رحلة ابن جبير.. حكايات مكية عن تاريخها

تميزت مذكرات رحلة ابن جبير بين كتب أدب الرحلات، ليس لمحتواها العلمي من النواحي الحضارية أو التاريخية أو الجغرافية فحسب، بل أيضا صياغة مشاهداته وسردها ضمن قالب أدبي، ورصده بالوصف الدقيق جميع ما تقع عليه عيناه، وبالنسبة للتاريخ المكي تعد هذه الرحلة مرجعا مهما لكل من جاء بعده وكتب عن مكة المكرمة وتاريخها.

بداية الرحلة
وقد بدأ أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي المولود في مدينة بلنسية الأندلسية سنة 539هـ رحلته من مدينة غرناطة إلى مكة المكرمة، والتي وصلها 11 ربيع الآخر 579هـ الموافق 2 أغسطس 1183م، وظل في مكة حتى 2 ذي الحجة 579هـ الموافق 3 أبريل 1184م، أي أنه بقي فيها مدة ثمانية أشهر وتسعة أيام، سجل فيها مشاهداته بشكل يومي في الغالب.

ولا يخفى أن ابن جبير كان كثير النقد لسياسة الأمراء والسلاطين العرب، فكان شديد اللهجة في نقد أمير الحجاز مكثر أبي هاشم، خصوصا في بداية وصوله إلى ميناء جدة، حتى إنه يقول في دعوة صريحة منه للحرب في الحرم الآمن «فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حل عرى الإسلام، واستحلال أموال الحاج ودمائهم»، ونلاحظ أنه هنا يدعو الناصر صلاح الدين الذي نذر نفسه لحرب الصليبين أن يتركهم ويلتف على المسلمين من أهل الحرمين لقتالهم.

ثم يقول في موضع آخر «وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية من أهواء وبدع وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه إلا عند الموحدين أعزهم الله»، وعلى الرغم من أنه لا تنكر قوة أو عدل دولة الموحدين وخدماتهم للدين ودفاعهم عنه، إلا أنه ليس معنى ذلك تبديع وتفسيق أهل المشرق ونفي الإسلام عنهم، ورميهم بما رماهم به.

خصوصا أن رحلته كانت قبيل سقوط الخلافة العباسية، وتزامنت مع حروب المشرق العربي المسلم ضد الغزو الصليبي، أي أنها جاءت في وقت كان العالم الإسلام يئن تحت وطأة كثير من الظروف التي جعلته مشرذما وممزقا، مما أثر على أحواله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

استكشاف وعبادة
وقد ذهب ابن جبير في أمانيه بعيدا حيث يقول «ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحا جليا ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التي لا يمترون في إنجاز وعدها... ونُمي إلينا أن بعض فقهاء هذه البلاد المذكورة وزعمائها قد حبر خُطبا أعدها للقيام بين يدي سيدنا أمير المؤمنين، أعلى الله أمره وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة» وهو يقصد بذلك بلاد المشرق عموما بما فيها من مصر والحجاز وغيرهما، مما يعطي انطباعا أن رحلة ابن جبير كانت رحلة سياحية دينية في ظاهرها واستكشافية تجسسية تخدم مصالح دولة الموحدين وتدعو لهم فيما استتر منها.


والحقيقة أن الذي يهمنا في رحلة ابن جبير ليس سببها أو الهدف منها، ولكن وصفه لمكة في الفترة التي أقامها بها وهي مدة الأشهر الثمانية، حيث رصد في هذه الفترة جملة من مشاهداته ولقاءاته بالعلماء وغيرهم من المكيين، كما تتبع ما في البلد الحرام من معالم ومآثر وغير ذلك، ووصف كثيرا من النواحي الاجتماعية والعلمية بها.

كسوة الكعبة بالديباج
وأول ما بدأ به ابن جبير في تدوين مشاهداته بمكة المكرمة وصفه للكعبة الشريفة ومن ذلك قوله «وظاهر الكعبة كلها من الأربعة الجوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر، وسداها قطن، وفي أعلاها رسم بالحرير الأحمر».

ونلاحظ هنا ذكره لكسوة الكعبة بأن لونها أخضر، وطرازها بالحرير الأحمر، حيث لم يكن لها لون محدد أو ثابت في ذلك الوقت، بل كان لونها متغيرا أحيانا حسب الموسم، وأحيانا بحسب من يرسلها من الخلفاء والسلاطين، فقد ذكر ابن ظهيرة في الجامع اللطيف أن المأمون كان يكسو الكعبة ثلاث مرات في السنة ديباجا أحمر يوم التروية، والقباطي في هلال رجب، والديباج الأبيض يوم 27 من رمضان لأجل العيد.

وكساها الحاكم العبيدي الديباج الأبيض، وكساها السلطان محمود بن سبكتكين الديباج الأصفر، والناصر العباسي الديباج الأخضر – وهذا الذي رآه ووصفه ابن جبير، ثم كساها الديباج الأسود بعد ذلك وهو أول من كساها بالسواد، وما زال مستعملا إلى اليوم.

وقد ذكر ابن جبير أن كسوة الكعبة نقش عليها اسم الناصر لدين الله، ووصف بابي الكعبة الداخلي والخارجي، وفرشها من الداخل وأعمدتها ورخامها ومقتنياتها الموجودة بداخلها.

المطاف المرصوف وقباب الحرم المكي في رحلة ابن جبير

ينقل ابن جبير من خلال توثيقه وصف لمقام إبراهيم آنذاك، والذي كان محفوظا داخل الكعبة الشريفة حسبما جرت العادة أحيانا، حيث يتم نقله إلى داخل الكعبة خوفا عليه من السرقة أو العبث في مواسم الحج.

ويصف الحفرة أو الحوض التي كانت تقع بين باب الكعبة والركن العراقي، بأنها موضع المقام في فترة وجود الخليل إبراهيم عليه السلام، وكانت في زمانه مصبا لماء غسل البيت، وقد فند الشيخ حسين باسلامة رواية ابن جبير بخصوص هذه الحفرة في كتابه عن الكعبة، وعلق عليها وأورد الروايات التي قيلت فيها.

وعن المطاف كتب واصفا «وموضع المطاف مفروش بحجارة مبسوطة منها سود وسمر وبيض، قد ألصق بعضها إلى بعض، واتسعت عن البيت بمقدار تسع خطا إلا في الجهة التي تقابل المقام، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به، وسائر الحرم – أي بعد المساحة المفروشة بالأحجار – مفروش برمل أبيض».

ويلاحظ أن المطاف المرصوف والذي ذكر في النص السابق، يشير إلى حدوده في صدر الإسلام كما أشار بعض المؤرخين، أما ما أشار إليه بالحصوات فهي المنطقة التي كانت تشغلها مساكن القرشيين ومن جاورهم، قبل أن تتم التوسعات المتتالية للمسجد الحرام.

وقد ظلت منطقة الحصوات الرملية على حالها الذي وصفها به ابن جبير حتى أزيلت في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز ـ رحمه الله تعالى ـ.

ثم ينتقل ابن جبير لوصف الحجر، ويستوقفنا هنا بروعة وصفه له بما فيه من نقش وزخارف، وصفا يجعل القارئ يشعر بجمال القطعة الفنية التي يصفها، وهو الخبير بالجمال في البناء بعد أن رآه في أصقاع الأرض، كما أنه ربيب البقاع الأندلسية التي تشتهر بجمال قصورها ودقة زخارفها وبنائها، لذلك ومن المسلم به منطقيا ألا يستوقف مثل ابن جبير إلا لوحة رائعة بفنها، وهذا ما نجده حين يقول عن فرش رخام الحجر «ثم ألصق بانتظام بديع وتأليف معجز الصنعة، غريب الإتقان رائق الترصيع والتجزيع رائع التركيب والرصف، يبصر الناظر فيه من التعاريج والتقاطيع والخواتم والأشكال الشطرنجية وسواها على اختلاف أنواعها وصفاتها ما يقيد بصره حسنا، فكأنه يجيله في أزهار مفروشة مختلفات الألوان إلى محاريب»..إلى أن يقول «والرخامتان المتصلتان بجدار الحجر المقابل للميزاب، أحدث الصانع فيهما من التوريق الرقيق والتشجير والتقضيب ما يحدثه الماهر اليدين في الورق قطعا بالمقص ومرآهما عجيب، وأمر بصنعهما على هذه الصفة إمام المشرق أبوالعباس أحمد الناصر بن المستضيء بالله أبي محمد الحسن العباسي»، والحقيقة أن ما ذكره ابن جبير من دقة الصنعة وروعة البناء غير مستغرب، وإن كان يؤكد الحس الفني عند المكيين من قرون عدة.

فقد عرف عدد من الفنانين المكيين ممن امتهنوا النقش والزخرفة، بل لم يكن يخلو مبنى مكي من طراز منقوش بزخرفة أو كتابة، أو روشان محلى بخشب محفور أو مخروط، وقد أسهمت مثل هذه اللوحات والكتابات التي كانت موجودة في الحرم والمباني المحيطة به في الارتقاء بالذوق العام، وتحسس الجمال من العامة قبل الخاصة في المجتمع، كما هو معروف وملاحظ حتى اليوم.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى وصف القباب التي كانت موجودة في صحن المطاف، والواقع أن هذه القباب لم تكن قبابا مجردة بل هي مباني اعتلتها قباب فعرفت باسمها، وأولها القبة التي تعتلي بئر زمزم، ثم قبة العباس والتي يقال إنها بنيت مكان جلوس العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وأخرى ذكرها ابن جبير وقال أن القبتان تستخدمان لخزن أوقاف الحرم من مصاحف وكتب وشموع وحوامل للشموع، كما أن القبة العباسية تستخدم إضافة لذلك لوضع أواني تبريد المياه المعروفة بالدوارق، وحسب وصف ابن جبير، فإن الدوارق عند زيارته لمكة المكرمة هي ذاتها الدوارق التي كانت معروفة إلى وقت قريب، وتستخدم من قبل الزمازمة لتسبيل ماء زمزم على الحجاج أو الطائفين، وذلك قبل أن تعرف الأساليب الحديثة في تبريد وتوزيع ماء زمزم، كما يشير في موضع آخر من الرحلة إلى أنه يوجد داخل القبة العباسية صندوق أو تابوت وضع به المصحف المنسوب للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، المنسوخ سنة ثماني عشرة من الهجرة وهو بخط الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه.

توثيق الأحداث المكية ونقشها على أعمدة الحرم

تعد رحلة ابن جبير لمكة المكرمة وثيقة تحكي بالوصف الصورة التي كان عليها الحرم المكي، فوصف المآذن الملحقة به، ثم الأبواب التسعة عشر، ونقل خلال ذلك الكثير من النقوش الكتابية التي كانت موجودة في بعض أعمدة الحرم، والتي كانت تؤرخ لبعض من نفذ الأعمال الإنشائية، كما نقل بعض النصوص التي تبين وتشير إلى المواقع والأحداث المهمة أو التاريخية، ومن ذلك النقش الذي نقله عن العمود الواقع خارج باب الصفا والذي جاء فيه «أمر عبدالله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله تعالى بتوسعة المسجد الحرام مما يلي الصفا، لتكون الكعبة في وسط المسجد في سنة سبع وستين ومائة «ونقش آخر يقول «أمر عبدالله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعة الباب الأوسط، الذي بين هاتين الاسطوانتين وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا» وغير ذلك من النقوش الكتابية التي تتبعها ابن جبير في المسجد الحرام.

كما وصف ابن جبير مكة المشرفة وأبوابها ومقابرها ومساجدها الشهيرة مع أبرز معالمها، ويقول عن أسواقها «هي أكثر البلاد نعما وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر، ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أوان الموسم ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب، فيباع فيها في يوم واحد فضلا عما يتبعه من الذخائر النفيسة كالجواهر والياقوت وسائر الأحجار ومن أنواع الطيب كالمسك والكافور والعنبر والعود والعقاقير الهندية إلى غير ذلك من جلب الهند والحبشة إلى الأمتعة العراقية واليمانية إلى غير ذلك من السلع الخراسانية، والبضائع المغربية إلا ما لا ينحصر ولا ينضبط ما لو فرق على البلاد كلها لأقام لها الأسواق النافقة، ولعم جميعها بالمنفعة التجارية، كل ذلك في ثمانية أيام بعد الموسم، حاشا ما يطرأ بها مع طول الأيام من اليمن وسواها، فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر إلا وهي موجودة فيها مدة الموسم، فهذه بركة لا خفاء بها وآية من آياتها التي خصها الله بها» ويقول عن الأرزاق المتوفرة بها من الفواكه واللحوم واللبن» وأما الأرزاق والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ المزية على سائر حظوظ البلاد حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه كالتين والعنب والرمان والسفرجل والخوخ والأترج والجوز والدوم والبطيخ والقثاء ..إلى سائر البقول كلها كالباذنجان واليقطين والكرنب ..إلى غير ذلك من الرياحين العبقة وأكثرها لا ينقطع طوال العام».

ولعل من أجمل ما نقله إلينا ابن جبير هو طريقة عرض البضائع في أسواق مكة خصوصا الحلوى فهو يقول «وأما الحلوى فيصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى، إنهم يصنعون بها حكايات أشباه جميع الفواكه الرطبة واليابسة، وفي الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان يتصل منها أسمطة «موائد» بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد أكمل منظرا منها لا بمصر ولا بسواها، قد صورت منها تصاوير إنسانية وفكاهية وجليت في منصات كأنها العرائس ونضدت بسائر أنواعها المنضدة الملونة، فتلوح كأنها الأزهار حسنا فتقيد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار».

ونلاحظ هنا مقدار الرقي الذي وصل إليه التجار المكيون قبل أكثر من ثمانمئة عام في عرض وتسويق منتجاتهم، يضاف إلى ذلك أننا نستشف من خلال وصف ابن جبير للأطعمة المكية مقدار الأناقة في ترتيب الموائد والأطعمة والتفنن في ذلك الوقت، فهم يصنعون من السكر المعقود قطعا ملونة تشبه أشكال الفواكه، ومجسمات آدمية، ولنا أن نتخيل البراعة في التجسيم والتلوين والعرض، حتى إن ابن جبير وهو القادم من عاصمة الحضارة الأوربية في ذلك الوقت الأندلس يجزم بأنه لم ير مثلها في أي مكان بالعالم.

ونلاحظ من خلال سرد ابن جبير لتفاصيل رحلته تعجبه من كل ما يراه، وتلذذه بكل ما يطعمه في مكة المكرمة، ولعل لعاطفته الدينية وبهجته لقربه من الحرم دورا في ذلك على عكس الكثير من الرحالة الذين كانوا يظهرون تذمرهم من حر مكة أو ازدحامها أو نقص الخدمات بها، فنجده يقول عن الفواكه بها «ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البطيخ والسفرجل، وكل فواكهها عجب» ويقول في وصف لحوم الضأن «أما لحوم ضأنها فهناك العجب العجيب، قد وقع القطع من كل من تطوف على الآفاق وضرب نواحي الأقطار أنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا» وعن السمن واللبن يقول «وأنواع اللبن بها في نهاية من الطيب، وكل ما يصنع منها من السمن لا تكاد تميزه من العسل طيبا ولذاذة».

 

ليالي مكة الرمضانية وصلاة العيد بحكاية ابن جبير

ينقل ابن جبير مشاهد من الليالي الرمضانية في الحرم المكي، ويصف صلاة التراويح بقوله: وكاد لا يبقى زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية فتعاين الأبصار، وتشاهد من ذلك مرأى ومستمعا تنخلع له النفوس خشية ورقة.

وبعد أن أسهب في وصف الحرم، بدأ في الحديث عن أيام ختم القرآن في الحرم المكي فذكر أنه يختتم في كل ليلة من ليالي الوتر، من قبل جماعة من الجماعات الموجودة في الحرم، ومما يلفت النظر فيما ذكره أن من يختمون قبل ليلة الـ29 وهي ليلة الختم الكبرى، هم أبناء المكيين ممن لم يتجاوزا سن الـ15 وربما أقل من ذلك.

كما وصف احتفالات أهالي هؤلاء الفتية بالختم واستعدادهم له ومن ذلك قوله في ختم ابن من أبناء الإمام الحنفي: كان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيما، أحضر فيه من ثريات الشمع أربعا، مختلفات الصنعة منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة فصفت أمام حطيمة – يقصد المقام الحنفي – وتوج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه، وجلل ذلك كله سرجا ومشاعيل وشمعا، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور، وأحضر الشمع في أتوار «أوعية» الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب، فجلل دائره الأعلى شمعا، وأحدق الشمع في الأتوار به، فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللا أيضا بالكسوة الملونة، واحتفل الناس لمشاهدة هذا المنظر النير.
ونلاحظ مما سبق إضافة إلى روعة الوصف، الأناقة في تنسيق المكان وإضاءته، والموقف في مجمله موقف تعليم وإعداد للأئمة والخطباء في الحرم، وبيان مقدار الاحتفاء بالحفظة وتشجيعهم، مما يبث في أنفسهم الثقة، لذلك نلحظ في كثير من تراجم القراء والأئمة والعلماء في الحرمين الشريفين وحتى القرن الماضي أن بداية مسيرتهم العلمية بدأت من خلال الإمامة في صلاة التراويح.

ثم انتقل ابن جبير لوصف صلاة ومظاهر العيد، وذلك بعد صلاة فجر اليوم الأول من شوال، حيث بكر الشيبيون إلى فتح باب الكعبة المشرفة، وظلوا بها حتى وصول أمير مكة المكرمة، وبعده وصل قاضي مكة وخطيبها بين رايتين سوداوين وهو يلبس الثياب السوداء، ويلاحظ أن السواد هنا هو شعار الدولة العباسية التي كان لها الزعامة على الحرمين الشريفين.

ثم يصف حال الناس بعد صلاة العيد ويقول: أقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله، وبادروا إلى البيت الكريم – أي الكعبة – فدخلوا بسلام آمنين، وأخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة «المقبرة» بالمعلى للدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين.

ويبدو أن ابن جبير وخلال إقامته بمكة المكرمة وقبل أن يحل موسم الحج، حاول أن يدون بعض مشاهداته للمعالم المكية خارج حدود العمران لمدينة مكة، خاصة فيما يتعلق بالمناسك والآثار النبوية الشريفة، وكأنه أراد رؤية هذه الأماكن في حال خلوها من الحجاج، فزار منى ووصف مسجد بيعة العقبة المبارك، والجمرات ومواقعها وما حولها من معالم، ثم انتقل لوصف مسجد الخيف.

وفي يوم آخر توجه لزيارة جبل ثور، حيث الغار الذي آوى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق أبي بكر رضي الله عنه، كما زار الدار التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها، وبعدها زار دار أبي طالب بن عبدالمطلب حيث مولد الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وأورد هنا معلومة غريبة وهي أن بهذه الدار مولد الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواقع أن ولادة الحسن والحسين كانت بالمدينة المنورة بعد الهجرة، ووصف أيضا دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي خلال زيارته لها بأنها منشأ الإسلام وهي التي كانت تعرف بدار الخيزران نسبة إلى الخيزران زوجة الخليفة المهدي حيث اشتراها ووهبها لها، وفيها كان إسلام الفاروق رضي الله عنه.

إحرام الكعبة واستقبال الحجاج في مكة قديما

كتب ابن جبير في رحلته عن موسم الحج في مكة المكرمة، وبدأ مشاهداته بوصف رفع أستار الكعبة وهو ما تعارف المكيون والحجاج على تسميته بإحرام الكعبة وكان ذلك في 27 ذي القعدة، ويتحدث عن الاختلاف الواقع في رؤية هلال ذي الحجة وموقف قاضي مكة جمال الدين من ذلك.

وينقل مشاهداته بعد انطلاق مواكب الحجاج إلى عرفات، والحجيج فيها، ومن أجمل ما وصفه في عرفات مخيم أمير الحج العراقي والذي كان ينوب عن الخليفة في الحج، ويحمل كسوة الكعبة من بغداد، حيث يصف ذلك المخيم بقوله "أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة أو بستان أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهي كلها سواد في بياض، مرقشة كأنها أزاهير الرياض، وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية، ولهذا السرادق الذي هو كالسور أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم يفضي منها إلى الفضاء الذي فيه القباب، وداخل تلك الأبواب حجاب الأمير وخدمه وغاشيته، وهي أبواب مرتفعة يجيء الفارس برايته فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ، أدير ذلك كله بتدبير هندسي غريب".

ثم يصف مراكب أمير الحج العراقي ومن معه فيقول "لهم في مراكبهم على الإبل قباب تظلهم عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الأعواد يسمونها (القشاوات) وهي كالتوابيت المجوفة تكون لركابها من الرجال والنساء كالمهد للأطفال، تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحا كأنه في مهاد لين فسيح، وبإزائه معادلة وعندما يصلان إلى المرحلة التي يحطان بها، ضُرب سرادقهما للحين إن كانا من أهل الترفه والنعم فيدخل بهما راكبين وينصب لهما كرسي ينزلان عليه، فينتقلان من ظل قبة المحمل إلى قبة المنزل دون هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما، وناهيك من هذا الترفيه فهؤلاء لا يلقون لسفرهم وإن بعدت شقته نصبا ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا".

ونلاحظ أن ابن جبير ذكر أن كسوة الكعبة تتنقل بتنقل أمير الحج أي أنها تكون في مخيمه بعرفات، ثم تنتقل معه إلى منى، وفي يوم النحر تحمل إلى مكة، حيث يقول عن ذلك "وفي يوم النحر سيقت كسوة الكعبة المقدسة من محلة الأمير العراقي إلى مكة على أربعة جمال تقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السوادية" ويؤيد هذا القول ما نقله بعض المؤرخين أن كسوة البيت فيما مضى كان يطلع بها أمير الحج معه إلى الموقف بعرفات فإذا كان يوم النحر يأتي بها من منى إلى مكة المكرمة لأجل اللبس، ثم صار أمراء الحج بعد ذلك يضعونها في الكعبة قبل الصعود للحج وسبب ذلك أن بعضها سرق في بعض السنين من محلة أمير الحج بمنى، ثم عاد إليه بمال بذله.

ملمح آخر أشار إليه ابن جبير وهو إتاحة الفرصة لبعض العلماء من خارج مكة للوعظ في الحرم المكي خلال أيام الموسم، سواء كان وعظهم بالعربية أو لغة غيرها، ومن ذلك ما ذكره عن عالم خراساني، حيث يقول "نصب منبر الوعظ أمام المقام، فصعد واعظ خرساني حسن الشارة مليح الإشارة، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان فصيح المنطق، بارع الألفاظ، ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم إطرابا ويذيبهم زفرات وانتحابا" ثم يقول "وفي الليلة الأخرى صعد شيخ أبيض السبال رائع الجلال بارع التمام في الفضل والكمال فصدع بخطبة انتظمت آية الكرسي كلمة كلمة، ثم تصرف في أساليب الوعظ وأفانين من العلم باللسانين أيضا، حرك بها القلوب، وفي أثناء ذلك ترشقه سهام من المسائل فيتلقاها بالجواب السريع البليغ، فكأنما هو وحي يوحى".

والحقيقة أن ما وصفه ابن جبير مستغربا، كان أمرا معتادا في مكة، حيث جرت العادة وحتى وقت قريب أن تتاح الفرصة لأي عالم له قدرة على التدريس والوعظ في الحرم خلال فترة إقامته بمكة، بل كان أول من يحضر لدى الزوار من العلماء كبار علماء الحرم، وإذا رأوا فيه تميزا حثوا طلابهم على التوجه إليه، والأخذ عنه ويعدون تلك فرصة نادرة لتلقي العلم، وذلك أحد الروافد التي أكسبت العلماء المكيين تنوعا معرفيا وثقافيا متميزا، كما جعلهم على علاقة بعلماء المسلمين في كل أصقاع الأرض على اختلاف مشاربهم ولغاتهم.

المصدر : صحيفة مكة | 1436/جماد الاولى / 7 - حسام عبدالعزيز مكاوي