مكة المكرمة عام 1297 هـ
ليست هناك صورة حبست لحظة "مكة المفقودة" أكثر مما فعلت هذه اللقطة البانورامية التاريخية التي تعد أول صورة موثقة للبلد الحرام والبيت العتيق، تم التقاطها قبل نحو 134 عاما من فوق جبل أبي قبيس، أقدم جبال الأرض، وشيخها الأمين.
بدا وادي إبراهيم المقدس، مزروعا بمساكن الأنس، ومرابع الإيمان، وينابيع الحياة اليومية.
تتدافع مناكب البيوت، وأعتاب عماراتها وكأنها في عبادة أبدية في أرض الصلاة. كلما دنت شرفاتها ونوافذها الملونة من الحمى الطاهر، تحولت إلى مهج جائعة تطلّ ببوح أفراحها في سكينة وطمأنينة رغم رهبة المقام المقدس.. كلّ الجبال والقلاع والمباني تنكس رؤوسها مهابة لسناء الكعبة المشرفة ومآذن البيت العتيق، في ميزان هندسي لا تخطئه عيون القلوب وأحاسيس البصر.
تفاصيل صغيرة، تتنفس من مسام أخشاب الأبواب والنوافذ والرواشين المزركشة، وشبابيك الأسطح بطين الآجور الملون، تبدو كأنها قُدت من روح واحدة. تتباين الأشكال والألوان والارتفاعات، لكنها جميعا تفيض بالروح والمهابة رغم الاحتشاد والتدافع. كل الطرقات تصافح المنازل والمرابع والأسواق، لكن وجهها يبقى ملتفتا دوما صوب القبلة.
لم تنس الطرق والأزقة أن وظيفتها الرئيسة ـ في البدء والنهاية ـ إغراء خطوات العابرين وأخذها في حنو ومودة إلى أماكنها المنتظرة في البيت العتيق.
الصورة البانورامية لم تحبس لحظة ضوء وظلّ وحركة فقط، بل أشرعت المجال واسعا لروح الهوية المكيّة، في مشهد منسوج بالأسرار والأسئلة المعلقة.
تزاورت عين الكاميرا، وهمّ في فجوة منها، عن صلوات وطواف وتراتيل خلف ستائر الظلّ، والأعمال بالنيّات، وأفسحت لنور الشمس وحدها ذات اليمين وذات الشمال لتنفخ الروّح في ذاكرة الأمكنة لتحكي ببساطة، عن أدق أسرار الهويّة المكية.
اليوم، مضى كل شيء إلى غايته. ولم يبق من صروف الدهر أي تفصيل حبسه الضوء سوى كعبة البيت العتيق.
في هذه الصورة البانورامية لسان فصيح؛ عن مكة المفقودة.. وهنا جانب من قصتها القديمة: بتكليف من السلطان العثماني عبدالحميد الثاني (1876 ـ 1909م) أرسل بعثة عسكرية مؤلفة من 6 ضباط يرأسهم “علي بك” قائمقام أركان حرب (وهو فوتوغرافي بـعساكر الشاهانة)، لرسم خريطة البقاع المقدسة في مكة والمشاعر والتقاط صور فوتوغرافية بها وبالطائف، ثم أخذ رسم للطريق الموصلة من مكة إلى المدينة المنورة.
قام علي بك (الأميرالاي لاحقا) وفريقه بالتقاط عدة صور لمكة المكرمة، من بينها هذه الصورة البانورامية التي تتكون من 8 لقطات، جمعت لاحقا في 4 لوحات، عليها 16 تعريفا بالمواضع، وتم الاحتفاظ بتلك اللوحات الأصلية في مكتبة جامعة إستانبول في تركيا، والتي تحتفظ منذ عام 1925م بمجموعة الصور الفوتوغرافية التي جمعها السلطان عبدالحميد الثاني خلال مدة حكمه من عام 1293هـ إلى 1327هـ، والتي يبلغ عددها 33350 صورة.
القدس الشريف
وبحسب الدكتور صالح الحويس، فإن أقدم مدينة إسلامية صورت فوتوغرافيا هي القدس الشريف بعد ثلاثة أشهر فقط من اختراع الكاميرا عام 1839 نقلا عن السيد هشام الخطيب المقدسي، أحد المتخصصين بصور القدس وخرائطها المقيم حاليا في الأردن.
وتعد هذه الصورة، من بين أول صور معروفة لمكة المكرمة والمسجد الحرام، (بالتزامن مع صور الضابط المصري محمد صادق بك، خلال رحلته للحج عام 1297هـ / 1880م) بعد ظهور الأفلام الجافة (سابقة التحضير) قبل مدة قصيرة من تاريخ التقاطها. وهو ما يفسر، (بحسب مؤلفي كتاب الأطلس المصور لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة د. معراج مرزا ود. عبدالله الشاووش)، مسارعة الدولة العثمانية في إسطنبول والقاهرة بإرسال مصورين إلى الديار المقدسة لالتقاط أول صور فعليّة ثابتة لها.
وخلال بحث وتدقيق ومقارنة المعلومات حول الصورة، تبين أن اللبس الذي وافق تعدد روايات الأسبقية في جمعها، ظهر أنه رافقه حسن ظن من الجميع، بهدف خدمة ذاكرة مكة المفقودة. وتعامل معها كل مهتم بها بطريقته العلمية الخاصة.
الحويس: حبّ مكة دفعني لتوثيقها
في عام 1414 زار أستاذ الفقه المساعد في جامعة أم القرى الدكتور صالح بن سليمان الحويس منزل أستاذه (التركيّ) الدكتور سعد الدين أونال في مكة.
خلال الزيارة، اطلع على مجموعة قديمة من الصور التاريخية التي تعود إلى زمن الدولة العثمانية.
ويقول: رأيت للمرة الأولى هذه الصورة من مجموعة تقترب من 20 صورة على ما أذكر لمكة المكرمة، منها صورتان بانورامية واحدة لمكة المكرمة والثانية للمدينة المنورة.
وأخبرني أونال أنه حصل عليها من مكتبة جامعة إسطنبول، وأن جامعة أم القرى حصلت على نسخة مثلها عن طريقه أيضا، وقبل انتهاء عقده مع جامعة أم القرى”.
بعد سنتين، وفي صيف 1416، سافر الحويس إلى تركيا في زيارة عمل.
لم ينس الصورة، وحرص على الذهاب إلى مكتبة جامعة إسطنبول للحصول على نسخة خاصة به.
ولا يزال يتذكر تفاصيل عمله في توثيق أشهر المواضع التي ظهرت في اللوحات الأربع، وكيف قرر جمعها لتكون في صورة واحدة.
ويقول: بعد عودتي، استعنت بأحد أصدقائي المهتمين بالتصوير لأستفسر منه عن طريقة فنية تمكن من جمع لوحات الصور الأربع. ووجدت ضالتي عن طريق فني متخصص من الفلبين يعمل في جدة. قام الأخير بجمعها بعد أن أزال الفوارق وطابق أجزاء الصور عبر برامج الحاسب الآلي، لتبدو في صورة بانورامية واحدة.
حب وتوثيق
خلال عدة لقاءات لـ «مكة» مع الحويس، بدا جليا اهتمامه بتوثيق المواضع التاريخية في مكة، نظراً لتخصصه في عقود الحكر في الفقه الإسلامي الذي كان عنوانا لأطروحته العلمية للحصول على درجة الدكتوراه 1428 بتقدير ممتاز مع التوصية بطبع رسالته. كما أن عمله لاحقا كمستشار شرعي غير متفرغ بإدارة أوقاف عين زبيدة وآبار الطائف في مكة المكرمة لمدة أربع سنوات من منتصف 1430، يؤكد حرصه على تتبع الصور التاريخية لمكة المكرمة وتوثيق الصكوك الوقفية وحجج الاستحكام التي تعود ملكيتها إلى أوقاف عين زبيدة وإثبات حدودها من خلال الصور الفوتوجرافية.
86 موضعا
ويؤكد الحويس أنه اعتمد في توثيق معظم المواضع التي رصدها (86 موضعا) في الصورة عن طريق تتبعه للتاريخ الشفوي عبر أهالي مكة المكرمة، كونه عضوا مشاركا متعاونا في مسح مصادر تاريخ المملكة العربية السعودية الشفوي الذي ترعاه دارة الملك عبدالعزيز واستمر في عضويته لمدة ثلاث سنوات.
ويتابع الحويس: قمت بمقابلة بعض كبار السن من المكيين ممن يتحقق فيهم شرط الضبط والحفظ ومن أبرزهم السيد طاهر بغدادي شيخ طائفة دلالي العقار في مكة المكرمة سابقا، والسيد صادق أبوعرب رجل الأعمال المعروف، الذي تحققت وتأكدت منهم على معلومات توثق عددا من المواضع الظاهرة في الصورة.
المصدر: صحيفة مكة - عمر المضواحي
0 تعليقات