لها صاحب آيات.
      إذا  نحن  أثنينا عليك بصالحٍ    
                            فأنت كما نثني وفوق الذي نثني

والذي بيَّن حجم المصاب بوفاته وفداحة الخسارة بفقده، عظيم ما أبدع وترك من تراث إنشادي مكي أصيل.

والمتتبع لمسيرة حياة السيد عباس في طلب العلم، وأسفاره في صحبة المنشدين والعناية بهم، وصحبته لأكابر العلماء والمنشدين، ووفائه لهم ،وكلامه على أفضالهم، يتبين له علو كعبه وهمته.

ولما كان من أجلّ نعم الله على عباده نعمة البيان، وقد امتنَّ الله على عباده بهذه النعمة فذكرها في أشرف سياق فقال تقدست أسماؤه:
{الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ *خَلَقَ الإِْنْسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، نالها بفضل الله وأخذها من مظانها، ولا يكاد يظفر بها إلا من وُهب لطافة الحسِّ، وخفَّة الروح، ورحابة الصدر، والارتياح والطرب لمظاهر إبداع الله عز وجل لحبيبه المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم، وما بثَّه الله تعالى في نبيه إذ جعله سيد أهل  السماوات والأرض، وما أجراه على ألسنة خلقه من الثناء والمديح له صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

- أما غيرته على مجالس العلم وذوده عن حياضها ومعارفها:
فينبع ذلك من أصالة السيد  التي لا يخطئها سامع أو محب للعلم في بلد الله الحرام ، فقد نشأ في بيت فضل وعلم وصلاح ، ولم يعد خافيًا على أحد ذلك التدنّي الذي وصل إليه المجتمع في علوم الشريعة والعربية خلال الفتره الأخيرة، ولو تُرك الأمر على ما هو عليه الآن فالله وحده هو الذي يعلم أبعاد الكارثة التي ستطبق على هذه الأمة، ونخشى أن تغشانا طوارقها ذات يوم وقد استحال تراثنا الذي ضَنِيَ به الأوائل خلال أربعة عشر قرنًا من الزمان رموزًا وعبارات قديمة تخفى على جمهرة الناس، ولايعقلها إلا العالمون، ويومها سنقول:

   استعجمت  دارُ  ميٍّ  ما تكلمنا 
                                والدارُ -لو كلَّمتْنا- ذاتُ أخبار .

فأنشأ مركز السيد علوي بن عباس المالكي الحسني رحمه الله تعالى(١٣٢٨- ١٣٩١هـ) للعلوم الشرعية والسيرة النبوية الشريفة المباركة، وجلب له المشايخ والعلماء، واستقدم الطلاب من اندونيسيا والبلاد المجاورة لها ، وقد تخرج من هذا المركز عدد كبير من الطلاب الذين تولوا التدريس والتعليم في بلادهم، وكم كان يتمنى رحمه الله تعالى ، أن ينتفع أهل مكة المكرمة من هذا المركز وأمثاله.

وامتداد للموضوع فقد كان يشترط السيد على من يرغب في الإنشاد أن يكون طالب متفوق في الشريعة الإسلامية وفي اللغة العربية وآدابها؛ حتى يتمكن من أداء الرسالة التي يريد إيصالها للمجتمع شكلاً ومضمونًا.

بحيث لو سمعت أطربت، وأبدعت فيما أودعت من أبيات مهذبات ، وشموس مشرقات ، ولألئ أنوارها بارقات، ألفاظها أرق من النسيم وأروق من التسنيم .

كما أزهرت روضات حسن وأثمرت
                            فأضحت وعجم الطير فيها تغرد

وفي هذا القدر كفاية لمن حفته العناية، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم .

بقلم | الاستاذ محمد علي يماني ( ابوعمار ) | تم النشر في 1438/6/26هـ