الربــذة..موطــن الصحـــابي أبي ذر و عشق خلفاء بني العباس

 

تعتبر منطقة الربذة التاريخية من أشهر المواقع الأثرية على طريق الحج من الكوفة إلى مكة المكرمة، وهي تقع إلى الشرق من المدينة المنورة بحوالى 200 كم، وتتواجد على حافة جبال الحجاز الغربية، ويبعد عنها خط القصيم - المدينة المنورة شمالا بحوالى 70 كيلومترا، حيث بناها الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عام 30هـ. ومنطقة الربذة الأثرية كانت قد اندثرت منذ مئات السنين، واختفت عن المعمورة بشكل كامل بمبانيها وقصورها تحت الأرض، إلا أنها وقبل حوالى أكثر من ثلاثين عاما بدأت منازلها وقصورها تظهر من جديد على سطح الأرض، في حين قامت جامعة الملك سعود بالرياض لدراسة وضعها والسعي لإظهار معالمها التاريخية من جديد باعتبارها مدينة إسلامية مهمة.

وقد أثمرت التنقيبات الأثرية على مدى سنوات عدة في الكشف عن الربذة التي تشتمل على مدينة متعددة الأحياء ذات تخطيط منظم، أحياؤها محصنة بأسوار، كما تم الكشف عن منطقة سكنية تمثلت في القصور، والمنازل ذات الطرز المعمارية المختلفة، كذلك كشف في الموقع عن مسجد جامع ومسجد آخر لأحد أحياء المدينة. كما كشف عن سوق، ومبنى للبريد، ومنطقة صناعية، وخزانات، ومستودعات للمياه وبرك، ومن أشهرها بركة ابن سليم، التي تتجلى فيها براعة المعماري المحلي في مجال الهندسة المائية.

تأسيس الربذة
ويذكر المؤرخون أن أول من سكن الربذة كان الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في سنة 30هـ ، حيث تذكر المصادر أن أبا ذر طلب من الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه الإذن في الخروج من المدينة؛ حيث قال إن رسول الله أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا (وهو جبل على حدود المدينة). فأذن له فنزل الربذة وبنى بها مسجدا، وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه كل يوم عطاء. وقد توفي أبو ذر الغفاري في الربذة سنة 32هـ (653م)، وقد حضر جنازته الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغسله وصلى عليه ودفنه في تلك المنطقة ومعه ستة عشر رجلاً، كانوا قادمين في قافلة من العراق إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. فأبو ذر الغفاري قد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده).

وتوجد في الربذة منطقة الشربة التي تتوسطها وتعتبر منطقة جيدة لرعي الإبل، وكانت القبائل ترتادها للمرعى حتى جاء الإسلام، وفي سنة 16هـ حمى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه منطقة الربذة لإبل الصدقة وخيول المسلمين.

جامع أبي ذر الغفاري

ويعد الجامع الذي كُشف عنه في الجهة الغربية من الربذة، هو مسجد أبي ذر الغفاري الذي اختطه بنفسه عندما قدم للربذة، وقد ذكرت المصادر أن بالربذة مسجدان أحدهما مسجد أبي ذر، ويتميز بتخطيط معماري متطور، فمساحته تصل حوالي 22.75م×20.15 متر، ويتكون من رواقين أماميين يتقدمهما محراب مجوف وله ثلاث أروقة، شرقي وغربي وجنوبي، وقد تبين أثناء الكشف الأثري لجدران وأعمدة المسجد وتفاصيله المعمارية أن المسجد فرشت أرضيته بالحصى وتتجدد الفرشة بين وقت وآخر، كما أن جدران المسجد كانت تحمل طبقة جصية، وأنه فيما يظهر أنه بني بكامله بالحجارة حيث لم يوجد أي أثر لكتل طينية أو لبن، وأن الركام الذي كان يغطي الموقع هو كتل حجرية، وتصل المساحة الإجمالية للمسجد حوالى (459م2) وتصل المساحة الداخلية حوالى (380م2) وهذه المساحة كافية لاستيعاب ما يقارب ستمئة مصلٍ.

ومما يميز هذا المسجد أنه بني في مكان متطرف من المدينة السكنية، وبالقرب منه واحدة من الآبار الرئيسة في الربذة والتي لا تزال باقية حتى اليوم. وكان مسجد الربذة منذ بنائه ملتقى للعلماء والمحدثين الذين يقصدونه من كل مكان، خاصة أن الربذة مدينة إسلامية مبكرة وموقعها مميز على طريق الحج.


عشق العباسيين للربذة
وقد ذكر د. سعد الراشد من جامعة الملك سعود في محاضرته عن الربذة أنها كانت من الأماكن المحببة لنفوس الأمراء والخلفاء من بني العباس للاستراحة والإقامة فيها، ومن هؤلاء أبو جعفر المنصور والمهدي وهارون الرشيد، الذين أجروا الكثير من الإصلاحات والمشروعات الخيرية على طرق الحج بين العراق والحرمين الشريفين، وقد حذا حذوهم في تقديم الأعمال الخيرية، الأمراء والوزراء والقادة والتجار، وكان لسيدات البلاط العباسي أعمال مماثلة وفي مقدمتهن السيدة زبيدة بنت جعفر، زوجة الخليفة هارون الرشيد، التي بذلت العطاء وأنفقت الأموال في سبيل بناء المنازل والدور، وحفر الآبار وتشييد البرك على امتداد طريق الحج الذي عرف باسم «درب زبيدة»، كما ختمت أعمالها الجليلة بعمارة (عين زبيدة) خدمة لحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين والسكان على حد سواء.


الطريق إلى الربذة
تعاني هذه المدينة الأثرية الآن من غياب تام من قبل هيئة السياحة والآثار، حيث تم نصب لوحة للإشارة إلى منطقة الربذة على الطريق السريع، وأخرى داخلية على طريق الحسو تشير إلى مدخل المدينة، التي تبعد عن هذه اللوحة تقريبا 40 كيلومترا ذات طريق ترابي وعر يصعب الوصول إليها، وعند الوصول للمدينة بعد هذه المشقة يلاحظ غياب اللوحات الإرشادية داخل المدينة لتعريف السياح ومحبي الآثار بتاريخ المدينة وبعض المعالم المهمة فيها، بالإضافة إلى عدم تواجد حراسة عليها، والدخول للمدينة يتم من تحت فتحات شبك الحماية حولها.

المصدر : صحيفة المدينة 1436/7/6هـ - تحرير - وليد عبدالله العوفي - المدينة المنورة