تعديات مكة.. تلتهم السدود الأموية

يدثر سد أموي يعود إلى القرن الأول الهجري تحت تعديات في حي الغسالة شرق مكة المكرمة على طريق السيل الكبير المؤدي جنوبا إلى الطائف، ولم يتبق منه إلا أجزاء يسيرة يمكن مشاهدتها الآن وهي تئن تحت أساسات مبان سكنية متعددة الطوابق.


ويكشف أستاذ الجغرافيا في جامعة أم القرى سابقا الدكتور معراج بن نواب مرزا، عن بقايا هذا السد الأثري الذي يعرف بسد »الثقبة«، وأن خالد بن عبدالله القسري والي مكة المكرمة (بين عامي 86 هـ ـ 105هـ ) أنشأه في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك بن مروان.

مبادرة معاد


رافقت «مكة» مرزا وفريق من مبادرة «معاد» لتعزيز الهوية المكيّة يتقدمهم رئيسها الدكتور فائز صالح جمال، في جولة ميدانية استمرت 5 ساعات صباح الأربعاء الماضي (19 نوفمبر 2014م) بعد جولة توثيقية سابقة مع فريق علمي من معهد أبحاث الحج والعمرة ومبادرة «معاد» لتعزيز الهوية المكيّة يتقدمهم رئيس المبادرة الدكاترة فايز صالح جمال ومحمد إدريس وكيل المعهد للدراسات، وعدنان الحارثي أستاذ التاريخ الحضاري في جامعة أم القرى، للوقوف على بقايا السدّ الذي أنشئت على أطراف حجارته مبان سكنية حديثة، بعد كسره وإقامة طريق رئيس للسيارات يخترق الحيّ شمالا وجنوبا.

ويوضح مرزا: أن سدّ الثقبة الذي شيد من حجارة ضخمة يقع على مفيض شعب من الجهة الشمالية تحت جبل ثبير غيناء، بامتداد يصل إلى 250 مترا وعرض مترين تقريبا، وهو أحد سدّين أمويين كانا طوال أكثر من 1300 عام يحجزان سيول الأمطار وفيضانها على صدر وادي إبراهيم، حماية لبيت الله الحرام الذي يبعد نحو 10 كلم عن موقعهما.


سدّ ضائع!ويتابع: أما السدّ الآخر فكان يقع عند نهاية شعب في الجهة الشمالية الشرقية للجبل الضخم، قبل أن يندثر ويضيع أثره للأبد وسط تمدد الأحياء السكنية في تلك المنطقة، مشيرا إلى أن السدّ الثاني ضاع أثره الآن بعد تعديات مماثلة.

ويؤكد أنه كان في ناحية مقابلة وموازٍية لموقع بقايا سدّ الثقبة الحالي تحت جبل ثبير غيناء، وأنه ربما يكون آخر من شاهد بقاياه قبل أكثر من 30 سنة، والتقط صورا فوتوجرافية له يحتفظ بها في مجموعته الخاصة.

كتب التاريخ
وأوردت كتب تاريخ مكة، أن خالد القسري أقام بركة لحبس الماء في موقع خلف سدّ الثقبة وأجرى منها عينا إلى الحرم المكي لتصب في نافورة مياه ما بين بئر زمزم ومقام إبراهيم عليه السلام داخل المسجد الحرام.لكن لم يشاهد أي أثر لهذه البركة خلال الجولة الميدانية.

ويقول مرزا وهو أستاذ زائر بمركز التحليلات الجغرافية في جامعة هارفارد الأمريكية حاليا: عرفت دولة الخلافة الأموية منذ تولي معاوية بن أبي سفيان مقاليد الخلافة عام 58 هـ باهتمامها بإنشاء السدود والقنوات المائية في الجزيرة العربية، وخاصة في الطائف وطريق الهجرة وصولا إلى المدينة المنورة.

هيئة الآثار


وأقامت الدولة الأموية 5 سدود في مكة المكرمة لحماية المسجد الحرام والمشاعر المقدسة من فيضان السيول في مواسم الأمطار.


اثنان على يد خالد القسري وقبله ثلاثة سدود على مفيض جبال مشعري منى ومزدلفة على يد الحجاج بن يوسف الثقفي بين عامي ( 73 هـ ـ 75 هـ) أثناء ولايته على مكة في زمن خلافة الوليد بن عبدالملك.

ويشر مرزا إلى حماية سدين اثنين فقط من السدود الأموية الخمسة بعد تدخل هيئة السياحة والآثار وفرض سياج حديدي حول بقاياهما القائمة حاليا، واحد في مزدلفة والثاني مقابل له في مشعر منى، ضاما صوته إلى مبادرة «معاد» التي تطالب بالحفاظ على هذا الموقع الأثري.

أمل كبير
من جانبه، يقول جمال لـ»مكة»: الأمل كبير في سرعة تدخل هيئة السياحة والآثار لإنقاذ ما تبقى من سدّ الثقبة في حي الغسالة، أسوة بما قامت به مشكورة في سدّي الحجاج بن يوسف الثقفي في مزدلفة والمعيصم، والعمل على ابتكار طرق للاستفادة منها كمواقع أثرية تعكس جانبا مهما من تاريخ وهوية مكة المكرمة.

توثيق السد
وقال مصدر رفيع في أمانة العاصمة المقدسة لصحيفة مكة إنه إذا تم توثيق موقع سدّ الثقبة الأموي ورفع إحداثياته، فإن أمانة العاصمة ستسهم بالتعاون مع هيئة السياحة والآثار بحماية السدّ كموقع أثري مهم.

وبالمشاهدة لا يمكن حاليا معرفة ارتفاع حائط السدّ الحجري بفعل الطمر والإهمال الذي تعرض له طوال السنوات الماضية بعد كسره.
وتظهر بقاياه حاليا تحت حدود تلال جبلية في أقصى شمال قطعتي أرض واسعة ومسورة بحوائط مرتفعة وذات نمط متشابه ولكل قطعة أرض باب رئيس مفتوح على ضفتي الطريق المؤدي إلى عمق الحيّ السكني.

كما يوجد طريق فرعي صغير وقصير خلف حمى السد ينتهي شرقا بمبنى سكني حديث، وفي الجهة الغربية خلف السد أقيمت ملاحق مخصصة لمحلات ومستودعات تجارية، وتبدو أجزاء كثيرة من حجارته ساقطة تحت بقايا السد بعد كسره، تغمرها نفايات وبقايا مواد بناء وأخشاب وحديد ومخلفات سكان الحيّ.

سد الحجاج الثقفي

ضاع سدّ الحجاج الثاني، وفقد أثره بعد أن تمت إزالته لإنشاء مباني مجازر المعيصم الآلية للمواشي في مشعر منى، ولم يبق له أي أثر اليوم.

فيما تبدو بقايا سد الحَجّاج الثالث أفضل حالا من سابقه، وهو يقع شرق مباني المجازر تحت جبل الأحدب (ثبير النصع) وهو مبني من حجارة ضخمة، يبلغ عرضه عند قمته نحو أربعة أمتار تقريبا، ويخضع أيضاً لحماية هيئة السياحة والآثار كموقع أثري دون الإشارة ـ كسابقه ـ إلى أي معلومات عن السدين في لوحتي الهيئة المقامة عندها.

وتجري تحت السدّ اليوم قناة خرسانية واسعة لمشروع تصريف أمطار السيول مما يدل على أهمية هذه السدود الأموية في منع فيضان سيول الأمطار وحماية مواسم الحج من أخطارها على مخيمات الحجاج ولسلامة ضيوف الرحمن في منى ومزدلفة طوال العصور الماضية.

سد أوثال

قبل وصولنا إلى جسر الملك خالد بن عبدالعزيز في مشعر منى نبه مرزا إلى تباين منسوب الطريق وبدا محدودب الشكل فيما يعرف جغرافيا بخط تقسيم الماء، بحيث يصب جزء من السيل غربا في صدر وادي إبراهيم، فيما يصب الجزء الآخر وينساب في صدر وادي محسر إلى مزدلفة شرقا.

ويقع أول السدود الأموية الثلاثة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي في المزدلفة تحت أعالي سلسلة جبال مشرفة على وادي محسر عند حدود مشعر مزدلفة، والتي تفيض سيولها على وادي «الصدر» وهو رافد رئيس لوادي إبراهيم.

ويمكن مشاهدة السدّ المعروف بسدّ أوثال على يمين الصاعد إلى مشعر مزدلفة تحت أحد مخازن المياه الاستراتيجية في مكة (يتسع لنحو مليون متر مكعب ويكفي لسقاية أهل مكة لخمسة أيام كاملة)، ومسور بأسلاك وقضبان حديدية وضعتها هيئة السياحة والآثار حول السدّ كموقع أثري.

وتنشط حوله الآن عمليات إزالة واسعة وقص لسفوح الجبال المحيطة لإنشاء مسطحات ضخمة تخصص كمواقف للحافلات في مواسم الحج المقبلة.

وبحسب كتاب السدود الأثرية بالجزيرة العربية من تأليف الدكتور ناصر الحارثي، رحمه الله، فإن هذا السدّ يعرف بـ «سدّ أوثال» وهو من السدود الثلاثة في مكة المكرمة التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ( 73 ــ 74هـ) في شمال المعيصم على طريق وادي العسيلة، ويصل طوله إلى حوالي 140 مترا، وعرضه عند القمة 6 أمتار وواجهته مدرجة، وجدار السد مقسم إلى خمس طبقات، ويشاهد على واجهة السدين الآخرين على يسار القادم من مكة كتابات إسلامية منقوشة على صخور السدين تعود للعصر الأموي.

سد الملك عبدالعزيز التاريخي في وادي جليل يكسر لإنشاء طريق

يبدو أن مواقع السدود الأموية الثلاثة الباقية في مكة ربما أفضل حالا من مصير السدّ التاريخي الذي جدد بناؤه بالخرسانة المسلحة في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، حيث باشرت أمانة العاصمة المقدسة بكسر أحد شقي السدّ لتوسعة طريق محليّ قديم، وإنشاء طريق واسع ضمن شبكة طرق الدائري الثالث الذي يربط نهاية شارع الجزائر (اللصوص سابقا) في حي العتيبية بالقرب من مخطط دغش القحطاني ليكون موازيا من الجهة الغربية لشارع الحج ويخترق واد جليل وصولا إلى جهة أسواق الدواس شرقا.

ويشهد هذا الوادي التاريخي المعروف باسم وادي جليل الذي عبر منه النبي محمد صلى الله عليه وسلم خلال فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، مصاعب جمة خلال مواسم الأمطار كونه واديا منخفضا تتجمع فيه كميات كبيرة من مياه السيول، وتبدو آثار أمطار الأسبوع الماضي واضحة في عين المكان الذي تجري فيه ورشة عمل ضخمة لاستكمال المشاريع المقررة لهذه المنطقة.

وقال مصدر رفيع في أمانة العاصمة لـ «مكة» إن العمليات الإنشائية قائمة على قدم وساق لاستكمال إنشاء طريق يخدم مشروع شبكة طرق الدائري الثالث في مكة المكرمة في الموقع بعد انتفاء الحاجة للسدّ القديم، مشيرا إلى قيام أمانة العاصمة بتنفيذ مشروع تصريف مياه الأمطار والسيول تحت الأرض خلال عبارة خرسانية جديدة تمتد تحت مجرى السيول المنقولة والآتية من سدّ «الهميجة» الذي حُولت سيول المعيصم إليه، لتنتهي العبارة الجديدة لتصريف المياه من جهة حيّ النواريّة في شمال مكة على طريق الهجرة إلى المدينة المنورة.
وبالمشاهدة خلف بقايا الجانب الجنوبي من السد ترتفع عدة أعمدة خرسانية شاهقة على جانب واحد من الطريق، فيما يبدو أنها كانت لمخطط سابق إنشاء جسر عال يمر فوق السدّ القديم، قبل تعديل خطط المشروع وإقرار التخلص من السدّ لتنفيذ الطريق الذي سيساهم (رغم وقوعه في بطن الوادي) في تسهيل الحركة المرورية، خصوصا في مواسم الحج المزدحمة.

وقال رئيس مبادرة «معاد» لتعزيز الهوية المكيّة الدكتور فايز صالح جمال إنه تم إبلاغ المسؤولين في أمانة العاصمة المقدسة، بضرورة استحضار أهمية أي موقع تاريخي في مكة عند تقاطعه مع أي مشروع للتطوير، وتوفير البدائل الهندسية الممكنة التي تنفذ مشروع الطريق الدائري الثالث مع الحفاظ وبقاء المواقع النبوية والتاريخية فيها.

ونبه إلى أن مشروعات وادي جليل الذي يعد أحد فروع وادي فخّ الكبير كان ينبغي عليها مراعاة تاريخية الموقع، والمحافظة على جزء أصيل من المسار النبوي في فتح مكة، إلى جانب أنه كان من الممكن معالجة وضع الطريق الجديد بشكل يحافظ على جسم السد التاريخي الذي يرتفع نحو 10 أمتار تقريبا وبعرض يتجاوز 300 متر تقريبا خلال فتح عبارات على شكل أقواس كافية لمرور السيارات في الطريق الجديد مع الحفاظ على شكل السدّ وإنشاء مركز ثقافي على أحد جوانبه، بدلا من كسره وإزالة نصفه وبقاء النصف الآخر مشوها كما هو الوضع القائم الآن.

وكان السدّ التاريخي الذي يعرف محليا باسم سدّ «لقيطة» محل جدل وشد وجذب بين أهالي الأحياء المجاورة والجهات المختصة، في أهمية بقائه بعد مزاعم بعدم الاستفادة منه، وطالب بعض الأهالي فرع وزارة النقل في مكة وأمانة العاصمة المقدسة بضرورة إزالة السدّ القديم لتنفيذ الطريق الحيوي الذي سيسهم في تحرير الحركة المرورية في شارع الحج أحد أكبر وأهم الطرق الدائرية في العاصمة المقدسة بعد تنفيذ مشروع سد وادي لقيطة الجديد، وهو ما بدأ العمل به فعليا خلال جولة صحيفة «مكة» ظهر يوم الأربعاء الماضي.

المصدر : صحيفة مكة 1436/2/4هـ - عمر المضواحي