شلالات مكة

يرى أمير البيان شكيب أرسلان أن لله تعالى حكمة بالغة في تجريد مكة المكرمة من زخرف الدنيا وجعلها جرداء لا نضرة فيها ولا خضرة، لكي تكون مكانا للعبادة ومثابة للناس وأمنا فلا ينشغلون عن غايتهم العليا، ولذا كانت كما يصفها في الارتسامات اللطاف « أجرد بلدة عرفها الإنسان، وأقحل بقعة وقعت عليها العينان»، غير أن بعض الإشارات النادرة في مدونات التاريخ المكي قد توصم هذه الأيام بأنها ضرب من الهذيان، إذ تقدم مكة المكرمة بصورة طبيعية ومناخية لا تتوافق مع واقع حال اليوم.

إن المناخ ذو طبيعة متغيرة، ومناخ مكة ليس استثناء. يذكر إبراهيم رفعت في مرآة الحرمين، والذي زار مكة فيما بين 1901ـ 1908م أن درجات الحرارة في مكة كانت 28 في شهر يوليو و30 درجة مئوية في أغسطس وقد تصل إلى 39 درجة، وهذه الإشارة تقتضي تفاوت المناخ في مكة عبر العقود الماضية، إذ إن درجات الحرارة في أيامنا هذه تصل إلى الخمسين، وقد تزيد في شهور الصيف، وخاصة أواخر يوليو وأغسطس. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنها في زماننا كلها صيف، ما خلا بعض أيام الشتاء.

وإنه ليأخذ من القارئ العجب حين يُنبأ عن شلالات المصافي . نعم شلالات في مكة ، ففي قديم كتب الرحالة وبعض المدونات المحلية لمحات قد تدعو للدهشة، ولعل أهم تلك الإشارات ما دونه الرحالة الإنجليزي إلدون راتر الذي زار مكة متخفيا في سنة 1343هـ، وقدم أوصافا لحرمها ولجغرافيتها وسكانها، مدونا الكثير من التفاصيل المذهلة والتي عادة ما يهملها المؤرخ المحلي نظرا للطبيعة الدينية التي تحلت بها تلك المدونات التأريخية.

فها هو إلدون راتر يصف أمسية مكية عايشها إبان إقامته هناك بصحبة بعض الأهالي في أجياد المصافي . والمصافي عند الفاكهي هي الأصفى وهي بالدحضة، وتلك مواضع يجتمع فيها الماء في أيام الربيع والخريف.

يصف راتر شعب المصافي بأجياد بوصفه متنزها للمكيين في تلك العهود إذ كان – على حد وصفه – يضم حوضا يجري إليه نهير صغير من مياه الأمطار التي كانت عادة ما تهطل لأيام عدة، أو لأسابيع في أقصى الأحوال، مكونا بحيرة واسعة تتشوف إليها أنظار المكيين فتحلو «القيلة» وليالي السمر. وهنا يصفها راتر بقوله «ثم هبطنا منحدرا شديدا إلى أسفل الشعب. وهنا سحرنا المنظر النادر لنهير يترقرق، وكانت جماعات كثيرة من المكيين مشتتة على الصخور المسطحة في كل أرجاء المنخفض، معهم سماورات الشاي ويدخن بعض أفرادها الشيشة»، ثم مضى ليصف استئناس المكيين حول البحيرة بسماع فنون الغناء الشعبي، إذ راحوا يتراقصون ويتمايلون بتوافق مع الألحان العذبة، وتارة يشتركون في ضرب الكف بكورال جماعي.

وفي أوصاف الضرب الأخير من الغناء ما يجعلنا نعتقد أنه فن الصهبة المكية الذي لطالما صدحت بأدواره الحناجر في شعاب مكة وبراحها.

ولعل تلك الأنباء توحي لنا ببعض موشحات الصهبة التي يرثها المكيون جد عن جد:
جل الذي أنشأ الأفراح
وأنعم على الأفراح بالنور
أو الدور الآخر الجميل برائعة الشاعر المتصوف عبدالرحيم البرعي:
رعى اللَه الحِجاز وساكنيه
وأمطره العريض المرجحنا
وأخصب روضة ملئت وفاء
وَمرحمة وإحسانا وحسنـا

في هذا السياق نجد الأديب المكي، حسان جلالة الملك، أحمد غزاوي يعنون شذرته بـ «شلالات المصافي» في شذرات الذهب التي كانت تنشر على صفحات مجلة المنهل فيقول « كانت جبال أجياد العليا، تصب كلها في واد جبلي، تنحدر منه المياه.. متدرجة.. حتى تنتهي إلى مدرج عال يبلغ ارتفاعه أكثر من أربعة أمتار تقريبا، وهناك تتجمع وراءه مياه السهول والأمطار وما تنحدر به الجبال التي حوله، فتسمع له خريرا موسيقيا جميلا، وترى العين فيه اللجين الذائب المسكوب، ويلتف الناس حوله ومن أطرافه وجوانبه مبتهجين بمنظره الرائع وبإيقاعه الساحر، وهم يقصون أيام الدجن بألذ الأطعمة، وأشهاها، كالسلاة والمبشور والسليق».

كانت تلك بعض ملامح «مكة المفقودة»، كما كان يحلو للصديق الراحل عمر المضواحي ـ يرحمه الله ـ أن يصفها.

المصدر : صحيفة مكة 1437/9/9هـ بقلم : سلطان الطس .