مكة تفتقد أولاد المطوفين

أطفال المطوفين قبل الحظر مرشدون ومترجمون ومعاونون للحجاج

تنظر المطوفة شادية بارحمة هذه الأيام إلى ساحات الحرم المكي، فلا تجد مطوفين صغارا يعملون في مهنة الطوافة مثلما كانت تعمل وهي صغيرة.


فالمطوفون الصغار غابوا عن العمل في مواسم الحج تنفيذا لقوانين حظرت مزاولة المهنة لمن تقل أعمارهم عن 18 عاما، خلافا لما كان قبل سنوات طويلة عندما كان المطوفون يفتحون أعينهم على خدمة الحجيج فيتدرجون في المهنة منذ نعومة أظافرهم ويكبرون معها ما بين الحب والعادة، إذ لا يمكن لأي مطوف أن يمر عليه عام دون أن يتأهب لأداء شرف المهنة، الأمر الذي ينعكس على أبنائه في السير على خطاه.


وأطفال المطوفين والمطوفات يخرجون للحياة على لون بياض رداء وإزار حجاج بيت الله الحرام، فيشربون كأس التطويف منذ نعومة أظافرهم، خصوصا أن موسم الحج فرصة عمل لجميع أفراد العائلة، فمن أكبرهم إلى أصغرهم يستنفرون أيام العيد الأكبر.

 

تعلم وتعليم
وهذا ما عاشته بارحمة، إذ منذ بلوغها السابعة بدأت العمل في خدمة حجاج بيت الله الحرام الذين يأتون للحج عن طريق والدها المطوف، فكانت هي وإخوتها يجلبون ماء زمزم لهم، ويجلسون في ساحات الحرم أثناء طواف الحجاج لمراقبة أحذيتهم والحفاظ عليها من السرقة والضياع وتقديم العون، الأمر الذي أكسبهم تعلم عدة لغات.


وتقول: عملنا في الطوافة منذ طفولتنا، غرس فينا تحمل المسؤولية وعلمنا كثيرا من مناسك الحج، إذ كنا نعلم الحجاج بعض الأمور البسيطة في النظافة وبعض القيم.. لكن ما كان في السابق لم يعد موجودا اليوم من نزول أبناء المطوفين والمطوفات إلى ميدان الحج للعمل.


سي دي المناسك
من جانبه، يوضح المطوف أحمد عطرجي أن عدم نزول أطفال المطوفين للعمل في موسم الحج يعود إلى القوانين التي سنت في عدم مزاولة المهنة لمن تقل أعمارهم عن 18 عاما، أو أن يكون لائقا طبيا، الأمر الذي أنهى تجربة دخول أطفال المطوفين في العمل من وقت مبكر، مشيرا إلى أنه في الوقت الحالي يتعلم الحجاج كل أمور الحج في بلدانهم، حيث يصلهم “سي دي” يبين لهم كيفية أداء النسك.


لكل دور
ويقول المطوف رامي صميلان: في السابق كان المطوف يؤدي جميع الأدوار لتقديم الخدمات للحجاج في حملته قبل وصولهم وحتى مغادرتهم، لذلك كان كل أهل بيته يشاركونه في تقديم الخدمة .. فكان الأطفال منهم هم الدليل الإرشادي بالسير مع الحجاج عند تطويفهم أو دخولهم المشاعر، وكان هناك من يتابعهم من الخلف وآخر من الجنب، وذلك لضمان عدم ضياعهم.


طوافة ودراسة
وتؤكد المطوفة وفاء بانة، أنها كانت تلازم الحجاج الذين يأتون عن طريق والدها المطوف عبدالرحمن، وأنها كانت تسير معهم خلال مسيرة الحج بشكل كامل، مشيرة إلى أنهم كانوا يرافقون والدهم للدول التي كان يجلب منها الحجاج حتى إنهم استقروا في القاهرة، حيث التحقوا بالجامعات. وتقول: كانت فترة الإجازة في الجامعات لا تتجاوز أسبوعا، وكنت وإخوتي حينها نأتي قبل يوم عرفة، من القاهرة إلى مطار جدة، ومباشرة إلى مكة المكرمة وعند وصولنا ننتقل بالباصات إلى المشاعر المقدسة.


ترجمة ولغات


ويبين المطوف طيب بخاري أن أطفال المطوفين كانوا يقدمون خدمات كثيرة للحجاج، إلا أن أكثرها هي في الترجمة بعد اكتسابهم للغات من خلال ملازمتهم للحجاج، إذ من ضمن أعمالهم في الحج كانوا مترجمين ما بين الحاج والبائع في حال الرغبة في التسوق، إضافة إلى مرافقة الحجاج إلى المواقع التاريخية وإعطائهم نبذة عنها واصطحابهم للحرم والعودة منه وكل الأمور البسيطة التي يمنحها المطوف لابنه ليكسبه المعرفة والخبرة.

 

.. وأول مطوف كان قاضيا ثم توارث المهنة أعيان مكة

تجرع كثير من المطوفين مهنة الطوافة من نعومة أظفارهم، إذ إن كثيرا منهم فتح عينيه على الحياة ليجد نفسه مطوفا، إذ كان أحد أهم الشروط التي كان يستند عليها أوائل المطوفين تزويج بناتهم لمطوفين.


إلا أنه مع مرور الزمن، تغيرت العادات ولم تعد بعض الفتيات من المطوفات يرغبن في الاستمرار بهذه العادة، إلا أن مهنة الطوافة ظلت بين أيد أمينة، منذ نشأتها في العهد العثماني لتقديم خدمات أداء النسك لحجاج بيت الله الحرام حتى عهدنا الحالي.


وتتحدث كتب عن تاريخ مهنة التطويف، موضحة أنها بدأت في عهد المماليك الأتراك والشراكسة عام 884 هـ، إذ إنهم بحكم جهلهم اللغة العربية وميلهم إلى الأبهة والبذل كانوا يفضلون أن يعتمدوا على من يخدمهم ويدلهم على كيفية أداء مناسك الحج ويتلو أمامهم أدعيته.


وذكر أن السلطان قايتباي حج عام 884 هجرية ولم يحج من ملوك الشراكسة غيره، وأن القاضي (إبراهيم بن ظهيرة) تقدم لتطويفه وتلقينه الأدعية، ولم يذكر المؤرخون مطوفا قبل القاضي كان يلقن الحجاج في مكة.


عهد الشراكسة
واتسع نطاق مهنة الطواف التي ابتدعت في عهد الشراكسة، قليلا في أوائل العهد العثماني، لأن أمراء الأتراك ورؤساءهم كان لا بد لهم من أشخاص يطوفونهم، وكان أول مطوف عرف في عهد الشراكسة قاضيا في مكة.


وفي العهد العثماني خرجت الطوافة من سلك القضاة قليلا إلى بعض الأعيان في مكة، فظهر اسم محمد العياس، وهو، كما تذكر كتب التاريخ، من الوجهاء المتفقهين من أهالي مكة.


وتشير كتب التاريخ إلى أنه على إثر شيوع البواخر ومساهمتها في نقل الحجاج عام 1291هـ، اتسع نطاق الطوافة وزاد عدد المطوفين بعض الشيء، وكان أمراء مكة يخصصون بعض (المطوفين) لطوافة جهات خاصة من الآفاق بموجب تقرير يوقعه أمير مكة.


ويقول المطوف أحمد عطرجي: معروف للجميع أن أهالي مكة منذ القدم وحتى الآن يتصفون بالعلم والأدب، وهذا ما يؤكد أن المطوفين السابقين الذين حصلوا على شرف الطوافة تمكنوا من الحصول عليها لعلمهم ومقدرتهم على تعليم الحجاج نسكهم، خاصة أنهم بسطاء في ذلك ولا يأخذون إلا الشيء البسيط، ويقومون بخدمة الحاج من بلده حتى عودته إليه مرة أخرى.

 

.. وتوريث أبناء المطوفات بين المال والأحقية

أوضحت مصادر في وزارة الحج  أنها بصدد الانتهاء من الدراسة المتعلقة بتحديد العلاقة بين أبناء المطوفات ومهنة الطوافة وما سيتم في إمكان توريث المطوفات لأبنائهن من عدمها وصلاحية التوريث ما بين المال وغيره.


وأوضح المطوف طيب بخاري أن التنظيم الذي يدرس حاليا سيحدد العلاقة بين الطرفين، مشيرا إلى أن هناك حقوقا لأبناء المطوفين والمطوفات من حقهم الحصول عليها، إلا أنني ضد أن يكون هناك دخلاء على المهنة وعدم اكتسابهم الخبرة المطلوبة.


من جانبها، قالت المطوفة شادية بارحمة: نرفض توريث المطوفات خوفا على مهنتنا من الضياع، حيث كان في السابق يتم تزويج المطوف على مطوفة، إلا أنه الآن تتزوج المطوفة من خارج الطائفة. فمثلا هناك مطوفات متزوجات من أمريكيين، فلو حق لهم التوريث فسيدخل أناس ليسوا أيضا من الدولة على أقل تقدير، وكذلك يمكن أن يعود هذا الشخص إلى ديانته السابقة ومعه أبناؤه، فكيف يمكن أن نسمح بذلك؟
وتلفت إلى أن وضع الوكلاء صعب جدا وجور بحصولهم على ثلاثة أرباع الحصة ومنح المطوفة على ربع، خاصة في حجاج دولنا بعدم منع النساء من العمل كمطوفة ما يعد ظلما وجورا من المطوفين.


في حين طالبت المطوفة وفاء بضرورة التوريث المالي لأبناء المطوفات ففي حال عدم زواج المطوفة من مطوف فإنه عند وفاتها يتم توزيع حصتها على إخوانها، بينما من المفترض أن يتم منحها لأبنائها كحق مشروع لهم ولا يعني بذلك أنهم يتوارثون المهنة بل فقط التوريث المالي حتى وفاتهم.


ويؤكد المطوف رامي صميلان أن من حق أبناء المطوفة عدم الحرمان من شرف خدمة حجاج بيت الله الحرام، بحيث يكون وكيلا عن والدته لكنه لا يحق له التوريث بحيث عند وفاته لا تمنح لورثته، ملفتا إلى أن ذلك يعود إلى عدم تناسب الخدمات على ما تعودنا عليه، إذ إن الدخلاء ليس لهم خلفية للطوافة مما سيؤدي إلى ضياع المهنة.

 

المطوفون في رعاية آل سعود

كان من الشرف الذي توَّج رأس المطوفين، عناية المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه، بهم وقد سار بعده أولاده على نهجه. فكان أول مرسوم ملكي (أصدره الملك عبدالعزيز) بعد دخوله مكة 1343هـ منشورا لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز الحاضر منهم والبادي وقد نصت المادة الرابعة منه على ما يلي:
(كل من كان من العلماء في هذه الديار أو موظفي الحرم الشريف أو (المطوفين) ذا راتب معيَّن فهو له على ما كان عليه من قبل إن لم نزده فلا ننقصه شيئا إلا رجلا أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه فذلك ممنوع مما كان له من قبل. وكل من كان له حق ثابت في بيت مال المسلمين أعطيناه حقه ولم ننقصه شيئا).


وتقول المطوفة شادية بارحمة “إنني من المعاصرات لمهنة الطوافة منذ نعومة أظافري، كنت أرافق والدي ووالدتي بحكم أنهما مطوفان، حيث إن مهنة الطوافة والخدمات تتقدم من عام إلى عام، وحكومتنا الرشيدة بفضل من الله لا تدخر جهدا في خدمة حجاج بيت الله الحرام وتسهيل كل العقبات التي تواجههم وتواجه المطوفين لتيسر عليهم أداء الخدمة”.

المصدر :صحيفة مكة 1435/11/22هـ  / حاتم المسعودي