الحديبية.. عودة الروح الى المكان والمكانة ( 5 / 6 )
بعد جهد دؤوب تم اكتشاف وتحديد ما يعتقد أنه الموقع التاريخي لمسجد الشجرة (بيعة الرضوان) الذي طمست معالمه بعد جدل فقهي وعلمي انتهى بإزالة كل أثر له في نهاية القرن الهجري الماضي (1399هـ).
صورة تاريخية نادرة لمسجد الحديبية القديم
تولى مستشار وكالة جامعة أم القرى للأعمال والإبداع المعرفي الدكتور معراج مرزا والأستاذ الزائر في مركز التحليلات الجغرافية في جامعة هارفارد الأمريكية، مهمة حسم الحيرة والاختلاف التي وقع فيها الجميع خلال الجولات الميدانية السابقة.
وبعد تطورات دراماتيكية صادفت مهمة البحث وتحديد موقع مسجد شجرة بيعة الرضوان القديم في منطقة المناخ النبوي بالحديبية، خاصة بعد اكتشاف خطأ أرقام الإحداثيات التي رصدت في كتاب الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان بعد جولة ميدانية في 1421 شاركه فيها معراج مع مجموعة من العلماء والخبراء المكيين، كان من الضرورة بمكان الاستعانة بالخبير الجغرافي المكي لتوضيح المسألة واستجلاء حقيقة الأمر، لوضع النقاط على الحروف.
وقبيل تحديد موعد الجولة الميدانية له، أمضى معراج مرزا وقتا طويلا للبحث في مكتبته ومركز معلوماته الضخم بمنزله عن كل ما يمتلكه من وثائق وخرائط وصورا فوتوجرافية تخص منطقة الحديبية، للاستعانة بها في مهمته الجديدة.
بداية الحكاية
مرزا مع فريق مبادرة معاد في مناقشات علمية
في صبيحة يوم الثلاثاء 17 نوفمبر 2014 كانت «مكة» بمعية فريق مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية في انتظار وصول الدكتور معراج مرزا للقيام بجولة ميدانية في المناخ النبوي بالحديبية، والوقوف معه على عين مكان مسجد «بيعة الرضوان» وأهم المواقع التي تم تحديدها خلال مشاركته في 2001 بمعية عضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان وعشرة خبراء وفنيين آخرين في جامعة أم القرى ومركز أبحاث الحج والعمرة في رحلة علمية ميدانية (صباح الخميس 23 شوال 1421) إلى بعض المواقع الأثرية شمال وغرب مكة المكرمة شملت منطقة الحديبية، قام أبوسليمان برصد تفاصيلها لاحقا في كتابه الشهير «الأماكن المأثورة المتواترة في مكة».
وقف معراج أمام باب المسجد الحالي مشيرا إلى جهة الشمال قائلا: هناك يمكن مشاهدة ثنية المرار (الكريمي حاليا) وهي درب بين الجبلين القائمين أمامنا التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أثناء نزولهما في الحديبية، وخلفهما في عسفان توجد حرة كراع الغميم، بينما خلف المسجد يقف الجبل الذي تعلوه القلعة التاريخية والتي تشرف على الوادي، وسمي الجبل أيضا باسم البئر المعروف ببئر الحديبية.
معراج يتفقد حالة بئر الحديبية
وأكد في رده على سؤال لـ»مكة» أنه من المستحيل تحديد مساحة المناخ النبوي في الحديبية بدقة كاملة.
تماما كما لا يمكن لأحد أن يعرف تحديد مساحة غزوة بدر ولا غزوة أحد بدقة، ولكننا جميعا نعرف حتما المواقع التي حدثت فيها هذه الأحداث من دون تحديد مواقعها بشكل قطعي.
وأضاف: جميع النصوص التي تناولت قصة الحديبية تؤكد أنه كان مع النبي نحو 1400 صحابي منتشرين في بطن الوادي ولم يكونوا متجمعين في كتلة واحدة.
بدليل أنه عندما حدثت البلبلة بينهم نتيجة إعلان اتفاق النبي في معاهدة الصلح مع كفار قريش والتي قبل فيها صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة من دون إتمام مناسك العمرة، دخل النبي على أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله عنها في خدرها وقالت له: يا رسول الله أخرج لأصحابك، وانحر هديك وأحلق شعرك فإنهم سوف يقتدون بك.
وبالفعل خرج النبي وفعل ما أشارت به عليه، وصار هناك نداء عام ينبه الجميع بما فعل النبي، مما يعني أن أصحابه كانوا متفرقين في بطن الوادي، فلا يمكن تحديد منطقة المناخ النبوي بشكل قاطع لكنه حتما كان هنا في سهل الجبل وحول البئر وموقع مسجد الشجرة.
ويمكن اعتبار البئر نقطة ارتكاز المناخ النبوي، والمعروف أن الناس لا تجلس جنب الآبار مباشرة ليتركوا المجال لسقاية الجمال والخيول والهدي وغيرها بل على مقربة منه.
تغييرات متسارعة
خلال الجولة بدا مرزا واثقا من الأمكنة رغم اعترافه بالتغييرات الهائلة التي حدثت على أرض المناخ النبوي في الحديبية بعد إنشاء المنازل والاستراحات والأحواش وإنشاء الطرق الفرعية والرئيسية التي لم تكن قد أحدثت في جولته الميدانية مع فريق مركز أبحاث الحج قبل نحو 13 عاما مضت.
صورة قديمة للبئر
أخذت الحيرة تضرب يقين معراج وهو يقود الفريق مشيا على الأقدام من موقع المسجد الحالي سالكا بين الطرق الفرعية الفاصلة بين موقعي المقبرة القديمة وبئر الحديبية.
كانت الأسوار الجديدة للمقبرة القديمة وحوائط مستودعات شركة RCC التي يقع البئر داخلها تعيق ذاكرته على تحديد المكان بدقة، وتثير شكوكه في آن واحد بعد أن غلب على ظنه أنه تم توسعة المقبرة القديمة من اتجاه سورها الشمالي والغربي بعد مشروع تجديد أسوار المقابر في مكة قبل نحو ثماني سنوات.
أسقط في يد معراج، بعد أن اصطدم بتلال ترابية عالية (عقوم) كانت تحجز مواصلة سير الفريق قدما.
وكرر البحث مرارا يمنة ويسرة عن منفذ في الطرق المسدودة بالعقوم تمكنه من تحديد موقع المسجد القديم.
في آخر الأمر قرر صعود عقم ترابي مخلوط بأرتال من بقايا ردميات بنايات قديمة في محاولة أخيرة للتأكد من ذاكرته، بعد أن كاد يصيبه اليأس.
لم يجد شيئا يذكر يدله على طلبته، لكنه لاحظ فجأة بقايا قواعد خرسانية ملقية تحت الردميات، توقف للحظات وفكر باحتمالية أنها ربما تكون قواعد المسجد القديم الذي تمت إزالته في 1399هـ.
بدأ يتجول في الموقع متفحصا كل خطوة يخطوها للأمام، وأخرج كاميرته الفوتوجرافية ليلتقط عددا من الصور للموقع وسط دهشة واستغراب فريق الجولة.
برقت ملامح استبشار في وجه الرجل، وبدا أنه واثق من وقوفه في عين المكان الذي وقفه قبل 13 عاما، بعد أن لاحظ وجود قضبان حديدية نافرة من بطن الأرض تحت العقم الترابي وبين السور الحديث للمقبرة القديمة.
معراج يقف على قواعد المسجد المندثر وخلفه سور المقبرة
بعد جهد بسيط، وجد أن هذه الأسياخ والقضبان ما تزال متصلة بميدات (قواعد) خرسانية لا تزال مطمورة تحت الأرض، عندها أعلن لفريق الجولة أنه يغلب على ظنه وقوفه على موقع مسجد بيعة الرضوان المزال.
مشددا على ضرورة التأكد في جولة جديدة من أرقام الإحداثيات التي رفعت وتم رصدها في كتاب أبوسليمان ليقطع كل شك لديه عن حدسه وملاحظاته في الموقع.
كانت الشمس قد توسطت كبد السماء، وظهر الإعياء والتعب يخالط ملامح فريق الجولة الذي أخذت مشاعرهم تتردد بين مصدق ومنكر لما رأوه وسمعوه من قائد الجولة.
اتفق الجميع بعدها وهم يحثون الخطى عائدين إلى سياراتهم أنهم حصلوا ـ على الأقل ـ على طرف خيط قادهم إلى معلومة مؤكدة، وحقيقة غابت لأكثر من أربعين عاما مضت.
ملحق يوثق الموقع
أرفق الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان في كتابه «الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة» ملحقا خاصا بعنوان «رحلة إلى بعض المواقع الأثرية شمال وغرب مكة المكرمة» قام بها بعد ترتيب من الدكتور أسامة البار وكان حينئذ رئيسا لمعهد أبحاث الحج في جامعة أم القرى بتاريخ الخميس 23 شوال 1421هـ، رافقهما فيها كل من رئيس قسم القضاء (سابقا) ووكيل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي في جامعة أم القرى (الذي كان يتولى مهمة التعريف بالطريق والأماكن التاريخية والأثرية) الدكتور عويد المطرفي رحمه الله والدكتور معراج مرزا، وعبدالعزيز قطب، وعدنان عبدالعزيز قطب، وسمير نتو والدكتور عبدالله شاوش وفيصل ملا والمصور السينمائي طلال قاضي، والمصور الفوتوجرافي كامل أبو الخير برحلة ميدانية لزيارة مواقع أثرية شملت مر الظهران (الجموم) وعسفان، والحديبية.
الحديبية كما رآها فريق شرعي وعلمي في 2001
تسرد "مكة" النص الذي أورده أبوسليمان عن موقع المناخ النبوي في الحديبية كتب أبوسليمان «ثم وصلنا إلى الشميسي (الحديبية) ووقفنا على المكان الذي تمت فيه بيعة الرضوان، وكان فيه سابقا مسجد قديم، فأمرت وزارة الأوقاف في 1399هـ بإنشاء مسجد جديد على موقعه، وبعد إقامته، جاءت الأوامر بإزالته فورا، وقد وجدنا عند وصولنا الموقع عددا من بائعي العسل معهم مناحلهم على سيارات، ووجدنا بالقرب من الموقع إلى الجنوب ـ بئرا قديمة ما زالت المياه تشاهد في قاعه البعيد، التي ربما يصل عمقها إلى نحو 30 مترا.
وإحداثيات موقع بيعة الرضوان هي: 21:26:09 شمالا و39:37:40 شرقا» وهي إحداثيات غير دقيقة بعد التثبت منها في جولة ميدانية مع فني مختص برفع الإحداثيات.
أبوسليمان: اسألوا معراج فلا ينبئكم مثل خبير
بعد انتهاء حفل تكريم معراج مرزا في إثنينية عبدالمقصود خوجة بجدة مساء الاثنين (5 يناير 2015) التقت «مكة» بـ»أبوسليمان» حول رأيه عن عدم دقة إحداثيات موقع مسجد الشجرة القديم في الحديبية والتي سطر أرقامها في كتابه.
ا.عمر المضواحي مع د.عبدالوهاب أبوسليمان
فقال: لم أكتب كتابي إلا بعد بحث مضن ورجوع إلى كتب التاريخ والمصادر الموثقة، وأضفت إليه ملاحق لجولات ميدانية قمنا بها للتثبت من كل موقع فيه.
في 2009 طبع الكتاب عن طريق مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن، ولا أتذكر الآن كيف حدث ذلك الخطأ، هذا الأمر في غاية الأهمية وأشكر لكم تدقيقكم لهذه المعلومة، وجزاكم الله خير أن نبهتموني إليها، وأرجو تزويدي بأرقام الإحداثيات الصحيحة لتدارك ذلك في الطبعة المقبلة للكتاب.
وأضاف: عندما صدر الكتاب كانت له أصداء واسعة، والتقيت مع بعض كبار المسؤولين للنقاش حول محتواه، وكيفية الحفاظ على هذه الأمكنة، لكن للأسف لم يحدث شيء من ذلك الحين إلى الآن.
وأعلن أبوسليمان عن مباركته لكل جهد في إحياء الأمكنة النبوية والتاريخية في مكة والمدينة على وجه خاص.
وقال: إذا تم إحياء منطقة الحديبية فهذا أمر جيد، وهذه الأماكن لا يمكن إعادة إحيائها مرة أخرى إلا بإرادة ملكية سامية كي تتم مثل هذه المشاريع.
من جانبه قدم مرزا تفسيرا للخطأ في أرقام الإحداثيات الواردة في كتاب أبوسليمان.
وقال: بحسب خبرتي في الخرائط والمصورات الجوية حدث مثل ذلك معي أكثر من مرة، وباتت من الأمور المعروفة في مجال برمجة الأقمار الصناعية، حيث تعمد وزارة الدفاع الأمريكية على تغييرات محددة ومحسوبة في مواقع الأقمار الصناعية بهدف إعطاء أرقام إحداثيات خاطئة للأجهزة الأرضية لإرباك أي خطط معادية.
وزاد: لقد تأكدت من هذا الأمر بعد تجارب عدة في مطابقة خرائط قديمة مصورة رقميا من قبل أمانة العاصمة المقدسة، مع صور لدي سحبتها عبر برنامج قوقل إيرث، وعندما أحاول مطابقة صور الأمانة مع صور قوقل لا تنطبق تماما وبشكل غير مفهوم، فجميعها تم التقاطها عبر إحداثيات فنية وعلمية.
وبعد أن سألت وبحثت في هذه المسألة، وجدت أن هناك تغييرات متعمدة تحدث في بعض الأحيان لمواقع الأقمار الصناعية.
هنا تدخل أبوسليمان معقبا على حديث واستنتاج مرزا بقوله: ولا ينبئك مثل خبير!
المصدر : صحيفة مكة 1436/6/6هـ - بقلم الاستاذ عمر المضواحي
0 تعليقات