عُمَر | حسين بافقيه

 

عرفت أخي الحبيب عمر بن محسن المضواحي – رحمه الله – منذ ثلاثين عامًا. كان يدرس في قسم الإعلام، بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وكنت أدرس في قسم اللغة العربية، ومنذ اتصلت أسبابي به، في النادي الأدبي الطلابي، ائتلف قلبانا، وأضمر كل منا لأخيه الحب والود والعطف والاحترام، وبينما مضى كل منا إلى دنياه، وتقطَّعت بيننا السبل، إذا بنا نلتقي في هذا الجمع أو ذاك، فيهش كلانا لصاحبه، وتظهر على وجهينا أمارات الفرح، ويتجدد ما بيننا من عهد، يفرح لما اخترته في طريقي الأدبي، وأفرح لنجاحه في بلاط صاحبة الجلالة، ويتفق أن ألتقيه، حينًا بعد حين، في هذا النادي أو ذاك، فيتجدد العهد به، ولا ألقاه إلا حبيبا حييًّا، يشملني بحبه وعطفه، ويكتفي كلانا بأن يطمئن على صاحبه، يفرح لي وأفرح له، ويعذر كل منا صاحبه، وأعرف أنا مقدار ما لي في نفسه، ويعرف هو مقدار ما له في نفسي.

كان عمر نقي القلب، شهما، أبيّا، شريف النفس، عف اللسان، وكان نمطا مختلفا من الصحفيين الذين عرفتهم، من ذلك النمط الصعب الذي لا نكاد نمسك به إلا في الآحاد من حملة الأقلام، تنقّل ما بين غير صحيفة ومجلة، وكان في كل عمل انتدب له، ذا رسالة، يعرف شرف المهنة التي أحبها وأخلص لها، وأعطى من نفسه فوق ما يستطيعه كل من كابد مهنة الصحافة، تجويدا وإتقانا وذكاء فيما يتخيره من موضوعات، يبصر في ظاهر الأشياء باطنها، ويفاجئ قارئه باتخاذه ناحية معتمة هامشية متنًا لموضوعه الصحفي، وأذكر أنني هاتفته غير مرة، في أثناء عمله في صحيفة الشرق الأوسط، لأبدي له إعجابي بموضوعاته التي يصنعها، وأسلوبه الصحفي البديع الذي ينتهجه، وقصصه الصحفية التي هي لا ريب عندي من الأدب الصحفي الراقي، وما كان لها أن تكون كذلك، لولا أن عمر المضواحي يعرف مواطن التأثير في الموضوع الذي يصنعه، فينشئ نصا صحفيا فريدا طريفا.

ولا زلت أذكر أنه انتدب مرة لنقل وقائع مؤتمر الحوار الوطني في المدينة المنورة، وكان ذلك في السنوات الأولى للمؤتمر، وكان من المتوقع أن ينقل عمر إلى قارئ صحيفته الشرق الأوسط تقارير مألوفة عن المؤتمر، لا يختلف فيها هذا الصحفي عن ذاك، لكن عمر، لأنه لم يكن كأنداده من الصحفيين، ترك «المتن» الذي يَرِده الجميع، وجعل يبحث في «الهامش»، كان يبحث عن قصة صحفية لا يلتفت إليها إلا من كان له حس إنساني رفيع، وإلا من كانت له ملكة في الصحافة قوية. غادر عمر الفندق، حيث يجتمع المؤتمرون، وأخذ يجول في الناحية المحيطة به، وحينئذ وجد موضوعه، ذلك الذي يناسب ما رُكِزَ في نفسه من انتصار للبسطاء، وما يلائم أسلوبه ومنهجه في الصحافة. رأى عمر على الرصيف المصاقب للفندق امرأة سعودية عجوزا تفترش الأرض، وتبيع البيض والأقط، راجية أن يحالفها الحظ فتحصل على ما يسدّ حاجتها وحاجة أبنائها. مال إليها عمر وأنشأ يسألها: هل تعرفين معنى كلمة «الحوار الوطني»؟ فأجابت: لا، ثم قالت: إنها لا تفهم ما الذي تعنيه هذه الموضوعات، وأن أولئك الناس لا يشترون منها البيض! وجعل يحاور تلك العجوز، وألَّف من أسئلته وأجوبتها قصة صحفية إنسانية، تتصل بحدث المؤتمر وروحه، ولا تتنكر للإنسانية التي انطوى عليها فؤاده، ولا سيما أن موضوع المؤتمر يمسّ حياة الناس، وحياة تلك المرأة العجوز التي كان كل همها أن تبيع شيئا لقاطني ذلك الفندق الفخم! وكانت تلك القصة الصحفية وسواها من الموضوعات التي تفنن فيها- نصوصا صحفية تقترن فيها الصحافة والأدب في قرن واحد، حتى لتُعَدّ من الأدب الصحفي الماتع المؤثر.

التقيتُ عمر قبل أسبوع من لحوقه بالرفيق الأعلى، في ندوة صحفية، أدارها بحنكة واقتدار، وكان، كعادته، رحمه الله، أنيق الملبس، حبيبا، قريبا إلى النفس، وقبيل اليوم الذي توفَّاه الله فيه، كان مؤملا أن نجتمع على شاطئ البحر، في جمع من الأصحاب، وما كان ليحك في الصدر أننا لن نلتقي، وما كنت لأحسب أنني سأصحو صباح يوم الأحد التاسع من شهر ربيع الأول، على خبر وفاته، ولكنه قدر الله، ولا رادَّ لقضائه.

صحيفة مكة 1437/3/15هـ | بقلم : حسين بافقيه .