مكبرية المسجد الحرام والأذان عبر العصور

ارتفع أول نداء للحق في مكة المكرمة على سطح الكعبة المشرفة يوم فتح مكة, حيث أمر نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه أن يؤذن فأذن على ظهر الكعبة معلنا تخليد هذا الفتح على يد النبي صلى الله عليه وسلم, حيث لم يكن هناك مآذن يصعد عليها المؤذن لينادي للصلاة.

وخلفه الصحابي أبو محذورة المُعيّن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأذان البيت الحرام, وبقيت سلالته تتوارث الأذان قرنين من الزمان.

ومع تعاقب القرون وتوالي السنين وتزايد المسلمين وتوسيع المسجد دعت الحاجة لإيصال الصوت بشكل أكبر فنشأت فكرة إقامة المنائر (المآذن) في المساجد, وأقيمت أماكن خاصة بالمؤذنين داخل المساجد سميت بالمكبرية, فكان أول من بنى المنارات هم الأمويون في مساجد الشام, ولم تنشأ المنارات في المسجد الحرام إلا في العهد العباسي.

* المسرد التاريخي لأماكن الأذان في المسجد الحرام عبر التاريخ

- ذكر المؤرخ الأزرقي (ت 250هـ) في مؤلَّفِه (أخبار مكة) وجود ظلة للمؤذنين على سطح المسجد الحرام, يؤذن فيها المؤذنون يوم الجمعة والامام على المنبر, وأول من أنشأها: عبدالله بن محمد بن عمران الطلحي, الذي كان أمير مكة في خلافة هارون الرشيد.

- كان رئيس المؤذنين يؤذن في منارة باب العمرة ثم يتبعه سائر المؤذنين, وذلك أيام المؤرخ الفاكهي في القرن الثالث الهجري.

- ثم صار رئيس المؤذنين في زمن المؤرخ الفاسي يؤذن في منارة باب السلام, وذلك بداية القرن التاسع الهجري.

- وقال القطب: وهو الآن- أي: في زمنه- يؤذن على قبة زمزم ويتبعه المؤذنون, إلا ليالي رمضان في التسحير (فإن رئيس المؤذنين يسحر فيها على منارة باب السلام ويتبعه المؤذنون في التسحير) واحدًا بعد واحد.

- وقال الصباغ: وهو كذلك في زماننا, يوذن الرئيس على قبة زمزم ثم يتبعونه, كان هذا في القرن الماضي واستمر كذلك حتى سنة 1383هـ.

* مكبريات المسجد الحرام ووصفها

ما هي المكبرية؟

هي المكان الخاص بالمؤذنين حيث يقوموا برفع الأذان وأداء التبليغ, وكذلك هو المقر لجلوسهم واجتماعاتهم.

ومن ذلك ينبغي لنا تعريف كلمة (التبليغ) :

حيث هو ترديد المؤذن لتكبيرات الإمام (حركات الصلاة) من أجل إيصال الصوت للمصلين بشكل واضح حتى تتم الصلاة.

 

مرت المكبرية بأحوال عديدة استلزمت إعادة البناء أو عمل ترميمات أو نقلا لموقعها إما بسبب عامل الزمن والأجواء وإما بسبب ظروف التوسعات التي عملت في المسجد الحرام, وهنا نستعرض أبرزها :

1- المقام الحنفي (المكبرية الأولى) 

وكان موقعه في صحن المطاف بين حِجر سيدنا إسماعيل –عليه السلام- والرواق العثماني الشمالي.

تاريخه

أحدث أول ما أحدث على أربع قوائم عليها سقف يطلع عليه بسلم, اي على شكل المكبرية التي توجد في عموم مساجد مصر وغيرها, لتبليغ الناس حركات الإمام, ووجود المكبرية أمر ضروري في كل مسجد كبير وجامع متسع, فالمقام الحنفي أول ما اتخذ كان بمثابة المكبرية للتبليغ والدليل على ذلك صورته التي هي عليها اليوم رغم تجديد التعميرات فيه بخلاف بقية المقامات, وأيضا لا يزال يرقى عليه المكبرون (أيام المؤرخ باسلامة), الذين يبلغون للناس حركات الإمام, وموقعه في طرف حاشية المطاف, مقابل لميزاب الكعبة.

سبب تسمية المكبرية الأولى بالمقام الحنفي

ويبين الشيخ الكردي سبب التسمية بالحنفي وأصلها بقوله: "لم يكن في ابتداء الأمر ينسب للحنفي, بل كان يطلق عليه لفظ (المقام) فقط, أي مكان إقامة الصلوات, أو مقام مبلغ حركات الإمام, ولما كان المقام بطبيعة الحال مسقوفا, كان إمام المسجد الحرام يصلي تحته, ولا يبعد أنه كان حنفي المذهب فنسب المقام إليه, فأطلقوا عليه (المقام الحنفي) فرقا بينه وبين مقام إبراهيم الخليل عليه السلام.

اهتمام السلاطين بالمكبرية

ونظرًا لأهمية المقام الحنفي (المكبرية) في إيصال حركات الإمام للمصلين, فقد كان مكان عناية واهتمام السلاطين, حيث أحسنوا بناءه, وأعادوا ترميمه عدة مرات وقاموا بعمل النقوش والزخارف فيه, وفيما ذكر لأهم ما جرى من أحداث على المقام بإيجاز عن المؤرخ (حسين باسلامة) :

- كان شكله سقفا على أربعة أعمدة في صدره محراب عام 801هـ .

- جدده الأمير مصلح الدين ووسعه وجعل له قبة عالية من الحجر الأصفر والأحمر الشميسي.

- أمر السلطان سليمان خان بهدم قبة المقام سنة 949هـ وشرع في بناء عظيم مربع ذو طابقين بسقف مزخرف يعلوه جملون بصفائح الرصاص, وجعل الدور العلوي للمؤذنين.

- أمر السلطان مراد خان بترخيم المقام الحنفي ومحرابه سنة 1010هـ.

- في سنة 1072هـ بنى سليمان بك والي جدة وشيخ الحرم وناظر عمارته المقام الحنفي بالحجر الصوان المنحوت والحجر الأصفر وصفح أعلى سقفه بالرصاص المطلي بالذهب.

- جدد السلطان عبدالعزيز خان بناء المقام فبدّل الصوان بالرخام واعادوا الأصفر على ما كان, سنة 1282هـ, وكانت آخر عمارة وقعت للمقام حتى عصر المؤرخ باسلامة.

هدم المقام والمكبرية

استمر تبليغ مؤذني المسجد الحرام في مكبريتهم بالمقام الحنفي حتى يوم السبت 8-10-1377هـ (أرّخه الكردي), حيث تم هدمه لتوسعة المطاف في التوسعة السعودية الأولى, وتم نقل المؤذنين إلى المقام الشافعي فوق مبنى بئر زمزم.

ويوثق لذلك مؤرخ مكة الشيخ (محمد طاهر الكردي) بقوله :

ولما صدرت الموافقة الملكية بتوسعة المطاف وهدم المقامات الأربعة في زماننا قاموا بهدم (المقام الحنبلي) أولا ثم (المقام المالكي) ثم (المقام الحنفي) وذلك في سنة 1377هـ, وكان في هذا المقام مكبرات الصوت المسماة "ميكرفونات" ليصل إلى الناس صوت الذي يقيم الصلاة, ويكبر لدى حركات الإمام, فعند هدم هذا المقام نقلوا الميكرفونات إلى المقام الشافعي الذي هو فوق بناء بئر زمزم.


2- المقام الشافعي (المكبرية الثانية)

كان المقام الشافعي المُقام فوق مبنى بئر زمزم مقرًا لشيخ المؤذنين و(آل الريّس) المؤقتين, وهم الذين كانوا يبدأوا بالأذان عند دخول الوقت ثم يليهم المؤذنين من بقية المنائر السبعة.

 

وبعد هدم المقام الحنفي لتوسعة المطاف انتقل مؤذنو المسجد الحرام إلى المقام الشافعي ليقوموا بعملية التبليغ وتكون مقرًا لهم.

ويخبر بذلك الشيخ الكردي المعاصر للحدث بقوله: وقد تأخر هدم المقام الشافعي عن سنة (1377هـ) لأنه ليس له بناء مستقل وحده كالمقامات الأخرى فهو فوق بناء بئر زمزم, فهدمه لا يكون إلا بإزالة هذا البناء ولحاجة الناس إلى من يبلغهم حركات الإمام, ومكبرات الصوت فوق هذا البناء فلا يمكن إزالته لتوسعة المطاف إلا إذا بني لمكبرات الصوت موضع خاص ثابت, ولم يتقرر ذلك لدخول موسم الحج ووصول بوادر الحجاج, ثم تم هدمه مع بناية بئر زمزم في سنة (1383هـ).

 

4- المكبرية البيضاء (المكبرية الثالثة)

  

 

تم إحداثها في صحن المطاف أمام الرواق العثماني الجنوبي للكعبة المشرفة عام 1383, وقد كانت في بادئ إنشاءها في داخل الرواق ذات باب خشبي وبدون نوافذ وتحت قبة واحدة, ثم جرى إكمال بنايتها خارج الرواق إلى صحن المطاف  وتميزت بلونها الأبيض وبقيت حتى عام 1397هـ.

 

4- مكبرية الرواق (المكبرية الأخيرة)

وفي عام 1397 بنيت مكبرية جديدة داخل الرواق العثماني في نفس جهة المكبرية البيضاء السابقة ، وتبعد عن الكعبة المشرفة 25 مترا ، وقد استمرت حتى مطلع العام الهجري الحالي 1436 ، ويجري الآن هدمها لتوسعة المطاف .

تكوين المكبرية  

تم بناؤها تحت ثماني قبب من قباب الرواق العثماني.

واجهتها الأمامية مكونة من الزجاج.

تم تخصيص قبتين للضيافة الخاصة للاستراحة والعبادة بعد الطواف أو السعي، وهما مجهزتان بالكامل من حيث توفير المصاحف الشريفة وماء زمزم.

وخصصت قبتان لمؤذني المسجد الحرام

الأمامية منها مطلة على صحن المطاف تمثل غرفة الأذان وهي مجهزة بعدد من الميكروفونات اللاقطة وشاشة لمراقبة الإمام وأخرى لمتابعة الجنائز.

أما الخلفية منها فهي تقع خلف غرفة الأذان وهي غرفة خاصة لشيخ مؤذني الحرم.

وكذلك تم تخصيص غرفة للتحكم بصوتيات المسجد الحرام ومكبراته وتعتبر هذه الغرفة مساندة لغرفة التحكم الرئيسية في سطح المسجد الحرام.

بالإضافة إلى ذلك تم جعل قبتين أخريين لوزارة الثقافة والإعلام تضم المذيعين والإعلاميين.

 

 

5- المكبرية المؤقتة

تم البدء في إنشاء هذه المكبرية عام 1433هـ وانتهى بناؤها عام 1435هـ,  كمكان مؤقت لمؤذني المسجد الحرام والإذاعة والتلفزيون, وبديلا عن مكبرية الرواق التي سيتم هدمها لتوسعة المطاف , ومكانها شرق الكعبة المشرفة بين  مقام إبراهيم-عليه السلام- والمسعى, وتم رفع أول أذان فيها في محرم سنة 1436هـ.

  

 

 

هذا وسيتم عمل مكبرية أخرى رسمية بعد الإنتهاء من توسعة خادم الحرمين الشريفين للمطاف, وسيكون مكانها في نفس موقع الحالية التي ستهدم في الرواق العثماني الجنوبي, وسيتم بناءها بشكل أكبر وأسع مما كانت عليه.


المراجع :

1- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار, أبو الوليد محمد بن عبدالله الأزرقي.
2- إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام, عبد الله الغازي المكي.
3- التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم, محمد طاهر الكردي.
4- تاريخ عمارة المسجد الحرام, حسين عبد الله باسلامة.
5- تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة والحرم وولاتها الفخام, محمد بن أحمد الصباغ.
6- حارة الشامية والحارات المجاورة لها, فوزي محمد ساعاتي.
7- توثيق شفهي من الشيخ (محمد يوسف مؤذن) مؤذن المسجد الحرام, قام به الأستاذ عبدالباسط حافظ.
8- توثيق شفهي من الشيخ (علي أحمد ملا) مؤذن المسجد الحرام, قام به الأستاذ عبدالباسط حافظ.

موضوع خاص بموقع قبلة الدنيا من إعداد : بدر أحمد بدرة , معالجة الصور: حسن مكاوي | نشر بتاريخ 1436/2/17هـ .