مبادرة "معاد".. قصة مكيّة خالصة!

في أواخر العام 2011 أتيحت فرصة كافية لقلمي المتواضع للتعاطي مع تويتر، بعد أن هجر الصحف وانحاز للصحافة في شكل لو عرف خاتمته ما كان بدأ.

بعدها، كان الطائر الأزرق هو النافذة المتاحة للتعبير بالكلمة والصورة الثابتة والمتحركة. وكانت الـ 140 حرفا كافية لإبراء الذمّة وتسجيل شهادة لله والتاريخ ـ غير ملزمة لأحد ـ تحمل قناعات ورؤى خاصة تجاه ما يحدث في المكتين بلد الله وبلدة نبيه الخاتم. وهي آخر حاجة بقيت في محبرة (القلم) من مهنة المتاعب!.

في الصحافة المحلية كانت الموضوعات التي تناقش قضايا طمسّ هوية المكتين بالكاد تنشر. حيث تخضع معظمها في مطابخ الصحف الى كثير من الشك والريّبة، ومزيدا من فلاتر وأجهزة تنقية أكثر مما تفعل جميع محطات مؤسسة التحلية في تعاملها مع ماء البحر المالح.
في منتصف العام 2012 كان الموعد يتجدد على صعيد جبل أحد. حيث قام محتسبون جهارا نهارا وتحت حماية أمانة المدينة المنورة بصبّ وابل من الخرسانة الجاهزة على مدخل غار النبي صلى الله عليه وسلم حيث لجأ إليه ونفر من أصحابه بعد إصابته ـ بأبي هو وأمي ـ بشج في رأسه الشريف وكسر في رباعيته أثناء غزوة أحد.

فتح هاشتاق #غار_أحد وبعده #من_يهدم_تاريخنا وجاء الباكون والمتباكون من كل حدب وصوب. كان كلّ هاشتاق أشبه بسرادق عزاء وعويل للبسطاء والقلوب السليمة. لم يحضره أحد من أهل الحلّ والعقد كما كان يؤمل وينتظر. لا سماحة المفتي، ولا عضو واحد من هيئة كبار العلماء، ولا أي من كبار المسئولين في المدينة المنورة.

وظل الغار ـ غار أحد ـ يئن بصمت (حتى اليوم) لا تحت ثقل خرسانة الإسمنت الجاهزة فحسب، بل ومن نظرات التشفي والشماتة ممن يحسبون أنهم آمنوا وعملوا صالحا، ويمنّون أنفسهم بأن لهم جزاء الحسنى!.

كانت قلوب المؤمنين في مكة تبتهل في صلواتها أن يجبر الله كسّر جبل أحد (الذي يحبنا ونحبه)، وهو الشقيق السادس للأخشبين الصفا والمروة، ورحمة عرفات الله، وثور الهجرة، وحراء نور البداية المحمدية.

وتحولت قلوبهم الى مناديل تحاول مسح أحزان مدينة (يتيم مكة) ومهاجره، من أعداء الآثار النبوية وأنصار طمسّها تحت أساسات ناطحات سحاب ومشاريع أبراج إسكان سياحي تخفيها عن الوجود كاثر بعد عين ما بقي ليل أو نهار.

بعد شهور، تجددت أحزان مكة. وبدأت تتسرب المعلومات عن مصير غامض ينتظر سلسلة آثار نبوية ومعالم تاريخية في أم القرى. كانت بلدوزرات الهدم، ولا تزال، أكثر مما بقي من حمائم البيت العتيق. لم تبق جبلا ولا سهلا ولا واديا الا وكانت تنهش كل أخضر ويابس في جوع لا يشبع أبدا.

تحولت مكة بين ليلة وضحاها الى قطعة سكر تحاصرها جحافل نمل شره يمتص روح وريحان كل حلاوتها المقدسة. وكان رقيب النمل، كعادته دوما، متكئا على منسأته غافلا عن كل صوت يجأر حوله بـ يا غارة الله والنبي محمد!.

كان هاشتاق #أوقفوا_الهدم_في_مكة هو أحدث وآخر أبواق النذير يومها. تزاحمت المناكب والأفواه على مبسم البوق لينفخ كل من شاء آهات مكيّة تقطر حسرات وخيبات وطلب نجاة علّ أن تجد أذنا صاغية تنقذ ما تبقى من عاصمتنا المقدسة.

اختلط الحابل بالنابل في الهاشتاق الشهير. حتى كاد صوت الثكالى، يضيع بين فحيح النوائح المستأجرة، وعواء أصحاب أجندات خاطئة تنتظر أي موجة لتصعد معها لتسيء للكيان والوطن وأهله الطيبون.

وجد المبررون وشهود الزور فرصة جديدة، لتشكيك في وطنية وإيمان المطالبين بحماية آثار #مكة ومعالمها التاريخية وأوابد جبالها التي صمدت منذ خلق الله الأرض ومن عليها. وكانت التهم جاهزة، وسرعان ما وصموهم بالبدع وإحياء الشركيات، وأنهم ضالون مضلون عن مقاصد التوحيد بالله الواحد الأحد.

كان المكيّون ـ في وجه خاص ـ الأكثر صوتا وتفاعلا ومشاركة. في تلك اللحظة بدأ جنين #معاد يتشكل مضغة في رحم الغيب والمأساة التي تحيط ببطاح مكة ومقدساتها. جنين لا يعرف أحد غير الله سبب وجوده والهدف منه، وشقي هو أم سعيد.

كان الغبار لا يزال عالقا كغيمة ركامية جاثمة فوق أحياء كاملة تحيط بالحرم المكي إحاطة السوار على المعصم. ولم يكن هناك صوت غير هدير البلدوزرات. وكان الدمار هو المصير الحتمي لكل شيء في قلب مكة وكان موقف المبررون وشهود الزور أقسى على أهل أم القرى من فولاذ أسنان المجنزرات وأصابيع الديناميت المدويّة.

خلال سنوات قليلة، تم إزالة أكثر من عشرين ألف عقار بين منازل وأسواق ومساجد ومدارس ومستشفيات وطرقات عامة وغيرها. فقدت مكة الكثير من هويتها المقدسة بما فيها من آثار ومعالم وحياة مجاورين لبيت الله العتيق.

وبات هديل حمام البيت آخر صوت بكاء يتردد بين الأخشبين والبطاح المقدسة. كانت مكة، ولا تزال تبدو كيتيم لا ملجأ له ولا ناصر غير الله!.

تعددت الهاشتاقات، وكثر النافخون في أبواق التحذير والمناشدة، مع بدء الحديث عن هدم الرواق العثماني، ثم تبعه موقع المولد النبوي، قبل أن يصل الأمر الى بئر طوى، حيث مغتسل النبي في فتح مكة، ومن قبله سبعين نبيا نهلوا من ماءه العذب، وأزال عنهم شعثّ وغَبرّ وعثاء سفرهم الى بيت الله العتيق.

كانت الأصوات أقوى وأصدق أثرا هذه المرة. فالرواق العباسي ومكتبة مكة المكرمة وبئر طوى كغيرها خطّوط حمراء لا تقبل الذاكرة المكيّة المسّ بها، وبات صوت الاستغاثة يتسع شيئا فشيئا حتى أيقظت عيونا غارقة في وسن النوم والغفلة، وأسمعت آذانا لاهية عن غضبة رجالات البلد الأمين ونساءه.

كان المستغيثون يشكلون نموذجا مصغرا عن فسيفساء المجتمع المكيّ بكل تفاصيله وتنوعه المثير. وجاءوا من مشارب ثقافية وعلميّة وعمليّة شتى. لا تربط معظمهم علاقة أو معرفة سابقة ببعض. كان حبّ مكة هو القلب، والعروة الوثقى التي ألتف حولها الجميع في عزم وصبر جميل.

هذا التنوع في الأصوات أتاح تقديم معلومات دقيقة وموثقة، وطرحوا آراء ورؤى لا تقبل الجدل والإنكار. وسرعان ما تهاوت الحجج المضادة وبات التشكيك فيهم وفي قضيتهم ضربا من الافتراء والكذب على الله والحقيقة.

قبل نحو عشرة أشهر تقريبا، تبادل د. عبد العزيز الخضيري بصفته مهتما بالتنمية المستدامة ـ لا وكيل أمارة مكة ـ وعن سابق معرفة، بضع تغريدات مع المهندس جمال شقدار عبر لسان الطائر الأزرق. ولفته أن م. شقدار كان من بين المغردين في معظم الهاشتاقات المكيّة، وراق له أسلوب تغريداته التي كانت ولا تزال تتسم بالمعلوماتية والحكمة والوطنية.

تمكن د. الخضيري وصديقه م. شقدار (بتوفيق الله) من تطوير النقاش ونقله الى مسار إيجابي. قال له: أتابع الأصوات المستغيثة وأجد فيها ما يستحق الوقوف عليها. أريد أن أسمع منكم مباشرة، لعل الله يحدث بعد ذلك امرا!.

خلال أيام انتشرت رسائل م. شقدار الخاصة في بريد عدد من الناشطين في الهاشتاقات المكيّة. وتبرع الوجيه المكي د. فايز بن صالح جمال أن يتم التحضير للقاء الرسمي في داره العامرة. وأولم للحضور بكبش سمين.

تقدم اللقاء الأول لأعضاء مبادرة معاد  السيد د. سمير برقة، و م. أنس صيرفي، وغسان نويلاتي، وحسن مكاوي، ومحسن الشيباني، وحسن شعيب، وعصام مدير، وممدوح طيب، والسيد محمد علي يماني، و م. مجاهد شقدار، وآخرون لا تسعف الذاكرة أسمائهم.

تم الاتفاق على تنفيذ عرض موجز لمقام إمارة مكة يوضح في إيجاز غير مخلّ الآهات المكيّة حول الآثار النبوية والمعالم التاريخية مزودة بالصور والشروحات اللازمة. وتم تزكية د. فائز أن يكون الأب الروحي للمبادرة بعد عدة اجتماعات في مكة وجدة.

كان د. عبدالعزيز الخضيري يصافح الوفد باحتفاء ظاهر، قبل أن يستضيفهم في قاعة الاجتماعات الذكيّة في مبنى الإمارة في مكة. وسرعان ما أتسعت حدقتا عين وكيل الأمارة إعجابا وتقديرا من حجم المعلومات وخلفية كل عضو شارك في حضور اللقاء، قبل أن يقطع وعده بالدعم والمساندة لإنجاح روح المبادرة حتى النهاية.

د. عبدالعزيز الخضيري وكيل أمارة مكة مستقبلا أول لقاء بالأعضاء المؤسسين لمبادرة معاد في قاعة الاجتماعات بمبنى الأمارة في مكة

تكررت بعد ذلك اتصالات ولقاءات مختصرة بوكيل امارة مكة. قبل أن تشمل لاحقا عددا من كبار المسؤولين في الأجهزة الحكومية. حيث انتهى فريق المبادرة، بعد أن توسع عدد أعضاءها بنخبة كريمة شملت م. حسن عبد الشكور، وصالح أنس صيرفي، و م. إبراهيم كلنتن وآخرون.

كان كل رجل منهم بألف رجل (حاشا كاتبه والله) وبذلوا من الوقت والجهد والمال والعمل ما تعجز الكلمات عن وصفه شهادة لله وإعطاء كل ذي حق حقه. قام رجالات "معاد" بعمل تصاميم هندسية خاصة لكل من مولد النبي، وبئر طوى، وعدد من المساجد والمقابر التاريخية في شكل يتكامل مع كلّ تصاميم المخطط العام لمشاريع التوسعة وتطوير مكة.

وتبرع أ. ممدوح طيب بالتعاون مع م. حسن عبد الشكور في توثيق إحداثيات لكل أثر ومدر ثابت في السيرة النبوية وتاريخ مكة لإسقاطه على الخرائط الرسمية لمنطقة مكة في شكل يحافظ عليها عند التفكير مستقبلا بأي تطوير يشمل موقع أثري نبوي أو تاريخي في جغرافية البلد الأمين.

وتحمل م. أنس الصيرفي الى جانب التصاميم الهندسية أعباء كلفة تدقيق كتاب شفاء الغرام التاريخي، وأسند المهمة الجبارة على كتفي الوراق المكي أ. غسان نويلاتي صاحب المكتبة المكيّة لإنجازها في أقرب وقت ممكن.

فيما كان السيد د. سمير برقة حمامة السلام، ولسان صدق للمبادرة الى جانب دوره المؤثر في تنظيم رحلات دورية نافت على 400 رحلة للتعريف بكل المعالم النبوية والتاريخية من تخوم الشمال في مدائن الحجر والعلا، مرورا بالمدينة المنورة وطريق الهجرة، وصولا الى آثار مكة وأوابدها.

وكان أ. حسن مكاوي و أ. محسن الشيباني أقلام صدق في التعريف بالمبادرة عبر موقع قبلة الدنيا، وتنسيق اللقاءات الصحافية والتلفزيونية، ومن ثم لاحقا عبر إنشاء حسابات خاصة لمبادرة "معاد" في تويتر ويوتيوب والفيس بوك، للتعريف بها وبنشاطها المدني التطوعي، كان أهم ثمرات "معاد" إعداد فيلما وثائقيا يوضح رؤيتها وأهدافها كجمعية تطوعية تندرج تحت الحراك المدني، وتنفرج على كل من يستحسن رؤيتها العامة لمستقبل بلد الله الأمين، وكان الفلم رسالة قوية التأثير في كل من شاهده، وانهمرت طلبات الالتحاق بالمبادرة والمشاركة فيها بأي جهد أو عطاء ممكن.

خلال الأشهر الثمانية المنصرمة التقى فريق مبادرة "معاد" بكل من أمين العاصمة المقدسة د. أسامة البار، وأمين هيئة تطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة د. سامي براهمين، ومسؤولين كبار في كل من شركة بن لادن، ومعهد الملك فهد لأبحاث الحج وهيئة السياحة والآثار الوطنية وغيرها. وكانت البركات وفيوض القبول الربانيّة حاضرة في توفيق كل لقاء ومناسبة.

وكانت أولى الثمرات المباركة لمبادرة "معاد" التي تنمو ببركة الدعاء وحرصّ أصحاب القلوب السليمة.، حماية بئر طوى من أسنان البلدوزرات وفق شروط حماية صارمة وجدت تأييدا من الجميع، وكانت وعود الدعم والمؤازرة تملئ سلال اللقاءات المثمرة يوما بعد آخر.
وتلك قصة أخرى، يطول الحديث عنها لاحقا!. 

المصدر