المُدّعَى إحياء مسار سوق الألف عام في مكة النبوية

يوما بعد آخر، يتفاءل أهالي مكة المكرمة ومجاورو البيت العتيق بأن تعود روح الهوية المكيّة إلى التصاميم العملاقة لمشروع توسعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للمسجد الحرام وتطوير الساحات والمناطق المحيطة بها. إنهم يأملون وسط ورش العمل الضخمة الآن، بأن تعود مكة التي يعرفونها بتفاصيلها الروحانية البسيطة، وتنكب مسارات الدروب النبوية التي تقودهم في لحظات الطهر والتجلي إلى حمى البيت العتيق للطواف والصلاة في أروقته حول جنبات الكعبة المشرفة.


مع ظهور أول صور مخططات تطوير الساحات الشمالية للمسجد الحرام، وبدء آليات الإزالة تمهيدا للإنشاءات الضخمة الجديدة، من مصطبات للخدمات العامة، ومحطات لوسائل النقل المختلفة، ومحاور للطرق الدائرية، قبض المكيون على قلوبهم أسى على ما فات، وأصابتهم الخشية من أن يفوت على مهندسي التصميم في الشركة المشرفة على تنفيذ المشاريع، العناية والاهتمام على الأقل بالحفاظ على تاريخية المسارات النبوية المؤدية إلى المسجد الحرام، والمعالم والمساجد النبوية المحفوظة طوال التاريخ الإسلامي على جانبي ونواصي هذه المسارات النبوية.


وكشفت هذه الخرائط والتصميمات الأولية المنشورة، أن المهندسين والمصممين التزموا القاعدة الشهيرة في تصاميمهم للمشروع “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”، وهو ما دفع بمجموعة من أبناء مكة والمحبين لها إلى تأسيس مبادرة أهلية من أجل تقديم مجموعة من الأفكار لمشاريع تعزز الهوية المكية وتُعنى بالآثار والمعالم التاريخية. ومن هنا تبدأ القصة:


مبادرة معاد

تسابق مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية والعناية بالآثار والمعالم التاريخية لمكة المكرمة، الزمن للتواصل مع الجهات الحكومية الرسمية لإقرار أحد أهم مشاريعها؛ مسار “سوق المدعى” ضمن مخططات مشروع تطوير الساحات الشرقية للمسجد الحرام، التي أشرقت في عرصاتها وشعابها إرهاصات النبوة، وعاش فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو 53 عاما قبل هجرته إلى المدينة المنورة.

 

وتنشط مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية منذ إنشائها قبل نحو عامين في تصميم منصة مشاريع مدنية ومتنوعة تهدف إلى تقديم سلة حلول عملية وعلمية لحفظ المعالم النبوية والتاريخية في مكة من دون أن تتقاطع مع مخططات المشاريع القائمة، بل تسعى إلى التكامل معها، مع تحقيق هدفها ورؤيتها الرئيسة.


ويقول رئيس مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية الدكتور فائز صالح جمال: إن فكرة إحياء مسار سوق المدعى، الذي يعد أقدم أسواق مكة للوهلة الأولى شطحة خيال، ومع بدء الحديث عنها تحولت إلى حلم جميل ولكنه بدا بعيد المنال، وعندما تمت مناقشته وطرح بعض التفاصيل الموضوعية التي تؤكد الحاجة لإحيائه، على كبار المسؤولين في الجهات الحكومية والرسمية من جهة، والشركة المنفذة للمشروع من جهة أخرى، أصبح الحلم أقرب وأصبحت الفكرة ممكنة التحقيق. ولعل ذلك وبعد توفيق الله بسبب وجاهتها وعدم تعارضها مع أي من مشاريع التوسعة المباركة ولا أي من وظائفها، بل على العكس تعزّزها وتجوِّدها، وهي كلها بالمناسبة تخدم وتحقق أهداف المشروع الرائد (مشروع الملك عبدالله للعناية بالتراث الحضاري).


وأضاف: قوبلت جهود المبادرة بتفاعل ودعم وتشجيع كبير من كل الجهات الرسمية والأهلية، وعلى وجه أخص من إمارة منطقة مكة المكرمة، وأمانة العاصمة المقدسة، وهيئة تطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وهيئة السياحة والآثار، ومعهد أبحاث الحج والعمرة، والشركة المنفذة للمشروع. وطلبت كل هذه الجهات خلال لقاءات مشتركة أن تكون رؤية مبادرة معاد مرجعية مدنية لكل المشاريع التي تحتوي على آثار ومعالم في مكة والاستفادة من خبرات كوادرها المختلفة في هذا المجال الحيوي والمهم.


4 فوائد

وأكد الدكتور جمال أن إحياء مسار سوق المدعى، الذي تذكر مصادر تاريخية أنه يعود إلى ألف عام، يحقق 4 فوائد:

  • 1 الحفاظ على أحد مسارات النبوة وتعزيز الهوية المكية.
  • 2 المساهمة في إدارة وتنظيم حركة الحشود.
  • 3 توفير متطلبات تقديم الخدمات البلدية والصحية والأمنية لضيوف الرحمن.
  • 4 تحقيق مفهوم تبادل المنافع وتعزيز البعد الإنساني والتعارف بين المسلمين.

وأشار إلى سلة من القيم المضافة لهذا المشروع، وتكامله في شكل أصيل مع مشاريع التوسعة والتطوير، مشددا في قوله: إن مسار المدعى من الناحية التاريخية يمثل نهايات مسار الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام يوم الفتح الأعظم إلى المسجد الحرام. ويقع عليه موضع الغزّة حيث غزّ صلى الله عليه وسلم رايته يوم الفتح، وقريبا منه خاطب قريش بقولته الشهيرة: اذهبوا فأنتم الطلقاء.


وأضاف: كما أن المدعى من الناحية الاجتماعية تحتل جزءا مهما من ذاكرة أهالي مكة المكرمة فهي أقدم أسواقهم، وهي درب جنائزهم إلى جنة المعلاة أولى منازل آخرتهم، وكان يتفرع منها وقريبا منها إلى وقت قريب العديد من الأزقة العتيقة (الحجر وملائكة والبخارية) والأسواق التاريخية كالجودرية وسوق الليل والقشاشية، والمواقع الأثرية (مولد فاطمة وغزة الراية.. وغيرها).


درب الجنائز

ونبه الدكتور جمال إلى أن للمدعى جانبا مهما من الناحية الوظيفية، حيث كانت مسارا من مسارات المشاة من وإلى المسجد الحرام. وهي أقصر طريق ما بين المسجد الحرام ومقبرة المعلاة، فيما يعرف محليا بـ “درب الجنائز” وعلى جنباته وامتداده تنتشر المحلات ويجد الحجاج احتياجاتهم من مآكل ومشارب وملابس وكل شيء آخر. لذلك، الحاجة لإحياء مسار المدعى الآن وفي ظل تعاظم الحشود حول المسجد الحرام بسبب التوسعة الكبرى تصبح أكبر مما مضى. فالحشود القادمة لأداء الحج والعمرة والزيارة التي تقدر بالملايين كل عام بعد اكتمال مشروع التوسعة، لها احتياجات أولها سلامتها وانسيابية حركتها وثانيها الطعام والشراب والدواء واللباس.. الخ. ولتحقيق السلامة يقتضي توفير مسارات محددة تسهم في إدارة الحركة وخلخلة الكتل البشرية الضخمة وتحول دون تدفقها واصطدامها بأي عوائق ووقوع ما لا تحمد عقباه لا قدر الله.


وخلص الدكتور فايز جمال إلى القول: لكل ذلك ترى مبادرة معاد أن إحياء المدعى مرة أخرى سيوفر مسارا للحركة الآمنة، وراحة للحشود وآلية إدارتها تقتضي توفير مرافق خدمية عديدة كالخدمات البلدية والصحية والأمنية، وهذه الخدمات تحتاج لمقرات ومساحات لتقديم خدماتها فيها، وإحياء المدعى كسوق يمكن من توفير هذه الخدمات، وهذا النوع من الاحتياجات للتجمعات البشرية الكبيرة المنوعة من حيث الرجال والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى الذين تتنوع احتياجاتهم من الطعام والشراب والدواء والكساء، على جانبيه، وهو يحقق مفهوم تبادل المنافع الوارد في آية الأذان بالحج.


برقة: روحانية مكة

من جانبه أكد المستشار في مركز تعارف طرف الحديث الدكتور سمير برقة أن مبادرة معاد تستلهم أفكار مشاريعها الخاصة بالعناية بالآثار والمعالم التاريخية في العاصمة المقدسة من اللبنات الأساسية التي وضعها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله للبلد الأمين، واحترام خصوصية مكة المقدسة، حفاظا على هويتها، وخدمة للمسجد الحرام وقاصديه من ضيوف الرحمن، مشيرا إلى أنه ومنذ أن دخل الملك عبدالعزيز مكة وأقام الدولة اهتم رحمه الله بإقامة وأحياء الأسبلة التي تخدم حجاج بيت الله الحرام وأنشأ عين العزيزية للسقيا، وحافظ على معالم النبوة ممثلا ببيت النبوة، إذ وافق على جعله مكتبة عامة، والآخر بيت السيدة خديجة بنت خويلد وجعله مدرسة للقرآن الكريم، ووثقهما في المحكمة الشرعية الكبرى بصكوك وقفية، كما أقام في دار الأرقم مدرسة للتوحيد إحياء للآثار التي ارتبطت بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


وتابع: بفضل الله سار أبناؤه الملوك على هذا المنوال سواء في الحفاظ على الرواق القديم كما في عهد الملك فيصل أو قبر السيدة ميمونة بنت الحارث في عهد الملك خالد، ومعالم أخرى في عهد الملك فهد، حتى عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي دعا إلى المحافظة على الأجواء الروحانية لمكة المكرمة وحث على ترسيخها.
وأشار برقة وهو أحد الباحثين والمهتمين بالآثار والمعالم النبوية والتاريخية، إلى أن مبادرة معاد وضعت رؤية كاملة مزودة بالخرائط والتصاميم الهندسية المراعية لهوية العمارة المكية لمعظم المواقع في المسارات النبوية المباركة والمعروفة في مكة إلى اليوم، وأهمها مسار النبي صلى الله عليه وسلم وجيشه في فتح مكة في العام الثامن للهجرة وهو بطول 30 كلم تقريبا، حيث تتوزع على جنبات المسار العديد من المعالم النبوية والتاريخية في صدر الإسلام.


وأوضح أن مسار الفتح يبدأ من مسجد الفتح بالجموم (مرّ الظهران) قبر أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث (وادي سرف) مسجد أم المؤمنين السيدة عائشة (التنعيم) وموقع استشهاد الصحابي خباب بن عدي (التنعيم) وموقعة فخ (الشهداء) ثم بئر طوى (جرول) ومقبرة أم المؤمنين السيدة خديجة بالمعلاة (الحجون) ومساجد الجن والشجرة والراية، وموقع راية الزبير حامل لواء النبي في جيش الفتح، ثم موقع بيت أبي سفيان، وبيت أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد، وبيت النبوة (مكتبة مكة المكرمة) وشعب بني هاشم وصولا إلى باب السلام في المسجد الحرام.

 

وشدد على أن هذه المعالم التي ارتبطت بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تحتاج إلى إعادة إحياء لمواقع ومحافظة وتطوير لأخرى بما يتناسب مع تصاميم المشاريع الجديدة مع ما تشهده عمارة الحرم المكي الشريف وساحاته من تطوير وعناية من جهة، ومكانة السعودية العالمية والإسلامية من جهة أخرى.


الصيرفي: إحياء العمارة المكية

يؤكد رئيس فرع الجمعية السعودية لعلوم العمران في جدة المهندس أنس الصيرفي أن تحديد جميع الآثار والمعالم التاريخية في مكة المكرمة والعناية بها وحفظها لأجيال الأمة وتاريخها المجيد، ودون تأثير على الوظائف والخدمات التي يجب توفيرها لأهالي مكة وقاصديها، هو الغاية الأسمى لهذه المبادرة، مشيرا إلى أن المبادرة تهتم بدراسة التحولات العمرانية التي طرأت عبر الأزمنة الحديثة والمعاصرة على البيئة العمرانية لمكة المكرمة وتتبع حالة المواقع التاريخية والأثرية وما طرأ عليها من تغييرات من حيث الشكل والاستخدام وإحياء ما اعتراه الاندثار وإضفاء الصبغة والسمة التاريخية على ما شوه منها بعامل الزمن أو الإهمال في مبناه أو محيطه الخارجي مما أخرجه عن إطاره التاريخي والمكانة التاريخية اللائقة به واقتراح الحلول الكفيلة بإعادة إحيائها ودورها التاريخي في إكمال صورة مكة الروحانية والسعي لتخصيص حمى لكل أثر يكون متنفسا له، ويشكل نسيجا عمرانيا يوفر عددا من الأنشطة المتلازمة والمكملة له.


عبدالشكور: تأصيل الهوية

يشير الخبير الجغرافي في هيئة تطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة سابقا حسن عبدالشكور، إلى أن هناك حاجة لمثل ما ذكر من خدمات متكاملة حول الحرم المكي الشريف وليس في منطقة سوق المدعى فقط. ويؤكد أن مشروع إحياء المدعى هو الأول لتأصيل الهوية المكية وتحقيق التعارف الثقافي والحضاري بين أهل مكة وبقية جنسيات المسلمين قاصدي بيت الله العتيق.


نويلاتي: صحوة مباركة

يقول الباحث غسان نويلاتي الذي يدير المكتبة المكية للنشر في مكة إن مبادرة معاد في مشروعها لإحياء مسار الفتح ابتداء من نهايته الطرفية عند سوق المدعى تسعى لاستثمار الصحوة المباركة والاهتمام المتزايد الذي تعيشه البلاد والعالم الإسلامي من حولنا بالآثار بصفة عامه والمكية منها بصفة خاصة وما ارتبط منها بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم على وجه أخص وما نشهده اليوم من دعوات صريحة من عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء وتفقدهم لعدد من المواقع الأثرية وتأكيدهم على دورها في قراءة التاريخ وحفظه ودعوتهم إلى عدم العبث بها أو تشويهها. وكذلك جهود الهيئة العامة للسياحة والآثار بإطلاق العديد من المبادرات والبرامج للعناية بمواقع التاريخ الإسلامي خصوصا في المدينتين المقدستين وذلك لتأصيل منهج الاعتدال السعودي في هذا الشأن.

المصدر : عمر المضواحي / صحيفة مكة 1435/10/16هـ