موقع المولد النبوي .. أبراج و سكن فاخر لأئمة الحرم

تكشف صحيفة “مكة” أول مخطط هندسي يوضح مآل مبنى مكتبة مكة المكرمة التي تضم موقع “المولد النبوي الشريف” ضمن مشروع تطوير المنطقة الشرقية للمسجد الحرام والذي يشمل منطقة شعب بني هاشم أقدم وأهم الأمكنة التاريخية في مكة المكرمة، والذي يضم أيضا مرابع ولادة ونشأة وحياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خلال 53 عاما قبل هجرته إلى المدينة المنورة


ويستند المخطط الهندسي الذي أعده خبراء ومختصون في مكاتب “دار الهندسة” الشهيرة لمنطقة التطوير التي تشمل كل ما هو داخل الدائري الأول في منطقة شعب بني هاشم، على جعل مبنى رئاسة الحرمين الشريفين الضخم نقطة ارتكاز رئيسة للتصميم الهندسي للموقع.


ويظهر مبنى الرئاسة مكونا من أربعة أبراج ضخمة للمكاتب الإدارية، وسيخصص أحد الأبراج كأجنحة سكنية فاخرة لأئمة وخطباء المسجد الحرام، تليه مصطبات متدرّجة بحسب منسوب قص جبل خندمة لتتصل بأربعة جسور تمتد إلى الساحة الشمالية للمسجد الحرام، وتنتهي بمبان مربعة الشكل دون أي تفاصيل تذكر على شكل التصميم النهائي لهذه المباني الأربعة، خصوصا المربع الأول الخاص بموقع المولد النبوي الشريف، والمحاط بسرية تامة لدى مقاول تنفيذ مشروع التوسعة والتطوير.

تمويه واحتراز

وبقراءة سريعة للمخطط الهندسي يتضح اعتماد مهندسي التصميم على عنصر التمويّه والاحتراز، نظرا لاعتماده على وضع أربعة مبان متشابهة ومتجانسة التصميم والشكل والحجم، ما يلبي الرؤية التي تحرص على تذويب خصوصية ورمزية موقع المولد النبوي الشريف الثابت تاريخيا بالتواتر العلمي والمحلي طوال أكثر من 14 قرنا من الزمان


كما يعكس التصميم النهائي حجم التجاذبات التي شهدها الموقع مؤخرا، بين إثبات علماء مكة وأهلها للموقع والإنكار الحازم لثبوت الموقع قطعيا


كما تشير إلى ذلك صراحة لوحة عملاقة تتوسد الجدار الغربي على يمين بوابة مبنى المكتبة الحالي، وضعتها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بست لغات عالمية إلى جانب اللغة العربية، علاوة على شاشتين الكترونيتين تعلوان جانبي بوابة المبنى الرئيسية لتنبيه كل زائر للموقع وبلغته الأصلية بعدم ثبوت وصحة تعيين مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم!التصميم الأخير لموقع المولد النبوي في مكة المكرمة، يبدو أنه حظي بموافقة المؤسسات الدينية الرسمية ومن بينها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي التي تشرف على توسعة الحرم المكي الشريف وكافة المشاريع المرتبطة به

24 شهرا

وعلى الرغم من أنه لم ترشح أي معلومة رسمية عن موعد الشروع في تنفيذ وبناء مكتبة مكة المكرمة (موقع المولد الشريف) في مكانها المحدد والمشهور، إلا أن التقديرات الأولية للجدول الزمني للمشروع، بناء على أعمال الإزالة وتهيئة المواقع المحيطة به على أرض الواقع حاليا، تفيد بأن الشروع في تنفيذ أعمال الإنشاءات لن يتجاوز 24 شهرا المقبلة، ما لم يطرأ أي تغيير محتمل


وكان موقع مكتبة مكة المكرمة وما حوله، مخصصا قبل نحو عقد من الزمن تقريبا ليكون مكانه وقف الملك عبدالعزيز رقم 2، قبل أن تتغير خطط المشروع بناء على التوسعة الجديدة للمسجد الحرام التي شرف بتنفيذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، لتكون أكبر توسعة يشهدها بيت الله العتيق منذ إنشائه


ويقع مبنى مكتبة مكة المكرمة (المولد النبوي الشريف) في الجهة الشرقية للمسجد الحرام في شعب بني هاشم (حي سوق الليل) على مسافة لا تزيد عن 455 مترا أمام الميلين الأخضرين في مسعى الصفا والمروة


وهو مكون من طابقين تم تجديد طلائه مؤخرا بلون أصفر برتقالي، وطليت نوافذه باللون الأزرق


وهو المبنى الوحيد القائم حاليا، وهو خال من كل جوار إلا جوار مشعري الصفا والمروة، بعد أن أزيلت كل مباني الأحياء السكنية، والشعاب الجبلية المحيطة به من الخلف


المبنى الحالي ظل قائما طوال 65 عاما مضت
وتم البدء ببنائه في 1370 هجرية (1951) استجابة لأمر الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، ليكون مكتبة عامة تحمل اسم مكة المكرمة، وفي إحدى غرفه مكان ولدت فيه السيدة آمنة بنت وهب أم النبي محمد صلى الله عليه وسلم


وشرع في بنائه الشيخ عباس بن يوسف قطان أمين العاصمة المقدسة آنذاك وعلى نفقة شقيقته فاطمة قطان رحمهما الله، وصدر لاحقا صك شرعي للمبنى بعد انتهاء بنائه كوقف شرعي مشروط صادر عن المحكمة الكبرى في مكة المكرمة بتاريخ 25 جمادى الآخرة 1373 الموافق (1/3/1954) وبتوقيع وختم رئيس المحكمة الكبرى الشيخ عبدالله بن عمر بن دهيش رحمه الله أجازه بشروطه التي شملت “عدم تأجير مبنى الدار، ولا تباع، ولا توهب، ولا يستبدل بها، بل تبقى قائمة على أصولها”


كما اشترط أن الكتب التي فيها لا تخرج منها، واشترط عدم الاستغلال حاضرا، ومستقبلا إذا اندثر البناء في غير ما منح من أجله، ولا من ورثته، ولا أي أحد”.

 

أبو سليمان: مسقط رأس النبي ثابت ومتطابقبالتواتر العلمي والمحلي

يعد عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان، أشهر من عمل على تاريخ مكتبة مكة المكرمة (المولد النبوي الشريف)


فقد خصص لها وعنها سلسلة كتب ودراسات موثقة لعل أشهرها كتابه الشهير «مكتبة مكة المكرمة - دراسة موجزة لموقعها وأدواتها ومجموعاتها» في 1416، بعد نحو 20 عاما من البحث والدراسة والتحقيق عن كل ما يتعلق بتاريخ موقعها، وما تحتويه من مكتبات ومجموعات وكنوز معرفية وعلمية متنوعة


وقد تولت إصدار الكتاب في طبعته الأولى والثانية مكتبة الملك فهد الوطنية 2012


وكتب الشيخ أبو سليمان يقول: تقع مكتبة مكة المكرمة (المولد النبوي) الشريف في الجهة الشرقية للمسجد الحرام في شعب بني هاشم (حي سوق الليل) من أشهر الأحياء التاريخية القديمة بمكة المكرمة، وعلى مرّ السنين والقرون ازدحم هذا الحيّ التاريخي بالأحداث العظيمة ذات العلاقة بالدعوة الإسلامية منذ فجر الإسلام


كان لهذا الشعب شأن كبير قبل الإسلام وبعده، ومن أهم الأحداث التي عاصرها هذا الحي ولادة نبي الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وحصار قريش لبني هاشم، وغيرها من الأحداث المهمة في تاريخ أمة الإسلام، وجهادها


ويؤكد المؤلف أن مكتبة مكة المكرمة هي مسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي في الأساس منزل والده صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عبدالمطلب في شعب بني هاشم، حيث اختصت قبيلة بني هاشم بالإقامة في هذه الجهة، شرقي المسجد الحرام


وختم الفصل الأول في كتابه بقوله: تنامى حي شعب بني هاشم (شعب علي) على مر القرون فاكتظ بالسكان والمنازل وهو من أحياء مكة المكرمة المفضلة للإقامة به من أهلها، ولمجاورين لها، والمهاجرين إليها، لقربه من المسجد الحرام، مؤكدا أنه «ليس صعبا معرفة أماكن ولادة الأشراف في المجتمع


من مسلمات التاريخ الإسلامي أن عائلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف العائلات القرشية، وأرفعها مكانة، ومقر إقامتهم بمكة شعب بني هاشم، أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم الزعامة في قريش، ولمواليدهم أهمية خاصة، وفي مقدمتهم محمد بن عبدالله، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت عائلته صلى الله عليه وسلم من أنبههم، وأعلاهم شأنا، فهم ليسوا بالمجهولين مكانة، فمن ثم كانت ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الاختيار الإلهي للرسالة الخاتمة، معروفة ومعلومة، وإنما يجهل مكان ولادة الأشخاص العاديين، المغمورين الذين ليس لهم شأن في المجتمع؛ لهذا لم يكن ثمة أدنى شك لدى العقلاء العالمين، والعامة الأميين معرفة مكان ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كافة المحققين، وقد أثبت هذا التواتر العلمي، والمحلي، وتطابقهما».

 

.. والحارثي حدد مساحته بدقة

خصص الدكتور ناصر بن علي الحارثي (رحمه الله) حيزا كافيا ومزودا بالصور والخرائط التفصيلية في خمس صفحات لمكتبة مكة المكرمة (المولد النبوي الشريف) في كتابه أعمال الملك عبدالعزيز المعمارية في منطقة مكة المكرمة (1924 ــ 1953 ميلادية)، الذي أصدرته دارة الملك عبدالعزيز في العام 1426هـ بمناسبة اختيار مكة عاصمة للثقافة الإسلامية.


وشمل كتابه في الفصل الرابع القسم السادس ص 253 وصفا دقيقا لمبنى المكتبة، ومساحاته، ومكوناته العمرانية والإنشائية، وكل ذلك بحساب دقيق عند رفع المساحات لكل مكون من مكونات المبنى لم يستثن منها شيئا، مؤكدا أن المكتبة أقيمت على مساحة مستطيلة الشكل تمتد باستطالة من الشرق إلى الغرب بطول 21 مترا للجدار الشمالي، و12.80 مترا للجدار الجنوبي، وبارتفاع 10 أمتار.

وأشار إلى أن المبنى شُيّد بالحجارة والآجر، فيما عمل سقفه بالاسمنت المسلح مع تلييسه من الداخل والخارج وطلائه باللون الأبيض تم هذا العام تغييره إلى لون أصفر برتقالي.

 

 

  حراس وزوار وغبار.. ولوحة زرقاء



كان صوت مؤذن الحرم المكي الشريف ينبه بصوت رخيم إلى حلول موعد صلاة العشاء يوم الجمعة الفارطة. كانت الطرقات الضيقة بين مشاريع توسعة الساحات الشمالية تعج بمناكب وأقدام المعتمرين والزوار باتجاه ساحات البوابات الشمالية للمسعى وأروقة المسجد الحرام.


كان العشرات منهم ما يزالون في حالة صمت مهيب وهم ينظرون إلى مبنى مكتبة مكة المكرمة (المولد النبوي الشريف) من خلف مصدات وأسوار بلاستيكية حمراء اللون تمنعهم من ملامسة جدران المبنى أو بوابته الرئيسة المحروسة بشابين سعوديين عليهما سمة الصلاح والالتزام وعدم المبالاة بما يدور حول كراسيهم البلاستيكية البيضاء.

من الواضح أن تحديد مسارات المشاة وضعت لمنع الالتفاف حول المبنى قطعا لأي محاولة غير شرعية أو مندوحة للطواف حوله. ومع ذلك كان هناك عدد من الرجال والنساء من مسلمي الهند، يقفون بلا تنظيم خلف الجدار الشمالي للمبنى وهم يؤدون صلاة نافلة في اتجاه القبلة.

كان باب المبنى القديم مغلقا بالضبة والمفتاح. وبجواره مبنى حديث أقل ارتفاعا من المكتبة واجهته مكسوة بلدائن معدنية يتوسطها شعار ضخم للرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضم مركزا مضاء خلف ألواح من البلور الشفاف كتب على كتفه البارز “مركز مكتبة مكة المكرمة التوجيهي”.


كانت أبواب المركز ما تزال مشرعة وتستقبل العشرات من الزوار الذين يحصلون على نشرات وكتيبات لم أقف على مضامينها، ولم أحرص على ذلك، بسبب الزحام وضيق الوقت.

اقتربت من الشابين على حذر، وسألتهما عما إذا كانت هناك مواعيد (كالسابق) تحدد وقت زيارة المكتبة صباحا ومساء طوال أيام الأسبوع؟ فأجاب أحدهما أنه تم إغلاق المكتبة بشكل كامل منذ شهر، وتم نقل مديرها وجميع العاملين فيها إلى مبنى فرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في حي بطحاء قريش، بعد أن بدأت أعمال التفجير وما صاحبها من ضوضاء بسبب أعمال إزالة شعب بني هاشم خلف مبنى المكتبة مباشرة.

أستأذنت الشابين بإمكانية تصوير المبنى ومحيطه بالهاتف الجوال فلم يبديا أي ممانعة أو امتعاض كما كنت أتوقع وأحاذر.

التقطت عدة صور، رصدت خلالها على يمين باب المبنى لوحة ضخمة باللون الأزرق مكتوب عليها تنبيه باللغة العربية مترجم لست لغات عالمية ينصّ على الآتي: “أخي الزائر... لا تشرع زيارة هذا المكان على وجه التعبد... لعدم ورود الدليل بذلك». كان واضحا أن جميع الزوار يعرفون يقينا أن اللوحة الزرقاء الضخمة يقع خلفها تماما في داخل الحجرة اليمنى للمبنى موقع ولادة خاتم الأنبياء والرسل النبي محمد بن عبدالله في 12 ربيع الأول من عام الفيل 570 ميلادية.


في الجهة اليسرى من واجهة المبنى الخارجي كانت هناك لوحة أخرى نشرت عليها صور تفصيلية توضح مكونات غرف وردهات مبنى المكتبة من الداخل.

وفوق اللوحتين شاشتان الكترونيتان تمرران في شريط مضاء كلمات التوعية وبلغات عدة أيضا.

كان كل شيء في المبنى القديم يبدو منطويا على ذاته، بعضه يواسي بعضه في ظلام دامس. الباب الحديدي والنوافذ الخشبية في الطابق العلوي، وتفاصيل عتباته وأعمدته، وأردان الجُدران وأعطافها وقد نأت بعيدا عن أماني معظم الزوار في اللمسّ واللثم وهمسات الصلوات التامات على معلم الصلاة والمبعوث رحمة للعالمين. ثمة هواء ثقيل يجثم على منطقة ورش العمل الضخمة التي تحيط بالمكان.

وأرتال من الغبار وأتربة مخلفات البلدوزرات وحمالة الردم والثرى الطاهر ما تزال عالقة بين الأعين وفضاء المبنى المفتوح. لطالما كان هذا المبنى رمانة ميزان الحياة الاجتماعية هنا، ورئة سادسة لأهالي مكة وزوارها بعد أركان الإسلام الخمسة. كانت سكينة الله ماثلة في بيته العتيق، وكانت رحمة النبي حاضرة دوما في بيت مولده الشريف... وقامت الصلاة!

المصدر : جريدة مكة 1435/4/19هـ| عمر المضواحي