رادن أبوبكر: دليل أم جاسوس؟ من واقع وثائق ليدن
كانت رحلة كريستيان سنوك هورخرونيه إلى الحجاز 1884 - 1885م بلا شك حدثا مهما في تاريخ دراسات الاستشراق، وهو الذي كان أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بجامعة ليدن بعنوان «الحج عند المسلمين وأهميته في الدين الإسلامي»، إذ قضى ما يقارب الستة أشهر في مكة، ابتداء من 22 فبراير 1885، حتى رحيله القسري عنها في أغسطس من العام ذاته على خلفية صلته بقضية الاستيلاء على حجر تيماء واغتيال العالم الفرنسي شارل هوبر.
وفي ضوء رحلته العلمية، ذات الباعث الاستعماري ضمن نهجه العام نحو صهر المستعمرات في ثقافة بلده الأم، هولندا، والتي كان عمادها دراسة تأثير مكة المكرمة على رعايا هولندا من حجاج ومجاوري جزر الهند الشرقية، المعروفة بإندونيسيا اليوم، وضع سنوك كتابه الشهير «مكة» بعد عودته إلي هولندا، ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا غدا هذا السفر النفيس مرجعا رئيسا في تاريخ مكة المكرمة وثقافتها وتراثها أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
يقول عنه شكيب أرسلان: «وفي هولندا هو المستشرق الأكبر والنقريس الأخبر بأمور المسلمين».
على أن الكثير من المتابعين أهملوا أفرادا كان لهم سهمة كبرى في نتاج سنوك العلمي، وبخاصة دراسته للمجتمع المكي بسكانه أشرافا وأتراكا، حاضرة وبادية، علماء ومجاورين. أعني هنا مصدر سنوك الأهم، المجاور الجاوي المثقف، رادن أبوبكر، إذ اصطفاه سنوك عوضا عن الجزائري المثير للجدل، سي عزيز، الذي كان منفيا من بلاده بواسطة المستعمر الفرنسي ليكون مرافقه في مكة ودليله.
ولد رادن بعد عام 1854م، في غرب جاوة. كان أخوه ووالده وصيين على منطقة باندلانج، وهي عائلة حظيت بإكرام المستعمر الهولندي لجهودها نحو مصالحهما المشتركة في البلاد. مكث رادن في مكة للدراسة الشرعية على المذهب الشافعي في المسجد الحرام قرابة خمس سنوات. وابتدأت حظوظه، قبل أن تتصل أسبابه بأسباب سنوك، أثناء زيارة القنصل كرويت للمحجر الصحي بجدة، إذ اقترح أن يقوم حجاج جزر الهند الشرقية بمراجعة القنصلية بجدة فور وصولهم، فكان البحث عن مترجم يتمتع بخصال خاصة؛ مرشح متحضر من أفراد الطبقة العليا في المجتمع، يتحدث الملايو والجاوية والعربية والهولندية، ومن المهام السرية الموكلة لهذا الموظف الرقابة على جاج جاوة، إذ إن المخبرين السابقين قد كشف أمرهم أو ظهر أنهم يدلون بأنباء كاذبة، كما تفيد بعض تقارير القنصل الهولندي.
كان باعث رحلة سنوك استعماريا في المقام الأول، حيث ركز على تأثير مكة على سلوك الحجاج الجاوة، ولا سيما أن الكثير من مجاوري جاوة كانوا طلابا في المدرسة الصولتية التي أسسها العالم المناضل الكبير ضد الاستعمار البريطاني الشيخ رحمة الله الهندي.
يقول سنوك بعد مقابلته لرادن للمرة الأولى في القنصلية الهولندية بجدة إنه «أعد نفسه جيدا خلال السنوات الخمس التي قضاها في حصد العلوم الشرعية بالمسجد الحرام، متسلحا بدوافع استرداد الموقع الحكومي الذي شغله أخوه ووالده في باندلانج، وقد أبدى استعدادا منقطع النظير للتعاون وتقديم المساعدة في جلب الكتب والمعلومات اللازمة لي في مهمتي، ومنها مجموعة خاصة بالطريقة النقشبندية في مكة، وأطلعني على تنظيم التعليم في المسجد الحرام، ووعد بتقديم كل ما يمكن فعله من معلومات ودعم».
كانت لرادن مهمتان خلال خدمته في القنصلية الهولندية: العمل الإداري والترجمة للقنصل، والعمل الميداني والذي كان يقوم على التجسس على رعايا هولندا من الجاوة ورفع التقارير للقنصلية ولسنوك ذاته بوصفه مستشار الدولة للشؤون الإسلامية. أما في الجانب العلمي، فلا شك أن المعلومات التي تلقاها سنوك من رادن كانت الأساس لاحقا (على الأقل) للفصل الرابع من الجزء الثاني من كتاب سنوك «مكة»، بينما زودته الجارية الحبشية التي اشتراها من دكة العبيد قرب باب الدريبة بمعلومات عن الحياة المكية الخاصة بالنسوة.
في محاضرة ألقاها سنوك في الولايات المتحدة سنة 1913م سرد فيها تقربه إلى أهم الشخصيات الدينية في المسجد الحرام، مفتي الشافعية السيد أحمد زيني دحلان، ولم يكن يخفى عليه حينها تأثير السيد دحلان السحري على مواطني جاوة.
وبالطبع كان لرادن دور كبير في تعبيد طريق سنوك نحو السيد دحلان والشخصية الشافعية البارزة الأخرى السيد عبدالله الزواوي، الذي كان رادن نفسه أحد تلاميذه. وحينما أبعد سنوك عن مكة قبل إتمام مهمته الكبرى، الحج، كان رادن عينه وأذنه ومحرر كل ما يحتاجه من تفاصيل ومعلومات.
أثنى القنصل الهولندي سباكلر في تقرير بعثه في 25 أكتوبر1891م على إخلاص رادن وجهوده السرية في الميدان بمكة لخدمة هولندا دون أن تشعر به الحكومة العثمانية ودون أن يرتاب منه مواطنوه رعايا هولندا من الحجاج. فأتى جواب للقنصلية بتكريم رادن على الملأ، وحينها، في رسالة إلى سنوك في 3 مارس 1892م جير تلك النجاحات لصديقه القديم، على الرغم من أن سنوك هورخرونيه لم يبادله الوفاء بالوفاء في الإشارة إليه كمصدر معلوماته الأول.
المصدر : صحيفة مكة 1437/10/15هـ | بقلم سلطان الطس
0 تعليقات