الآن.. يا عمر!

 

كنت ألتقط ما تبقى من أنفاسي بعد صعود عدة أدوار في أحد مباني جدة القديمة.

سلمت على المسؤول الذي مد يده في فتور، وقدمني إلى شاب بجواره كنت قد قطعت عليهما حوارا بدا أنه كان ساخنا بعض الشيء: أكيد تعرفه، قلت منذ أيام فقط سعدت بمعرفته عبر مقاله الذي ترك صدى إلى اليوم عن الحجرة النبوية الشريفة. التفت إليه مثنيا فأغضى متمتما بكلمات تنم عن تواضع يبدو أنه جبل عليه.

مرت سنوات وسنوات، لم ألتق به فيها إلا من خلال الجميل الذي كان ينير به صفحات الجرائد التي ظل يتنقل فيها من واحدة إلى أخرى، باحثا عن موطئ قدم يمنحه ما لا يعيش إلا به من حرية وجرأة.

وظل اسمه مكان تقدير يزداد مع كل بارقة موضوع يثيره بأمانته وحماسه للآثار الإسلامية وخاصة آثار مكة المكرمة والمدينة المنورة. وكان من جميل وسائل التواصل الاجتماعي أن وضعتنا في مجال نتحاور فيه.. نختلف ونتفق، يؤلف بيننا قناعة بالمبدأ ومحاولة للوصول. كان هو الأسبق إلى الجديد مما يسر أو يكدر عن تلك الآثار التي ما فتئ البعض ينالها بالإهمال ويتهم المدافعين عنها بما هم أبعد الناس عنه. ولعل أبرع صفاته كانت الإصرار، وهو إصرار من صنف حميد يتسلل في ثقة ليجمع ما أمكن من معلومات يتأكد بها من صحة موقفه وصلابة حجته. وما إن يكون له ذلك حتى يرفع الصوت بسكينة في كل محفل يمكن أن يكون له عونا في قضيته.

تحدث طويلا وبألم عن مقال نشر في مجلة لجهة رسمية عبث فيه كاتبه بكثير من الثوابت، ضاربا عرض كل حائط بكل رأي يخالفه، مستندا إلى ركن شديد. وفزع وهو يرى ذلك الإسفاف يتحول إلى قناعة لدى البعض، معرضين عن الكاتب وما كتب علانية، ومتعاطفين إلى حد كبير معه في السر. ولسوء حظه فقد تلقفت إحدى الصحف الأجنبية بعض ما كتب وحورته لدرجة مشوهة استغله البعض مهربا من الموضوع الأساسي، بعدها بفترة كان الحديث عن طمس بعض الآيات في الرواق العثماني بالمسجد النبوي الشريف، ثم موقع المولد النبوي، وقفل الكعبة، والسدانة، وقصور العقيق، وبئر طوى ومسجد الحديبية، وبئر رومة. موضوعات يعمل فيها جهده بإخلاص مهني وحس إيماني لا ينفصلان في منهجه أبدا.

لا أنسى قوله حين عجبت من صبره على الحوار مع من لا أمل معهم «حقيقة أستمتع بهذا النوع من الطروحات، كونها رياضة عقلية، تفتح آفاقا جديدة لتوسيع مداركي وفهمي المحدود للأشياء. وأرجو أن يكون إيماني وعقلي وقلبي في المربع الصحيح دائما»!

اتصل بي وهو يستكمل موضوعه عن مسجد الحديبية، سائلا عن مصدر صورة نادرة كنت قد وضعتها في تغريدة، في دلالة على حرصه على الحق الأدبي للغير، فيما يضيع الغير حقه. وغني عن القول أنه لم يكن ليأنف من التراجع حين يبدو الحق في غير ما قال، ولعل موضوع ما تعرض له مسجد الفسح أوضح دليل. الجميل في أنه رغم صعوبة ما يتطرق له من موضوعات يكتب بلغة أدبية رائقة ينفي تميزها، زاعما أنها مجرد «روبابيكيا» صحفي!

تجادلنا عن فضل مكة المكرمة والمدينة المنورة. وأصر بيقين على ما يؤمن به من تفضيل مكة لحد يخرج فيه عن أسلوبه الرائع في الإنصات.

حين التقيت به قبل شهر في مناسبة زواج مكية في جدة أثرت الموضوع ممازحا، فأجابني بأن ذلك اليقين لديه إيماني، ولم يخفف من ذلك حتى قولي إن المدنيين يحبون مكة، والمكيين يحبون المدينة. لعل ذلك اللقاء كان الأطول به..

تحدثنا عن كثير من الشؤون، والشجون حاضرة. قال إن قائمة التحديات تطول دون أن يقصر منها شيء، لكن «طولة البال» هي السبيل. وتحدث عن موضوعات سماها في طريقها إلى النشر. كان تلك المرة أكثر تفاؤلا مني وثقة بأن بعض البوادر المؤملة بدأت تلوح حيال العناية بالآثار الإسلامية. وحين افترقنا شد على يدي يدعوني إلى منزله في اليوم التالي، واعتذرت بسبب السفر، مؤكدا أن فرصة كتلك لا تضيع.. وإلى حين ميسرة!

مع أذان الفجر في الرياض كنت أقرأ عن رحيله.. بكيت حتى اختلط الدمع بالماء وأنا أتوضأ فما أدري أيهما! وما تزال بقلبي عليه حسرتان، عني وعن تلك الآثار التي كان فتاها.

رحم الله السيد عمر المضواحي الذي لم أعرفه، كما ينبغي.. ورحمنا.

صحيفة مكة 1437/3/18هـ