حارة الشيخ بيئة تخيلها المؤلف وأسقطها على تاريخ جدة

من يتابع مسلسل حارة الشيخ يشعر أنه تائه بين حرافيش نجيب محفوظ، وبركات جمال الغيطاني، وحلمية عكاشة، حيث جاء المسلسل ولم يأخذ من واقع الحجاز إلا ملامح بسيطة أقحمت في العمل، كدليل على أن هذا العمل يمثل واقع مدن الحجاز، والتي تمثل جدة إحدى واجهاتها الكبرى، في صياغة بعيدة كل البعد عن واقع الحجاز عموما وجدة خصوصا، في بيئة تخيلها المؤلف، وحاول إسقاطها على تاريخ مدينة ضاربة في عمق التاريخ ، بيئة لم تأخذ من الواقع إلا ملامح مشوهة، ليس فيها من الحقيقة شيء، عبثت بالواقع المشرق لهذه المدينة عبر تاريخها الطويل ، وبعيدا عما تخلل المسلسل من قصص العشق والعشاق وتجاهل للقيم السائدة، والأخلاقيات المعروفة في المجتمع الجداوي ، هناك عدد من الأخطاء التاريخية في النص، تدل على مقدار البعد بين النص الدرامي، وتاريخ المنطقة

ومن ذلك:
لم يحدد المؤلف تاريخا معينا تدور فيه أحداث المسلسل، إلا أنه يشير لوصول رشيد باشا، وقد وصل رشيد باشا إلى الحجاز سنة 1289هـ، وسمي في المسلسل (قائم مقام) والتي تعني النائب، مع ملاحظة أن التسمية الحقيقية لمن يلي أمر جدة والحجاز(الوالي)، وليس قائم مقام.

العمدة منصب غير معروف في تلك الفترة، وكان لقب المسؤول عن الحارة في ذلك الوقت هو (شيخ الحارة) وظل هذا اللقب مستخدما حتى سنة 1346هـ، حينما اعتمد لقب (العمدة) للمرة الأولى في تاريخ الحجاز كلقب رسمي للمسؤول عن الحارة.

أما الذي سمي في المسلسل (بشيخ الحارة) فحسب العرف السائد في ذلك الوقت كان يعرف (بالفقيه) أو (الإمام) حسب درجته العلمية.

الشخصية التي احتلت الجزء الأكبر من أحداث المسلسل وهي (المشكل) صاحب النفوذ الأقوى في الحارة، والذي يفرض الإتاوات، ويكسر الرؤوس، ويحني الهامات، ويحطم المحلات التجارية، وله سلطة العقاب، والإبعاد والنفي والطرد من الحارة، والحقيقة أن شخصية المشكل، هي جزء من تكوين الحارة، إلا أنه لم يكن بالضخامة التي صورها المسلسل، بل هي شخصية قوية من الشباب الحرفيين، وليس العاطلين هدفها خدمة الحارة، وحمايتها ضد من يتعرض لها في وقت كانت السلطة توكل أمر كل حارة لساكنيها يختارون لهم شيخا، ويصبح هو المتحدث عنها، ومنصب شيخ الحارة يجمع بين خدمات رجل الأمن، والضمان الاجتماعي، والمراقب، والمحامي، والقاضي، وكان شباب الحارة، يتولون أمر حمايتها كما سبق القول، إضافة إلى مساهمتهم الكبيرة في النوازل، كالحرائق، أو الكوارث ضمن أعراف كانت تحكم المجتمع مستمدة في أصولها وفروعها من تكوين المجتمع المسلم، ولا تتدخل الحكومة إلا في أضيق الحدود، كجرائم القتل، أو القضايا التي تصل إلى مسامعها عرضا، فكانت العلاقة بين السكان والمشكل وشيخ الحارة (العمدة فيما بعد) علاقة تكاملية تساندية، قمتها شيخ الحارة، وليست تنافسية، البقاء فيها للأقوى كما صور المسلسل. أما الصراع على الفتوة، وجمع الإتاوات، من قبل شيخ هرم (المشكل) فأمر غير معروف، خاصة في مجتمع تجاري، كانت تفرض عليه ضرائب وجمارك من قبل الحكومة العثمانية، ويوجد فيه حاميات عسكرية، وموظفون من الدولة يقومون بذلك. بل والأدهى من ذلك أن يخرج (المشكل الأكبر) أمام أهل الحارة، وتحت أنظارهم للقاء خصمه (المشكل الآخر) في تجاهل شديد لدور كبار أهل الحارة، والأعراف والتقاليد التي كانت تحكم المجتمع، ضمن صراع أحمق، وتناطح بين الرجال، ثم يذهب دم المقتول هدرا، ويمشي القاتل طليقا في جنازة المقتول، محاطا بالرجال، وخلفه (العمدة) لا قيمة له، في مشهد شديد الهمجية على أنه واقع مدينة متحضرة كجدة، تحكمها الأعراف والأنظمة، وليس قانون الغاب.

غيَّب المسلسل أدب الخطاب، والاحترام، وتقدير ذوي السن الذي عرف به المجتمع ولا يزال.

لم يكن (المزمار) في تلك الفترة أكثر من لعبة يمارسها بعض أهل الحارات، في حدود ضيقة، ولم تكن تمارس في الاحتفالات الرسمية، أو الاستقبالات الحكومية، كما صورها المسلسل، فالذي كان معروفا في ذلك الوقت، وحسب النصوص التاريخية (العرضة) و(الرفيحاء).

فرش البيوت، غير متوافق مع المعروف والمألوف في البيوت الحجازية القديمة، مع ملاحظة أنه لا مجال لإعمال الخيال أو التخمين في ذلك، فالصور ما زالت موجودة، بل بعض البيوت لا تزال تفرش بالطريقة التقليدية القديمة.
ملابس النساء والرجال لم تكن كما صورها المسلسل، فالبرقع كمثال كان يصنع ساترا، حتى يصل إلى أطراف القدم، ولم يكن اللون السائد هو الأسود، بل عرف في أغطية النساء اللون الأبيض، والعسلي الرمادي وغيرها، وكان لباس المرأة السائد عند الخروج، (الملاية الجاوي) وهي تلف الجسم بالكامل، وتوضع على الرأس، ويشد تحتها البرقع الكبير كالقناع، أو (البيشة) وهي مثلها في ستر الجسم ومثلهما (القنعة التركي) و(الجامة).

يصور المسلسل الداية على أنها امرأة لا قيمة لها في المجتمع، وذات لسان سليط، يُعَيرُ بها ابنها، والواقع أنها امرأة لها مكانة اجتماعية متميزة، فهي الطبيبة والقابلة وترتبط بالأسر بروابط المهنة، والمحبة، وهي من تحفظ أسرار الأسرة، وتستشار بحكم خبرتها وسنها في الغالب.

المفردات التاريخية والمصطلحات الحضارية، والأدوات المستخدمة في المسلسل، الكثير منها لم يكن معروفا، فمثلا استخدم كلمة (إتريك) وهو نوع من أدوات الإضاءة والإتريك لم يعرف إلا في الثلاثينات الهجرية من القرن الماضي ومثلها في ذلك (الفوانيس) بل حتى طريقة تقديم الشاي في المسلسل لم تكن هي المعروفة في حواضر الحجاز، فتقديم الشاي كانت له قواعد وأصول، أهم شواهدها النصبة، والسموار، وبنت المنقل.

يصور المسلسل الحارة على أنها وحدة اجتماعية مستقلة عن بقية المدينة، فلا زواج من غير الحارة، وهذا الأمر غير صحيح إطلاقا، ويستشهد بمثل غريب (إلا مو من حارتنا ما يتعدى عتبتنا)، والغريب أن علاقات المصاهرة في الحجاز عموما لم تكن تخضع للمكان، بل تحتكم العلاقات في الزواج إلى مبدأ الدين والخلق، كما رسم لها الدين الحنيف، وفيما يتعلق بالزواج يورد المؤلف عبارة (البايرة – العانس – سمعتها بطالة) والحقيقة أن هذا تجاوز غير مقبول، فكثير من سيدات البيوت لم يتزوجن، وعشن حياة كريمة ولم يتعرض أحد لسمعتهن.

أخفق الكاتب والمخرج في تصوير المجتمع بكل جمالياته، وجوانبه المشرقة، بل حتى مبانيه وهندسته وأصوات مآذن.

يدور كثير من أحداث المسلسل داخل إحدى الخمارات في مدينة جدة والحقيقة أنه لا ينكر وجود هذه الخمارات تبعا لسماح السلطة العثمانية في ذلك الوقت بافتتاحها خدمة لقناصل الدول الأوروبية، إلا أنها كانت محدودة، ولا يقصدها إلا الأجانب في الغالب وليس كما صورها المسلسل تجمعا لأبناء الحارة، علما أنه في سنة 1288هـ، منعها الوالي قاسم باشا، وعاقب من يتردد عليها، وإن كانت وجدت فهي من الأمور الطارئة التي يجب على من يكتب التاريخ تجاوزها، أو يشير إليها إشارة عرضية، لا جعلها صورة حتمية الظهور.

خروج النساء في الشوارع، مثل هذا الأمر في تلك الفترة كان مما يستعاب، بل إنه من المعروف أن المرأة المنقطعة التي تحتاج لمن يذهب بعجينها إلى الفران، تضعه أمام البيت، حتى يمر أحد أبناء الحارة ويحمله، ومما يعاب أن يراه أحد المارة ولا يحمله، أما مشتروات البيت فالرجال فقط هم من يتولونها فيما يعرف بالعينات أو الفواتير، تختار منها المرأة ما تريده، ثم يحمل إليها.

المصدر : صحيفة مكة 1437/9/19هـ | بقلم : حسام عبدالعزيز مكاوي