عمر المضواحي .. تكريما لرحيله اقرؤوا حياته كـ «قصة صحافية»

في لقاء عابر بأحد مخضرمي الصحافة سألته كيف تميز الصحافي الحقيقي عن المزيف؟ أجاب ببداهة حاضرة، وببساطة معبرة، الحقيقي هو "من خدم الصحافة أكثر مما خدمته". أتأمل هذه العبارة المختصرة والعميقة مرة أخرى بعد الرحيل المفاجئ والمؤلم لعمر المضواحي. الصحافي الذي نذر حياته للمهنة التي أحبها، تماما كما نذرها للقضايا التي آمن بها. ليخدم مهنته بما أحب وفيما أحب. بعكس كثيرين يرون في هذه المهنة بابا واسعا للانتفاع الشخصي. سعيا وراء علاقات عابرة. أو منافع سريعة زائلة.

علاقة وجودية

هذا النوع من العلاقة بمهنة "المتاعب" كما يصفها الكثيرون. لا يكون إلا لمبدع كالمضواحي علاقته بهذه المهنة علاقة وجودية عميقة لا خدمية. فهو يجد نفسه في لغته وفي التعبير عن ذاته وهمومه، من خلال مواده أو معاركه الصحافية. تماما كما يجد راحة ظهوره وكامل أناقته في عمته الحجازية.

علاقة محبة وتورط عاطفي وعقلاني بالمهنة وبأدواتها. يدركها كل من قرأ للمضواحي المفتون بتراث مكة ومقدساتها بشكل خاص، والحجاز بشكل عام. لغة راقية لا تقف موقف الناقد فقط. بل تمتد للاحتفاء أيضا بكل ما من شأنه أن يخلق إحساسا روحانيا ذا أثر. تقتضيه مثل هذه المواضيع الصحافية. التي تميز بها بأسلوب شائق وسلس. مضيئا على مناطق بيئية وتراثية وثقافية ما كان لها أن تأخذ مكانها المناسب والملائم إجرائيا وجماهيريا وإعلاميا لولا إضاءات المضواحي وقصصه الصحافية.

مواهب المضواحي واهتماماته برزت أيضا في تناوله لنوع صحافي مهم ومحبب، يدعيه الكثيرون ويجيده القليل. فبينما تجد "القصة الصحافية" كثيرا من المصادر والشخصيات والمعلومات التي تتكئ عليها كمادة صحافية. يفتقر "البروفايل" أو "البورتريه" الشخصي غالبا إلى مثل هذا التمهيد والمعونة. فهنا لا مناص من لغة أدبية متمكنة ونظرة صحافية واجتماعية ثاقبة تستطيع قراءة ما بين سطور الشخصية المراد الكتابة عنها نفسيا وثقافيا. وهو ما برع المضواحي في تقديمه على طول مشواره الصحافي عن قناعة تامة في اختياره لشخصياته. ودون أدنى حاجة إلى المجاملة على حساب تاريخ طويل من الركض الصحافي الممتع والفريد من نوعه.

لسان الاستقالة

بنهاية أبريل 2007 كتب المضواحي مقالا مؤثرا. يعلن فيه استقالته ولأنه عاشق لأم المعارك (الصحافة) فإنه فضل أن يكون حديث الوداع على "لسان الاستقالة" (عنوان المقال) وليس على لسانه. فكان مميزا حتى في رحيله القسري آنذاك. الذي وصفه بالخيار الأخير. لتتحدث الاستقالة عن نفسها بنفسها وبلسان كل صحافي سعودي يخير كل نهاية يوم عمل (طبيعته أنه لا ينتهي) بين ما يحب وما يحتاج إليه.

تحدث المضواحي عن استقالة الصحافي بوصفها موتا وانتحارا. سيكشف له وعنه الكثير. فأصدقاء "الكرسي" سيرحلون تباعا. وأصدقاء صاحب الكرسي سيواسونه قليلا أو كثيرا لكنهم أيضا سيملون وسيرحلون. "فالحياة بك أو دونك ستستمر".

بعد سنوات من هذه الرسالة وبعد عودة متقطعة للركض الصحافي. ذكرته بها معجبا ومتسائلا هل ندمت على كتابتها. فكان جوابه لا أبدا إنما أحزنني فقط أنها قرئت كرسالة من صحافي محبط يائس، ولم تقرأ كـ "قصة صحافية".

حزن ينم عن عشق أبدي يجعله دائم الاستشراف لمستقبل الصحافة ومشاكلها. ففي حديث عام جمع ثلة من الصحافيين الشباب تحدث المضواحي بحرقة عن سطوة الرأي وكتابه على صفحات بعض الصحف السعودية. مع ندرة في الجيد من الصحافيين والمواد الصحافية. مفارقة لا يدركها الكثير وقد تغيب عن بعض من يعملون داخل أروقة الصحافة فلا يعيرونها أي اهتمام طالما هم راضون عن مستوى المقروئية بشكل عام. ولكنها لا تغيب فقط. بل تحزن من رهن حياته وجهده لهذه المهنة، مدركا الخطورة القادمة من تآكل العمل الصحافي المؤسسي لمصلحة الرأي الفردي الخاص.

قصة تروى

سيد البروفايلات المميزة والقصص الراسخة لم يكتف بتاريخ من العطاء الورقي فحضر مدونا (مدونة روبابيكا صحافي) عند انطلاق التدوين. ثم مغردا بتدويناته المصغرة منذ بدايات "تويتر" في السعودية. دون أن يتنازل عن مهنيته. ودون أن يأخذ بهذه الأدوات الحديثة كما أخذ بها البعض على حساب لغته وطبيعة تعاطيه مع الآخرين. فتعامل معها بإجادة وذكاء ليضيف إلى قائمة محبيه في الواقع الكثير من محبي الافتراض. من الذين أعجبوا بطرحه متفاعلين ومشاركين معه في قضايا مهمة كان يثيرها بكثير من الدراية والمعرفة. وهؤلاء الشباب أنفسهم من يدعون له اليوم بالرحمة، وبشيء من التقدير والتكريم، الشعبي والرسمي، حفظا لاسمه ولذكره الذي حفظ لنا الكثير والكثير.

الراحل عمر المضواحي تنقل في عمله بين أكثر من منصب، في أكثر من صحيفة ومجلة، حيث عمل في مجلتي "اقرأ"، و"المجلة"، ومراسلا صحافيا لصحيفة "المسلمون"، ثم عمل مديرا لمكتب صحيفة "الشرق الأوسط" في مدينة جدة، ثم شغل منصب مساعد رئيس تحرير صحيفة "الوطن"، وأخيرا تفرغ للعمل في صحيفة "مكة" ككاتب للقصة الصحافية حتى وافته المنية. كان المضواحي قد درس في ثانوية العزيزية بمكة المكرمة، وتخرج في كلية الإعلام جامعة الملك عبد العزيز.

ويبقى أن رجلا أفنى عمره، خدمة لما أحب، مقدما لوطنه ومواطنيه من خلال هذا الحب الكثير، جدير بأن تقرأ حياته وأعماله، ويحفظ عن ظهر قلب، وعن وجه أمل وحب. كقصة تفان ونجاح، صحافية وشخصية، تروى بكل فخر لأجيال قادمة. رحم الله الفقيد رحمة واسعة.

الاقتصادية 1437/3/12هـ